من أخطر مبررات السلفية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!! (مغرب التغيير – الدار البيضاء 17 مارس 2024)

المقالات التي يتم بثّها هنا في باب “آراء ومواقف” لا تعبر عن توجهات هذه القناة ومواقفها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مغرب التغيير – الدار البيضاء 17 مارس 2024 ع.ح.ي.
أقول في العنوان أعلاه إن “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” من أخطر مبرراتهم.. حتى لا أقول إنه أخطرُها إطلاقاً.. لأنهم يبنون على هذا المبرر تكفيرهم لمجتمعهم قبل غيره من المجتمعات.. وتكفيرهم حتى لذويهم وآبائهم وأبنائهم دون أن يرف لهم جفن.. وربما أفتَوْا بقتل من حكموا عليه بالكفر إذا كان له أدنى تأثير في محيطه.. وربما أفتَوْا بقتله لسواد عينيه وليس أكثر!!!

انظروا إلى مَن يسمّونه شيخ الإسلام.. ذلك الذي ملأ فتاويه الكبرى والصغرى بالتكفير والقتل مرة بالاستتابة.. ومرة بدونها.. حتى إنه أفتى بقتل مَن يجهر بنية الصلاة!!!
تصوروا معي هذا المشهد المُريع بكل المقاييس:
عبد مؤمن بالله واليوم الآخر.. يقوم بصالح الأعمال من صدقة وبِرٍّ وإحسانٍ وقضاءِ حاجةٍ وعفوٍ عن الناس وسعيٍ في جبر خواطرهم.. بمعنى أنه عبد مؤمن محتسب لا يُبعده عن رِضوان ربه شيءٌ مِن شرك خفي أو نفاق أو نحوه… هذا العبد التقيّ.. بمجرّد ما يقول بلسانه مثلاً: “اللهم إني أنوي أداء صلاة الصبح”.. فيسمعه أحد تلامذة ابن تيمية أو أتباعه.. فإن دمه يصير مهدوراً.. ويصبح قاتله من الصالحين القائمين بواجب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.. لأن الإفصاح عن نية الصلاة في نظر ذلك الشيخ المضروب في مخه مُنكَرٌ فظيعٌ يستوجب التكفير والقتل…
يا إلهي!!! ما هذا الذي نحن هنا بصدده؟! هل نتحدث فعلاً عن شيخ حاز مرتبة الإمامة.. وزاد عليها منصب المشيخة على كل مشايخ “دين السلام”.. الإسلام؟!
هل نحن أساساً بصدد الحديث عن شيخ عارف مسلم مؤمن واسع العلم والمعرفة يَقْدُرُ التزاماتِ إيمانِهِ وعِلمه حقَّ قدرها؟! وهل التزامات المؤمن العالم شيء آخر غير السماحة والعفو والتجاوز والسعي إلى هداية الآخر لا إلى إقصائه.. فبالأحرى الحكم عليه بالقتل.. ولماذا؟ لأنه فعل شيئا يخصه وحده دون غيره.. هو الجهر بنية الصلاة؟!!
هذا مجرد نموذج من الفهم الباطل لدى السلفية لمطلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… فما هو بدايةً هذا المعروف وذاك المنكر؟
إن رب العزة عندما أورد ذكر المعروف في كل الآيات الدالة عليه فإنه أراد به “ما تعارف عليه المجتمع”.. ومثال ذلك مقدار ما يوصي به المُوَرِّث لوالديه ولذوي قُرباه.. بعيدا عن ذلك “الحديث/الغريب/الظاهرة”.. الذي يتمسّك به عبّاد التراث (لا وصية لوارث) فقضَوْا به على تسع آيات بيّنات محكمات يُلِحُّ الآمر سبحانه فيها على “الوصية” بتكرار شديد.. حتى إنّه جعلها سابقة على الفريضة وتوزيع الميراث.. وهذا شِرك بَواح.. بل أكثر من الشرك لأنه يُعطّل حكم الله ويمحوه بكلمتين وضعهما الرواة يستحيل أن تكونا قد صدرتا عن الصادق الأمين عليه ازكى السلام.. لأنه بكل بساطة يستحيل أن يُبَلّغنا أوامر ربه ثم يَعكِف هو نفسُه على إلغائها والحكم من تلقاء نفسه بما يخالفها!!!
أما “المنكر”.. فَبِعكس سابقه تماماً.. وبالتالي فهو ما أنكره المجتمع من أمور أو مظاهر قد يستريح لها غيره من المجتمعات.. كما هو الشأن في شؤون ثقافية كثيرة ومختلفة.. نأخذ منها اللباس والسياقة والعلاج على سبيل المثال… إذ أنّ ما يستسيغه هذا المجتمع من الألبسة كحد أدنى للستر يمكن أن يزيد أو ينقص عليه غيره من المجتمعات.. وكذلك أسلوب السياقة.. كالأسلوب البريطاني المختلف.. الذي يجعل الأمر بالمعروف يقتضي وضع قوانين تجبر السائقين داخل بريطانيا على السير في يسار الطرقات.. وبذلك يكون النهي عن المنكر عبارةً عن مقتضيات قانونية تعاقب على السير يميناً.. وعكس ذلك في مجتمعات أخر ى غير المجتمع البريطاني… وكذلك الشأن بالنسبة للعلاجات والأدوية.. حيث يستسيغ مجتمعٌ ما الاستعمالَ الاضطراريَ للكحول بنسب عالية في جرعات بعض الأدوية بينما يقضي مجتمع مختلف بحظر ذلك الاستعمال والتقليص منه أو منعه.. ودائما بمقتضيات قانونية يخضع لها المجتمع تحت طائلة العقاب عند المخالفة…

نفهم من هذا ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “تضطلع به السلطة الحاكمة ومن يقوم مقامها بقوة القانون”.. والقانون يتم سَنُّه بناءً على “ما تعارف عليه المجتمع” وتواضع عليه من المعايير التي تجعل المعروفَ معروفاً.. والمُنكَرُ مُنكَراً… وبالتالي فلا يجوز لأي فرد أو جماعة أن تُنَصِّب نفسها بديلاً عن السلطة الحاكمة.. لأنها لا تمتلك القدرة على التنفيذ.. ولا الوسيلة إلى التمييز السليم.. لكونها تستند على مفاهيمها الخاصة بها.. والتي لا يجوز ولا يُعقل أن تفرضها على المجتمع برمته.. اللهم إلا إذا أشعلت نار الفتنة وخرجت عن الطّوْع وأقرّت لنفسها قواعد خاصة لا يجوز أن تُلزِم بها غيرَ ذاتِها… وهذا عين ما فعله ذلك الشيخ الدموي.. الذي أفتى بالقتل في أبسط الأمور فَنَحا عُبّادُه مِن بَعدِه نفس منحاه.. وما زالوا يفعلون.. وما داعش والنصرة وحماس وبوكو حرام والقاعدة… وأمثالها.. إلا نَبْتات ومَشاتِل سوداء كالحة من ذات البَذرة المتجبّرة والقاتلة!!!
سيقول لي قائل.. “مِن ذلك الخندق”.. إنني كافر لأنني أسفّه تركة ذلك الشيخ الجليل العَظَمة… لكن واقع الحال يقول إن ذلك الشيخ ليس إلاّ نموذجاً من شيوخ وتلامذة وأتباع جاءوا بعده واتّبعوه تأسياً بمبدإ الآبائية البالي والمتجاوز: “هذا ما وجدنا عليه آباءنا وإنا على آثارهم مهتدون”.. بل قد رأينا كيف أن تلامِذَةَ تلامذَتِه على مر أجيال متوالية أبدعوا أيما إبداع فأنتجوا فقهاً أشد دموية من فقه آبائهم.. والجماعات المتأسلمة المذكورة أعلاه خير دليل على ذلك.. ومصيبتهم العظمى أنهم يفعلون ما يفعلونه باسم الدين.. والدين منه إذا جاز القول “مليون براء”!!!
في السياق ذاته.. ألم تلاحظوا ان الله تعالى أمرنا بأن نأمر بالمعروف ولم يأمر به هو ذاتُه.. وبأن ننهى عن المنكر دون أن يحدّده بصريح العبارة وإنما حدد المحرّمات لا غير؟.. لماذا؟
إن هذا ليس له سوى معنى واحد لا يقبل المُناورة ولا المُداورة.. وهو أن المعروف والمنكر شأنان مجتمعيان يتبدّلان ويتغيّران ويتطوّران تبعاً لتبدّل أحوال المجتمعات وتغيُّر مفاهيمها وتطوُّر علاقاتها ومعاملاتها وقضاياها… وتلك سنة الله في سائر خلقه… ولو ان الله جعل المعروف والمنكر محدّدَيْن لكانت أحوال المجتمعات قد توقفت عن الصيرورة في ذاتها والسيرورة في عهودها وأزمنتها.. ولَكُنّا الآن نحكم اعتمادا على معايير بدائية لم تعد صالحة لأي عصر من العصور المتوالية.. وذاك ما يفعله الآبائيون!!!

نفهم من هذا أن سُنّة الله.. التي لا تبديل لها ولا تحويل.. تقتضي أن يتبدّلَ كلُّ شيء.. ويتغيّرَ كلُّ شيء ويتطوّر.. باستثنائه هو وحده سبحانه… ومِن هنا.. فمَن قال ببقاء أحكام السلف ومفاهيمهم وطرائق عيشهم ثابتةً صالحةً لأزمنتنا وأمكنتنا وقضايانا فقد ارتكب إثماً عظيماً.. أقل ما يقال فيه إنّه جعل مع الله في ثباته وديمومته شريكاً آخر… نسأل الله السلامة والعافية!!!
ونأتي الآن إلى كل مَن يُنَصّبون أنفسهم مُنافِحين عن مبدإ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.. لنقول لهم.. من كل المنابر الممكنة والمتاحة.. إنهم يَنسبون لأنفسهم مسؤوليةً لم يكلفهم بها اللهُ ولا أحدٌ من العالمين.. اللهم إلاّ إذا كانوا يعتبرون أنفسهم أنبياء زمانهم.. وفي هذه الحالة عليهم أن يأتوا بآيات بيّنات كما جاء بذلك الأنبياء السابقون.. باستثناء النبي الخاتم.. الذي جاء بأعظم الآيات إطلاقا وهي القرآن الحكيم.. هذا القرآن.. الذي يبدو من سلوك أي منتحل لصفة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أنه لم يقرأه حقّ قراءته.. وإذا كان قد قرأه فإنما هي قراءة بعَيْنَيِ الرأس والوجه لا بعَيْن القلب والبصيرة!!!
المصيبة الكبرى ايضاً.. والتي أصابت أفهامَ ملايين المسلمين من الأميين والبسطاء.. بل وأصابت جموعاً غفيرة من المتعلمين أيضاً.. أنهم يفهمون المعروف فهماً لُغوياً مُعجَمياً خشبياً يدل على كل ما هو حلال وخيِّر وصالح وطيّب.. ولهذا صار المنكر لديهم دلالةً على كل ما هو حرام وشرّ وفساد وخُبث… وبذلك أسبغوا على المعروف والمنكر صفات أبدية لسيا أهلاً لها إطلاقاً تقتضي التحليل والتحريم.. ولو كانا أبديَيْن كالحلال والحرام لَوَرَد فيهما حكم الله.. ولَمَا ترك الله لنا الخِيَرةَ كي نعالجهما بأعراف وقوانين نتواضع عليها ونعدّلها ونغيّرها حسب متطلبات تدبير شؤوننا الدنيوية في إطارٍ من الاختلاف الحتميّ بين كل مجتمع وآخر.. وكل عصر وآخر…
إننا.. في نهاية مطاف هذه المناقشة المتواضعة.. لو منح كل واحد منا لنفسه صلاحية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان كل منا يخرج وفي يده عصا أو سيف أو سلسلة ثقيلة فيضرب بها يمينا ويسارا من منظور ما يعتبره هو منكراً يرتكبه غيره.. أو معروفاً لا يُقِرُّه ولا يأخذ به ذلك الغير.. والعكس صحيح!!!
نهايته.. إن المعروف ما تعارفت عليه المجتمعات وأقرّته من قواعد الأخلاق والمعاملات.. ومن مقوّمات ثقافاتها المختلفة والسائرة دائما إلى تبدُّلٍ وتطوُّر… وبذلك.. يكون المنكر ما استنكرته المجتمعات.. كلٌّ منها بناءً على أسُسِه الفكرية وثقافتِه…
وإنّ الجهة الوحيدة المؤهَّلة للأمر بالأول والنهي عن الثاني.. لَهي السلطة الحاكمة بمقتضى دساتير المجتمعات وقوانينها… ولتلك السلطة بطبيعة الحال أن تستعين في اضطلاعها بتلك “الرسالة الإنسانية” بعلمائها وفقهائها وخبرائها كلما اقتضت الضرورة ذلك… أما أن يخرج إلينا من كل صوب وحدب.. كما سيخرج ياجوج وماجوج عند اقتراب الساعة.. أنفارٌ متشيّعون مُتَمَذْهِبون كلُّ واحد منهم “يَلغي بلغاه”.. وكلُّ واحد منهم يرى المعروف والمنكر من وجهة نظره أو نظر شيخه أو مذهبه… فذاك بالذات.. عينُ السبب فيما نحن عليه من التخلف والتقهقر والهوان… وذاك.. بالذات أيضاً.. سبب ما يوصف به الإسلام من تَغَوُّلِ الآبائيين وضلالاتهم التي لا تنتهي.. بينما هو من ذلك “مليون مرّة” براء!!!