آراء ومواقف
أخر الأخبار

واجبات الجاليات المسلمة المقيمة بالمهجر تجاه المجتمعات المُضيفة (مغرب التغيير – الدار البيضاء 30 نونبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 30 نونبر 2023

بدايةُ، وحتى لا نذهب بعيداً في نقاش لا جدوى منه، حول مَن هو مؤمن ومَن هو كافر، علينا أن نُذَكِّرَ هنا بأن الانتماء إلى الإسلام في حد ذاته، يُفتَرَضُ أن يضعنا مبدئياً على قدم المساواة، مع كل أتباع الديانات التوحيدية، بغض النظر عمّا يُداريه أتباع مختلف الأنبياء في أعماق نفوسهم، من اعتقادات قد تُفسد لودِّ الإيمان السّليم قضيتَه.

إننا غيرُ معنيين بمن يُشركُ في قرارة نفسه المسيحَ أو العُزَيْرَ أو زرادشت أو بوذا أو غيرَه، مع الله، لأن قرارة النفس لا يعلم خائنتها إلاّ هو سبحانه.[1] وكل ما يهمنا، ويَلزمُنا بالتالي اعتبارُه ومراعاتُه، إنما هو واجب التعامل مع الآخرين من منطلق المفهوم الكوني والفطري  للإسلام. وحتى في حالة إلفائنا أنفسَنا إزاء مُخاطَب من الخندق الآخر، كافر أو مشرك أو ملحد، جاهل أو ظّالم متجبّر، فما علينا إلاّ التمسك بأوامر الله، التي ليست لنا فيها الخِيَرَة من أمرنا، والتي تفرض علينا ممارسة الخطاب بـ”الحكمة والموعظة الحسنة”، وبـ”الدفع بالتي هي أحسن”،[2] أمّا الباقي فحسابه لا يعنينا في شيء، بل هو على الله، الذي سيحكم بيننا فيما كنا فيه مختلفين.

هسبريس

هذا مجرد تذكير فحسب، وبالتالي فهذا يحظر علينا أن ندّعي الغيرة والحمية فنحاول، كما فعل المتشددون دون وجهٍ حق، أن نحل محلّ الله ونحكم من تلقاء أنفسنا على من نختلف معهم في العقيدة والفكر والمذهب، فنكون بذلك بمثابة الخصم والحكم في آن واحد، ضدّاً على قول الله لرسوله: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».[3]

من هذه المنطلقات الفكرية ِإذَنْ، نأتي إلى مناقشة موضوع هذا المقال، الذي يبدو من خلال هذه المقدمة اليسيرة أنه قد يضعنا على طرفي نقيض مع بعض المتشددين الذين حكموا من تلقاء أنفسهم على العالم كله بالخلود في نار جهنم، باستثناء جماعاتهم المحظوظة!!

الإسلام لم ينتشر بالإكراه رغم الفتوحات:

إن الباحث في التاريخ الإسلامي، بشرط الأمانة والموضوعية، سيلاحظ أن انتشار الإسلام، حتى في البلاد التي فتحها المسلمون بالقوة، لم يكن بالإكراه، بل كان الناس يعيشون برهة تحت حكم المسلمين في هذه البلاد، أو يتعاملون مع التجار المسلمين في غيرها، ثمّ سرعان ما يعتنقون الإسلام من جرّاء ما يلمسونه في معاملة مخاطِبيهم من حكمة وعدل ورحمة وإنسانية.

إن كثيراً من الناس لا يزالون في عصرنا الحاضر يعلنون إسلامهم، في بقاع مختلفة من العالم، بعد تجارب مؤثّرة في علاقتهم بالمسلمين، أو على إثر إقامتهم في بلد مسلمٍ ردحا من الزمن، رغم كل الشوائب العالقة بفهم المسلمين أنفسِهم لدينهم، فضلا عن سلوكاتهم وأوضاعهم العامة التي لا تُفْرِحُ لشديد الأسَف أحداً من العالَمين.

إنّ هذا يحيلنا على القول: إنّ الجاليات المسلمة المغتربة في وُسْعِها أن تصير مصدر إشعاعٍ إسلامي، في مجتمعات الغرب خاصةً، لأن هذه المجتمعات أقرب وأكثر احتكاكاً بالعالم المسلم، وأن تُشَكِّلَ منبرا لكسب صداقة الغربيين وتعاطفهم واحترامهم، شريطة أن تكون في ذلك أسوةً حسنة… وتلك هي المعضلة!!، التي يتطلب فكّها أن تحرص الجاليات المسلمة المهاجرة على بعض القواعد في السلوك والتعامل من بينها:

إقامة أواصر الجوار الإسلامي مع غير المسلمين:

إن  الخطاب القرآنيّ يفرض علينا أن نعامل الجار المسلم وغير المسلم على قدم المساواة ما لم يكن هناك أي اعتداء أو عدوانية من طرفه، وبالتالي فعلى الجار المسلم أن يتميّز عن صنوه غير المسلم بآصرة الأخوة في الله.[4]

ولو أن الأسر المسلمة التزمت على الدوام، وفي كل الظروف، بواجب صيانة حقوق الجوار فيما بينها وتجاه غيرها، في بلاد الغرب عامةً، لكان ذلك كافياً لإحداث قدر لا يستهان به من التأثير الإيجابي على العلاقات بين الطرفين، بالإضافة إلى تحسين ملحوظ لصورة الإسلام لدى المسلمين في المهجر، بالرغم ممّا أفسده المتشدّدون، وبالرغم من تعوّد الإنسان الغربي ذاته على منطق الحقوق والواجبات بمفهومها العلماني الضيق، حيث أن علاقته مع أقربائه، بل حتى مع أبنائه، تكون مطبوعة فقط بتبادل المنافع.

لذلك، فإن مبادرات بسيطة كالتحية، وإبداء الاهتمام، وإظهار الرغبة في المساعدة، أو المبادرة إلى إهداء طعام أو حلوى في مناسبة دينية عامّةً، أو إسلامية خاصةً، أو نحو ذلك من مظاهر حسن الجوار، التي لا يتبعها طمعٌ، ولا مَنٌّ ولا أذى، ولا تطفلٌ على الخصوصيات… نقول، إن مثل هذه المبادرات اليسيرة، من شأنها أن تفتح البصائر والقلوب رويداً رويداً، وتجعلها تقلّب الفكر في مسألة الإيمان، وخاصة أنها تعيش في مجتمع غربي هو في أمسّ الحاجة إلى الدفء في العلاقات الإنسانية، وفي زمنٍ تتطوّرُ فيه منظومتُه الثقافيةُ والتربويةُ في اتجاه سلبي معاكس!!

تقديم القدوة الحسنة ابتداءً من الذات:

إننا، إذا استثنينا بعض المثقفين والعلماء الغربيين الذين استطاعوا دراسة العقائد والثقافات بموضوعية وإنصاف، فإن الرأي العام الغربي لا يحكم عادةً إلا بما يشاهده ويسمعه، وهذا يفسر إلى حد ما، الموقف السلبي لمعظم الغربيين من أعلب المسلمين أولاً، ثم من الإسلام بتحصيل الحاصل.

إنّ سلوكيات قطاع عريض من أفراد وأُسَر الجالية المسلمة في المهجر يجر عليها استهجان المحليين في أحيان كثيرة. وردود الفعل هذه تستغل أبشع استغلال من بعض الاتجاهات السياسية، وخاصةً اليمينية المتطرفة، فتجعل المهاجرين كبش فداء، ويزيد الطين بلة، اللوبي الإعلامي المتطرف، الذي يتفنن في طمس حسنات المسلمين، وتضخيم مساوئهم وأخطائهم، ولهذا كان من أوجب الواجبات على الأسر المسلمة المهاجرة أن تحرص على تقديم صورة مشرفة عن ذاتها في جميع المجالات، وخاصة منها مجالات الاحتكاك اليومي المباشر بمواطني البلد المُضيف.

لقد لاحظ الباحثون أن عددا متزايدا من أبناء الأسر المسلمة، في المهجر، شرعوا في الولوج تدريجياً إلى مناصب ووظائف ينظر الناس إليها عادة بتقدير واحترام، كما أن بعضاً منهم نجح في الأعمال الحرة والتجارة والفن والرياضة وغيرها، مما فتح له الأبواب على مصاريعها ليكون في مواقع مؤثّرة، وربما صانعة للقرار، كما هو شأن بعض الوزراء والبرلمانيين والمنتخبين المحليين، وأن يقدّم بفضل ذلك صورة مشرقة.

بيد أن من المؤسف أن هؤلاء، المتميّزين، قلما ينظرون إلى أنفسهم بشرف الانتماء إلى الإسلام، لأنهم غالباً ما يكونون متأثرين بالمفاهيم والأعراف السائدة في مجال أعمالهم ووظائفهم، وفي علاقاتهم برؤسائهم في العمل ومرؤوسيهم أو مساعديهم، أو زبائنهم، فلا يخططون لأبعد من تحقيق الفاعلية الإدارية أو الربح المادي. ولهذا فقصارى ما يحققه هؤلاء من المكاسب، إنما هو انسجامهم مع فريق العمل في أداء مهمتهم أو اكتساب سمعة تجارية طيبة داخل البلد المضيف أو خارجه، بعيداً عن أي علاقة بواجب الدعوة.

إنّ مِن بين أفراد الجاليات المسلمة، أيضاً، مَن يحتاجون إلى استيعاب أبسط الآداب الاجتماعية، كصِيَغ التحية والمخاطبة، واحترام الدور في صفوف الانتظار، في الإدارات والمتاجر والمطاعم، واحترام أولوية المرضى والعجزة وذوي الحاجات الخاصة، مع الحرص دائماً على نظافة الجسم، والهندام الحسَن، في جميع المحلات المرتادة.

ثم هناك بصورة خاصة، شباب من الجيلين الثاني والثالث وما يليهما، ممّن يحتاجون إلى توجيهات تدفعهم إلى احترام القانون، وتعلو بهممهم إلى طلب العلم والتفوق في الدراسة، والتميّز في الشغل، وتجنبهم نزعات التمرد والعنف وتعاطي المخدرات، وغيرها من الموبقات التي عادة ما ينقلونها عن المتمردين الصغار من أبناء البلد المضيف.

لا مناص كذلك، لإنجاح هذا التوجه، من التصدي لبعض الأفكار السلبية التي رسّخها المتشدّدون والمتطرّفون، من المسلمين أنفسهم، في أذهان طائفة من المهاجرين، كاعتبار الغرب “دار حرب” أو “دار كُفر” واستباحة معاملة الغربيين بالغش والخداع عن قصد؛ وكالفهم الخاطئ والداعي إلى اجتناب التشبه باليهود والنصارى، واختزال الإنسان الغربي في صورة المادي الإباحي، العنصري، والتغاضي عمّا لديه من الإيجابيات التي يمكن جعلها نُقَط التقاء وتقارُب معه بدون أدنى حرج.

إن الذي لا ينبغي نسيانه، في هذا السياق تحديداً، هو أن صورة الجالية المسلمة لن تصبح مشرقة عند الغربيين ما لم تكن مشرقة في ذاتها، لأنها إذا كانت منخورة بالآفات الخُلُقية، فلن يتسنى لها أن تقدّم أيّ إشعاع إيجابي، وحتى لو صدر منها تجاه المجتمع الغربي ما يحمد لها بسبب حياء أو حمية أو يقظة ضمير عابرة، فإن أثر ذلك سرعان ما يتبخر، لأنّ الشجرة لا تحجب الغابة أبداً.

الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة:

إنّ السلف الصالح، إذا كانوا قد تكبدوا مشاق القتال بعيدا عن الأوطان، أو السفر إلى أقاصي الأرض ليفتحوا لهذا الدين آفاقا جديدة يرتادها، فإن الجاليات المسلمة في الغرب محاطة بملايين من البشر ممن يفترض أن تصلهم دعوة الإسلام ورسالته. وهؤلاء أنفسهم إذا فهموا هذا الدين حق الفهم، فإنهم سيصبحون قاعدة نشيطة في نشره والتمكين له في محيطهم، والواقع شاهد على ذلك.

ولكي تكون هذه الجاليات فاعلة، ومؤثرة، ينبغي أن يصاحبها انفتاح على الأنشطة الثقافية والاجتماعية والتربوية العامة في بلاد المهجر، من أجل استيعاب عقلية الغربيين، ومعرفة الأولويات في مخاطبتهم من جهة، ولتكريس انفتاح الأسر المسلمة وتمكينها من اكتساب رصيد جيد من الخبرة بالطرق والوسائل الحيوية والمتجددة في الاتصال بالناس ومعاملتهم من جهة ثانية.

من الضروري إذَنْ، في هذا المجال بالذات، أن يحصل التعاون وتبادل الاستشارات والخبرات بين النشطاء، من أبناء الجاليات المسلمة في الغرب، وبين المراكز والمؤسسات الإسلامية، لأن هذه الأخيرة ليس في وُسْعِها أن تتابع الجهود الفردية، ولكنها تستطيع أن توجهها وتساعدها بالمتاح من الوسائل، كالنشرات التعريفية، والكتب المترجمة، والمجلات، والأشرطة السمعية والبصرية.

وبالمقابل، يمكن لتلك المؤسسات أن تستفيد من مجموع خبرات الأفراد والأسر، في بلورة تصور واضح لمنهج التعامل المنتج تجاه المجتمعات الغربية، ومراعاة خصوصياتها واحتياجاتها في كل بلد وكلّ ثقافة.

ومن نافلة القول، التأكيد على أن قيام الجاليات المسلمة بواجباتها نحو المجتمع الغربي، يتطلب تضحياتٍ جليلةً وجهوداً دَؤوبة وصبرا جميلاً، ويستوجب تَحَلِّياً بأخلاق الحوار الراقية مهما كانت ردود الفعل سلبية أو عدائية.[5] وإنّ وصول الجاليات المسلمة إلى هذا المستوى، يبقى رهيناً بنجاح الجهود التربوية التي ينبغي بذلها داخل النسيج الاجتماعي للجاليات نفسها… وهذا شأن آخَر يحتاج إلى وقفة أخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير.

[1]  عافر- 19: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾.

[2]  النحل – 125: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.

[3]  يونس – 99.

[4]  النساء 36: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾. وفي حديث صححه الشيخان أن الرسول أوصى بالجار “حتى كاد أن يورثه”.

[5]  فصلت – 34: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى