آراء ومواقف

أي صنف من الفقهاء هؤلاء المساكين؟.. “رؤية الله يوم القيامة”!! (مغرب التغيير – الدار البيضاء 16 غشت 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 16 غشت 2024        ع.ح.ي.

الآراء والأفكار المعبَّر عنها في هذا الباب لا تُلزِمُ هذه الجريدة

من اعظم المصائب التي ابتُلي بها بعض فقهائنا، من السلف والخلف، ومازالوا على ذي الحال، أنهم لا يدركون وبالتالي لا يميزون الفارق “المجرد” بين النسبي والمطلق، لأن عقولهم الناقلة لا تستطيع استيعاب المجردات، فبالأحرى أن تَسْتَكْنِهَ معنى المطلق، وبذلك يتمثلونه كالنسبي ولكنه أكبر منه بالقدر الذي تطيقه عقولهم، رغم أنهم إن سألتهم عن كنه المطلق سيقولون لك إنه لا نهائي، وأزلي، وسرمدي، وبلا حدود على الإطلاق… فلا يقفون عند أمثال هذا الوصف التعظيمي والتضخيمي إلا إذا أعوزتهم الألفاظ والاصطلاحات!!

سأدعو هؤلاء إلى متابعتي ولكن، بعد استحضار “السبورات اليدوية” و”الخشيبات”، لأنني سأحاول تبديد بعضٍ من قصورهم خطوةً خطوة وبكل الهدوء الممكن!!

أولاً: إن النسبي لا يمكنه أن يحيط سوى بالنسبي، فإن كان الأول مثلا من الأحياء ويتمتع بحاسة النظر فإنه بستطيع رؤية الثاني والإحاطة به كليا إن كان أصغر منه كتلةً وحجماً، أو كان أكبر منه بقدْر نسبي، كرؤيتي للكأس أمامي والإحاطة به وهو مني أصغر، ورؤيتي للسيارة والإحاطة بها وهي منّي – نسبياً – أكبر؛ فإن تعدى حجم النسبي الأكبر مجال الرؤية كأن تطال مساحته الآفاق، فإنه يبقى رغم ذلك قابلا للرؤية، بفضل نسبيته، ولكنها تكون رؤية جزئية ومُبَعَّضة، لا ترافقها الإحاطة كما في الحالة السابقة، ولكنها تبقى رؤية بالعيان رغم انتفاء شرط الإحاطة، مثل رؤيتي للبحر، الذي تمتد مساحة الرؤية فيه إلى الأفق وليس أكثر، ولكنني أنظر إليه وأراه.

ثانيا: إن المطلق هو نقيض النسبي من جميع الجوانب والمعاني والدلالات، وبالتالي فالمطلق لا شكلَ له ولا حجمَ ولا كتلةَ ولا لونَ ولا رائحةَ ولا يشبهه أي شيء مهما كان جوهره أو مظهره، لأن المطلق فوق الجوهر وفوق المظهر، وفوق الكُتَل والأحجام والأشكال، وفوق التعدد والتنوّع والاختلاف!!

يَنتج عن هذه الحقيقة المجردة ان المطلق لا يمكن أن يكون منه اثنان أوأكثر، كما يستحيل أن ينقسم أو يتجزّأ، وبالتالي فهو واحد أحد فريد ومتفرد في ذاته وصفاته!!

يَنتج عن هذا، أيضا، أن المطلق يمكن أن يَخلق النسبي ويُنشئه في أي صورة يشاؤها، وأن يجعل منه أمثالاً متعددة ومتنوّعة في نسبيتها، ولكنه لا يجوز ان يخلق مطلقا مثيلا له لأن ذلك محال، مادام هو متصفا بالوحدة والوحدانية والإطلاق، والإطلاق بالذات صفة لا يجوز أن يثنّيَها مُثَنّي أو يُعدِّدَها مُعَدِّدٌ أو يجمعها جامِعٌ، لأنها هي “الكل” الذي لا كُلَّ قبلَه ولا بعدَه ولا معَه!!

ثالثاً: نأتي الآن إلى صلة النسبي بالمطلق من جهة النسبي، بعد أن عاينّا تلك الصلة، أعلاه، من جهة المطلق، عند قولنا إن هذا الأخير يخلق الآخر ويشكّله كيف يشاء.

إن النسبي لكي يدرك المطلق ويحيط به ينبغي بالوجوب أن يكون مطلقا مثله وهذا محال، لأن وجود الاثنين معا سيفقدهما صفة الإطلاق ويحولهما معا إلى شيئين محجّمَيْن وبالتالي نسبيين يتقاسمان حيّزا زمكانياً أكبر منهما بالبداهة، وهذا أيضاً محال، وقد سبق القول إن المطلق لا تسري عليه التثنية ولا الجمع ولا التجزيء والتبعيض ولا الإحاطة!!

يَنتج عن هذه الحقيقة المجردة أن النسبي يستحيل عليه إدارك المطلق أو مشاهدته أو الإحاطة به، ويستحيل عليه بتحصيل الحاصل إدراك جزء أو بعض منه لأنه كُلٌّ كاملُ في كليته وكماله ولا توجد له أجزاء بأي معنى من المعاني!!

رابعاً: نأتي الآن إلى الإنسان من حيث كونُه نسبياً، ومتّصفا في جميع حالاته ومقاماته بالنسبية، لنَفهم بالخشيبات أنه لا يسعه إدراك المطلق كلاًّ أو بعضاً لأن ذلك محال، ولأن دونه شرطيْن مستحيلَي التحقق:

1. أن يكون الإنسان مطلقاً في كينونته وفي نظره وبصره وعقله وفهمه… وكل ذلك محال (علما بأن النظر يكون بعيني الرأس، والإبصار بعين البصيرة)؛

  1. أن ينزل المطلق إلى مقام النسبية حتى يتسنى للإنسان أن يدرك أو يحيط بجزء أو بعضٍ منه… وهذا أيضا محال.

والنتيجة؟ أن الإنسان بنسبيته يستحيل عليه رؤية أو إدراك أو تصوّر المطلق مهما حاول ومهما فعل ولو على سبيل التصوّر والتخمين فحسب… وهذه مشيئة الله ولا دخل للإنسان في إقرارها أو تعديلها أو تغييرها، لأنها من سنة الله، “فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا” (فاطر-43)!!

نعود الآن إلى الفقهاء من السلف والخلف، القائلين بإمكان رؤية الله يوم القيامة، أو بعدَه، مستدلين على ذلك بآيات أساءوا فهمها كعادتهم في التعامل مع آيِ الذكر الحكيم!!

من تلك الآيات، قول الله تعالى في الآية 23 من سورة القيامة: “وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة”… وفسروها “بالنظر بالعيان إلى رب العزة”، سبحانه وتعالى عن ذلك مطلق العلو، علماً بأن لفظ “ناظرة” يشير في سياق الآية إلى معنى “الانتظار” و”الترقب”!!

إن النظر بعيني الرأس إلى الحق جل وعلا، يستوجب أن يكون الحق مجسَّداً حتى ينعكس عليه الضوء فتتيسر رؤيته؛ وأن يكون محدود الكتلة والحجم والأبعاد؛ وأن تكون له إحداثيات في الفضاء والمكان؛ وأن يسري عليه الزمان حتى يتجلى أثناء لحظة الرؤية أو قبلها أو بعدها… وكل هذا محال في حق رب العزة، الذي يملأ “وجوده الواجب” كل الفضاءات والأزمنة والأمكنة لأنه متصف بالإطلاق والكمال… فهو المطلق الفرد الذي ليس كمثله شيء، وبالتالي فهو لا تدركه الأشياء التي هي كلماته ومخلوقاته!!

ثم إن رؤيته أيضاً بعين البصيرة مستحيلة هي الأخرى لقوله تعالى وقوله الحق، في الآية 103 من سورة الأنعام: “لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير”… فأثبت بذلك أنه يدرك ما تجيش به البصائر دون أن تدركه البصائر… فالرؤية المستحيلة هنا تتعلق بعين البصيرة وليس فقط بعينَي الرأس، والرؤية بالبصيرة أعمق وأصدق وأدق… وبالرغم من ذلك فعين البصيرة لا تطيق رؤية الحق جل جلاله لاستحالة ذلك بالمطلق، ولا حاجة بنا إلى توضيح معنى “الاستحالة المطلقة”… فسبحان الله الحي الصمد!!

وهناك آية أخرى يستدلون بها على جواز تلك الرؤية المستحيلة، وهي قوله تعالى في الآية 22 من سورة الفجر: “وجاء ربك والملك صفا صفا”… فلم ينتبهوا لقصر نظرهم وجهلهم بلسان القرآن، “اللسان العربي المبين” الذي لا يشبه لغة المعاجم، إلى أن الذي “سيجيء” يومئذ هو أحد الملائكة العظام من الملأ الأعلى، وهو الملَك المكلف من لدن الله الواحد الأحد بتدبير ذلك المشهد من يوم القيامة، لأن الآية تقول “جاء ربك” ولا تقول “جاء إلهك”… ولم يستحضروا أن الله عز وجل، لكونه مطلقاً، فإنه يستحيل أن “يجيء” أو “يذهب” وهو الحاضر كلياً في كل زمان ومكان بلا أدنى استثناء، ومن ثَم فهو سبحانه ليس المعنيّ بفعل “المجيء” مطلقاً… وهذا موضوع مختلف يحتاج منا إلى وقفة أخرى في مقال آخر!!

لقد ذهب بعض المفسرين في تحايلهم على النص إلى درجات من الفذلكة والمراوغة جعلتهم يقولون باختلاف الخلقة الإنسانية واختلاف قدراتها وملكاتها في الدار الآخرة… وعلى افتراض أن قولهم هذا فيه شيء من الحقيقة، فإنه يبقى بلا إدنى أثر في هذا المجال، لأن الله “ثابث في ذاته وصفاته” سواء في حياتنا الدنيا أو الآخرة… وبالتالي فاستحالة استجابته للرؤية ولشروطها التجسيدية والتشبيهية والتجزيئية تظل مستحيلة مطلق الاستحالة، مهما بلغ الإنسان الأخروي من القدرات والمواهب والكفاءات بفعل خلقته الأخروية المتطوّرة والمكتملة افتراضاً… فلا مجال إذَن للمزايدة بمثل هذه الادعاءات الفارغة، فمهما تغيرت خِلقةُ الإنسان هناك وتعاظمت وتجاسرت مَلَكاتُه فإنه سيظل تحت رحمة إله ثابت في كماله المطلق وفي استحالته على كل أشكال الوعي والإدراك الإنسانيَيْن، وعلى الرؤية بتحصيل الحاصل!!

نهايته… نحن أمام عقول قاصرة بلغ القصور منها أشدّه لقولها بجواز رؤية الحق يوم القيامة، وهي الرؤية التي يستحيل تحققها إلا بأحد شرطين اثنين؛ ان يكون الإنسان مطلقاً في ذاته وصفاته؛ أو أن يكون الحق جل وعلا نسبياً في تلك الدار حتى يتأتى تجسيدُه وتشبيهُه والإحاطةُ به وبالتالي رؤيتُه… وكِلا الشرطَيْن محال!!

عفا الله عن هؤلاء الفقهاء المساكين وتداركهم برحمته وغفرانه… وللحديث حتما بقية!!!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصدر صورة الواجهة: فيسبوك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى