من كل الآفاق
أخر الأخبار

العقل الإنساني.. عالَم شاسع وغامض يستحيل أن يتم حصره في وظائف الدماغ والحواس (مغرب التغيير – الدار البيضاء فاتح مايو 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء فاتح مايو 2024    م.ع.و.

إننا، حين نقول العقل، فلا يُعقل أن يستحضر كل منّا مفهوماً مخالفاً لما يستحضره غيره، فيرى أحدنا العقل بالمفهوم السائد لدى علماء النفس، ويراه آخر بالمفهوم الباراسيكولوجي، أو بالمفهوم السائد في أدبياتنا التي درجت على خلط كلِّ شيء بأيِّ شيء لمجرّد خدمة أغراض الزخرفة اللفظية… بينما قد يراه آخرون من منظور فلسفي، وبالتالي منطقي كلامي جدليّ، فيُغرق نفسه والموضوعَ المطروقَ في مناظرات فكرية وكلامية لا تُمتّ لهدف البحث والنقاش بأي صلة.

هناك، إذَنْ، حاجة إلى تكوين منظور مشترك حول العناصر التي سيتم فحَصُ مفاهيمِها السائدة في مختلف الأوساط وفي مختلف المجالات العلمية والمعرفية. منظورٌ يمنحنا القدرة على تصحيح بعض الاعتقادات السائدة والمتجاوَزة. ولكي نفهم جيّداً هذا المطلب الأخير، نسوق المثال التالي على سبيل تقريب الشُّقة:

إنّ المفهوم السائد حول الوجود الواقعي الملموس، ونظيره الخارج عن إدراك الحواس، يميل إلى اعتبار الوجود الأوّل فيزيقياً، والثاني هبائياً أو لا مادّياً immatériel أو ميتافيزيقيًا، بما يجعله على طرفَيْ نقيض مع الوجود الفيزيقي الملموس والقابل للتلقي بواسطة الحواس الخمس.

والحال أنّ هذه المفارقة في الفهم تجعل الخائضِين في موضوعات تتعلّق بالمستوييْن المذكوريْن من الوجود متباعِدِين قلباً وقالباً، حتى أن الاتجاه السائد يصنّف أهل العلوم الخائضة في عوالم وظواهر ومعالم الوجود الفيزيقيّ في خانة “العلماء حقا”؛ بينما يضع نظراءَهُم المنهمكين في البحث في الوجود الميتافيزيقي في خانة السحرة والمشعوذين والمنجّمين والعرّافة والمحتالين على العقول الساذجة… وهلم جرا.

بيد أن تقدّم العلوم على الجانبين، وفي الخندقيْن معاً، أدّى إلى ظهور عناصر جديدة، وفي غاية الجِدّة، لم تُجْبِرْ أصحاب الفهم السائد والمذكور على الرضوخ للواقع العلمي الجديد والقويّ والمُفحِم فحسب، بل جعلتهم أيضًا يُقبلون راضين ومختارين على مراجعةِ قناعاتهم السابقة، والعودةِ بنظرياتهم “العلمية” المتعلقة بهذه المسألة الإيبيستمولوجية إلى الصفر، والدفع بها في الاتجاه المخالف من جديد، وذلك بعد أن أثبت الواقعُ الوجوديُّ قيامَ علاقة لا تنفصم بين المجالين الفيزيقي وغير الفيزيقي، بل دفعت إلى نشوء قناعة جديدة ولكنها هذه المرّة راسخة وثابتة، بأنّ الوجودين المشار إليهما أعلاه يتوفران معاً على شروط ومقاييس الانتماء إلى “الفيزيقا”، مهما كان أحدهما قائماً بالفعل، وهو المدرَك بالحواس، والثاني قائماً بالقوّة، وهو المدرك بوسائل أخرى للإدراك يُمْكِن الآن قياسُها بآلاتٍ ومُعِدّاتٍ بالغةِ التطوّر وعلى نصيبٍ عالٍ من الحساسية والدّقة.

لقد اكتشف العلماء، في ظلّ هذا التغيير الجديد في المفاهيم حول الفيزيقا، بأنّ العقل لا يُنتج الأفكارَ والصُّوَرَ والخيالاتِ والأحلامَ فحسب، بل يفعل ذلك موازاةً مع إنتاج زخم هائل وزخات متتالية ومتسلسلة من الموجات الكهرومغناطيسية، ومن الفوطونات الضوئية. وهذه لا أجسام لها، كالنور تماماً، ولكنَّ لها تأثيراً واضحاً أو محسوساً وقابلاً للقياس على الأقلّ، في الأشياء والأجسام المادية الملموسة عن طريق التأثير في قواها. ها نحن إِذَنْ أمام شيء غير ملموس، ولكنَّ له تأثيراً ملموسًا أو محسوسًا على الملموسات.

إنّ هذا، على سبيل المثال أيضاً، يُفسِح لنا المجال واسعاً لفهم ظواهر كانت فيما مضى من قبيل الوهم والخَرَف، كالعين (عين الحسود) وكتوارد الأفكار أو تَخَاطُرِها، ممّا كان يُنْظَرُ إليه مقروناً بالوجل والخجل من لدن أهل العلوم المسماة سابقاً بالروحانية، ومصحوباً بالرفض والاستهجان من طرف أهل العلوم المادية الوجودية أو المسماة تجريبية.

هكذا، صار العلم الحديث يرى معادلة “العين” من منظور باراسيكولوجي يجعل للفكر قوّة تتعاظم بالتركيز العقلي، فتتراكم وتتركز بفعل ذلك حصيلتُها من الفوطونات، أو من الموجات الكهرومغناطيسية، التي يمكن أخذ فكرة عنها من خلال رصد الهالة المحيطة بالأجساد والأجسام الحيّة، وبذلك يتم توجيه ذلك الركام من العناصر الفيزيقية، غير ذات الأجسام، نحو شخص آخر بما يجعله عرضة لتغيير مفاجئ يصيب مجاله المماثل الذي يحمل اسم “الهالة” Aura (المجال الكهرومغناطيسي والضوئي أو الطاقوي… الصورة أدناه).

هكذا، يتسنّى للفكر أن يؤثر عن بُعد، وأن يُحدِث تغييرات في الفضاء وفي الأشياء والكائنات عن بُعد كذلك. وظاهرة البسيكوكينيزيا Psychokinésie، بمعنى تحريك الأشياء بلا واسطة منظورة، تكفي لتقديم شهادة حيّة على هذه الحقيقة.

صحيح أن المشعوذين وتجارَ الكرامات وأهلَ العِرافة والتنجيم خلطوا الأوراق، وكان لهم النصيب الأوفى في تعميق الهوة بين الوجوديْن الفيزيقي والميتافيزيقي، بما داوموا عليه، ولا يزالون يفعلون، من الضحك على أذقان الناس، ومن التطاول على علوم شريفة ما كان لها أن تسقط على أيديهم إلى ذلك الدرك الأسفل من الممارسة غير المعقولة.

لكن العلم الحديث، عاد، بعد أن اصطدم مِراراً وتكراراً بحاجز الظاهرة الميتافيزيقية غير القابلة للإنكار، إلى مراجعة نظرياته حول المادّة واللاّمادة، وحول الوجودين السابق ذكرهما (الفيزيقي وغير الفيزيقي) ليتضح على ضوء الأبحاث الأخيرة كيف أنّ الوجود واحد، “فيزيقي فحسب”، ومادّي بكل المقاييس، وإنما اختلفت درجات كثافته، واختلفت من جرّاء ذلك ذبذباتُه، ومستوياتُ وجوده، كما اختلفت العلاقةُ بين مكوناته المادية بكل تأكيد من خلال تقارب الذرات والجزئيات وتماسكها، أو تباعدها وتفاعلها عن بُعد، بحيث جعل ذلك بعضَه مادّياً كثيفاً ملموسًا ومرئياً، وبعضَه الآخر مادّياً خفيفاً أو لطيفاً وغير مرئيّ، تكون إمكانية لمسه أو الإحساس به رهينةً بملكات عقلية خارجة أو متعالية فوق نطاق الحواس. وهي المَلَكات المتعارف سابقاً على كونها الوسيلةَ الوحيدةَ إلى إدراك الوجود في عمقه والإلمام بجميع عناصره.

إن هذا الفهم بالذات، هو الذي جعل العلماء “الوجوديين” يعتقدون لزمن طويل بأنه لا وجود إلاّ لِما هو خاضع لمقاييسهم ومعاييرهم، ولِما هو مدرَك بحواسهم ومَسابِرِهِمْ وأنابيبهم المخبرية، والتي صارت في هذا المجال من البحث مُتجاوَزة.

لقد اتضح لنا، من خلال الأمثلة اليسيرة السابقة، كيف أن الاتفاق حول هذه التعاريف والمفاهيم من شأنه أن يفتح الآفاق أمامنا على فضاءٍ جديدٍ وبِكْرٍ، ليس لأنّ أحداً لم يَطَأْ فُسْحاتِه من قبل، وإنما لأن فيه على الدوام فُسْحاتٍ جديدةً وفضاءاتٍ عذراءَ لا تلبث تتزايد وتتنامى كلما زاد العقل في غمارها إبحاراً، وفي قِلاعها إثخاناً وفتحاً. ويكفينا، لكي نزداد يقيناً من جدوى هذا الجهد، أن نعلم بأنّه سيجعلنا نغيّر رأينا بنسبة 180 درجة حول “المعقول” و “اللاّمعقول”، بالمفهوم العتيق والمتجاوَز لهذين المُسَمّييْن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير / الصور: كتاب “الجسم الآخر” لصاحب المقالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى