الإفتاء في زمن الكوارث والأوبئة.. “وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين” (مغرب التغيير – الدار البيضاء 4 يناير 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 4 يناير 2024
كالعادة، التي ابتُلي بها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يأبى بعضهم إلا أن يحشر نفسه على واجبٍ من الدقة والخطورة بمكان، هو واجب “الإفتاء”، الذي يختص به “العلماء” دون أغيارهم. و”العلماء” هنا لا يراد بهم فقط فقهاء الدين، وإنما يُراد بهم فقهاؤه الملمّون بما يكفي من “المعارف” و”العلوم” الأخرى، حتى يستطيعوا إبداء رأي الشرع في أمور لها صلة أيضا بالكون، والطبيعة، وعلوم الفضاء، وعلوم الأرض، وبالنفس الإنسانية، وببعض أسئلة التكنولوجيا، ولها كذلك علاقة بالعقل… وما أدرانا ما العقل. فهل لدينا ما يكفي من هذا الصنف من العلماء، أو “الفقهاء/العلماء”؟.. لا نعتقد ذلك بدليل هذا الذي حدث وما زال يحدث وسيظل كذلك بين صفوفنا، وأمام أبصارنا، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً!!!

المناسبة، وهذه على سبيل الذكرى لأن الأمر قد يتكرر مستقبلاً، أن بعضهم خرج إلينا، في بداية فترة الحجر الصحي التي تقرر العمل بها أثناء تفشي وباء كورونا، بفتوى أداء صلاة العيد في البيوت اضطرارًا. ولا يدري المرء ما يبرّر هذا الاضطرار إذا كانت صلاة العيد مرهونةً بشروط دقيقة لا تقل قيد شعرة عن عمومِ شروط صلاة الجماعة، كالمسجد أو المصلَّى، والإمام والمأموم، ولَمّ الصفوف، ورصّها وتسويتها، بمعنى تواصل الأجساد عبر المناكب والأكتاف، وتوحيد نية أصحابها وحركاتهم وجمع هممهم حول نفس الغاية، تماماً كما في صلاة الجمعة بلا أدنى فارق أو استثناء.
يبدو أن الوضع سيّئ للغاية، حين نرى أئمة وفقهاء يظهرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي “لتضبيع” الناس وليس “لتنويرهم” حول طريقة أداء صلاة العيد في المنازل جماعاتٍ أو فُرادى. كما أفتوا بالأمس، بنفس مناسبة الحجر الصحي، بجواز أداء صلاة التراويح وصلاة الجمعة جماعةً عن بُعد، باتّباع إمام لا يصلهم إلا صوته عبر مذياع، أو صوته وصورته عبر شاشات. ولا ينتبه أحد من هؤلاء إلى أنه يَضِلُّ هو نفسُه ويُضِلّ غيره، وأنه يتحمّل في ذلك عبئا ثقيلا لا قِبَل له به، لا يختلف في شيء عن عبء ومسؤولية نجّارٍ يتقمّص دور الطبيب فيوشك أن يقتل متعمِّدًا نفسًا بغير نفس، أو خضّارٍ يتنكّر في جُبَّة مهندس فيوشك أن يُقيم بناءً بغير أسس لا يلبث أن يهوي على رؤوس ساكنيه… وما أكثر أمثال هؤلاء في صفوفنا، من المتدخلين فيما ليس لهم به علم!!!
المصيبة العظمى ليست ها هنا فحسب، بل هي في توفر مؤسسة منوط بها همُّ الإفتاء ولكنها وقفت ساعتئذٍ، وتقف في كثير من الحالات المماثلة متفرجةً كأيها الناس، بدلا من إقامة الدنيا فوق رأس كل مَن يُفتي في أمور الدين والشرع خارج حُرُمِها ومراقبتِها الصارمة لكونها مؤسسة دستورية لها كامل الصلاحية. هذا، إذا لم يكن من بين أعضائها هي ذاتها أمثال هذا الإمام، الذي يغلب الظن أنه سمع من غيره أو طالع كتابا يتيمًا من الكتب الصفراء أو كتب الرصيف دون أن يكلف نفسه عناء البحث والتنقيب في القرآن، وفي أمهات الكتب، لكي يتعلم أسرار صلاة الجماعة وشروط صحتها، خاصةً وأنه يعلم أن رقاب عباد كثيرين ترتهن بإشاراته وإرشاداته… ويغلب الظن أن مثل هذا الإمام لا يعي سُوءَ عمله لنقص في التكوين النظامي والذاتي لديه، وهذه مصيبة بنيوية تحتاج إلى وقفة أخرى.
كم هي مسؤولية عظمى، مسألة استعمال آلية الفتوى هذه، وما أحوجنا إلى منع استعمالها واستغلالها عن أي نفر لا ينتمي إلى مؤسسة الإفتاء، أو لا يتوفر على إذن صريحٍ وواضحٍ من لدن هذه المؤسسة للقول في شأن من الشؤون الدينية بالتعيين والتحديد، وليس في أي شأن يختاره من تلقاء نفسه ويقول فيه كما يشاء!!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير.