إضاءات قانونية
أخر الأخبار

القانون المقارن: تعريفه، مراحل تطوره وجدواه (مغرب التغيير – الدار البيضاء فاتح شتنبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء فاتح شتنبر 2023

من بين الأسئلة الواردة على هذه الرقمية، سؤال يتعلق بما يُعرَف في الأوساط الجامعية ولدى السُّلَط التشريعية ومهنيي قطاع القضاء والقانون باسم “القانون المقارن”. وكردّ على هذا التساؤل ندرج فيما يلي معطيات نرجو أن تنال استحسان السائل الكريم.

يعرّف الباحثون في العلوم القانونية “القانون المقارن” Le droit comparé  بكونه أحدَ فروع العلوم القانونية، يراد به إجراء دراسات لقوانين بلدان متعددة ومختلفة على سبيل المقارنة فيما بينها لتحقيق هدفين اثنين رئيسيين:

  1. التعرف على تجارب البلدان المتقدمة في هذا المجال الحيوي من حياة الدول والأمم؛
  2. الحصول على ما يكفي من الخبرات الدراسية المتخصصة في هذا المجال، من أجل تطوير القوانين الوطنية والارتقاء بها إلى مستويات قوانين العالم المتقدم، وبطبيعة الحال، مع الأخذ بعين الرعي والاعتبار الخصوصيات والمميزات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلد المعني بهذه الدراسة، حتى لا ينتهي هذا الجهد إلى مجرد نقل وتقليد من الأكيد أنه لن يفي بالغرض، إذ لكل مجتمع سماته وخصوصياتُه وقضاياه.
شذرات قانونية مغربية

كان فلاسفة الإغريق، أو اليونان العتيق، أول من أولوا أهمية لهذا النوع من الدراسات المقارنة، بدليل صدور كتاب للفيلسوف أفلاطون يحمل عنوان “نقاش حول القوانين” ضمّنه مقارنات بين القوانين المعروفة في زمانه، تلقي الضوء على ما كان يراه من نقط القوة والضعف في تلك القوانين، ربما من باب إبراز التفوق الذي كان الإغريق يكرّسونه في مختلف مجالات تدبير الحياة العامة، في زمن كان التنافس فيه على أشده بين ثلاث حضارات كانت تهيمن على أصقاع الأرض: اليونانية والرومانية والفارسية. الحضارة الصفراء في الصين واليابان والتيبت، والحمراء في الهند، لم تكونا آنئذ محط اهتمام الإنسان الأبيض.

وبالمناسبة، والمناسبة شرط كما يقول المناطقة، فقد كانت الحضارة الإسلامية آنئذٍ لم تُفصِح بَعْدُ عن ذاتها، أو أنها كانت في طور النشوء، فيما كان العرب، الذين حملوا لاحقاً مشعلها منشغلين بالحروب القبلية، وبنَظْمِ الأشعار الراقية والرائعة، التي مكّنتهم منها لغتُهم الجميلة والمتميزة بغناها من بين كل لغات الأرض. أما قوانينهم فكانت مجرد أعراف تغلب عليها روح وأخلاق الفروسية، ولكنها كانت تشكّل فسيفساء من القواعد تختلف باختلاف القبائل والأمصار.

بعد اليونانيين، أبدى الفلاسفة والفقهاء في ألمانيا اهتمامهم بتفعيل آليات المقارنة بين قوانين مختلف الدول على أمل أن يفضي بهم ذلك إلى اجتراح مجموعة من القواعد القانونية ذات السبغة العالمية. والحال أن هذا التوجه، العلمي بكل تأكيد، ربما كان مردّه إلى اكتشاف علماء ألمانيا لحقيقة “وحدة القوانين” المتحكمة في الأكوان والكائنات، فيزيائياً ورياضياً وبيولوجياً، ففكروا في توجيه البحث صوب إقرار قانون وضعي موحَّد يخضع له كل بني آدم.

والحال أن هذا النوع من التفكير ربما كان الأساس الأول في نشوء ما يعرف الآن بالمواثيق والمعاهدات الدولية، التي تتضمن بنوداً تكتسي قوة القانون، وتتميّز بكونها ملزمةً للمجتمع الدولي بمختلف مكوناته، لأنها تشتمل على قواعد إنسانية كونية لا ريب أنها نتجت عن الدراسات المقارنة للقوانين السائدة في هذا العصر وما قبله.

م. القانون والأعمال

وهكذا، ومع تطور وسائل البحث العلمي ومناهجه، وكذلك مع انفجار الثورة الصناعية، التي جعلت العالم أصغر حجما من جراء تطور وسائل النقل والاتصال والتواصل، صارت الدول تولي اهتماما متنامياً للدراسات في مجال “القانون المقارن”، لأنها بكل تأكيد، تطمح إلى أن لا تكون قوانينها الوطنية شديدة الاختلاف عن نظيراتها في باقي الدول، وتكون بالتالي سببا في عزلتها وسط منظومة متشابكة من العلاقات والمبادلات والمصالح.

ويمكن اعتبار مطلع القرن العشرين، بمثابة طفرة تأسيسية للقانون المقارن، من خلال “المؤتمر الدولي للقانون المقارن” الذي التأَمَت فعالياتُه في باريس عام 1900، والذي أشّر على تنامي الاهتمام العالمي بهذا النوع من الدراسات وخاصة مع انطفاء نيران الحرب العالمية الثانية، ليصبح هذا الفرع أساسيا في كل الأبحاث والدراسات القانونية الحديثة.

وللقانون المقارن وسائل مختلفة يكرّس به أهميته البحثية والدراسية من أبرزها على الخصوص: إجراء مقارنات مباشرة ومقاربات تفاضلية وموازنات بين القواعد أو المقتضيات المتعلقة بنفس الموضوع، والمضاهاة فيما بينها للوصول إلى أفضلها تنظيراً وتطبيقاً؛ مع القيام في كل مرحلة من هذه المراحل بدراسات تفصيلية للمواد القانونية موضوع البحث، واستثمار كل ذلك للخلوص منه إلى أوجه التشابه والاختلاف بين القوانين ذات العلاقة بالموضوع الواحد، والدخول أثناء ذلك إلى تفاصيل الاختلاف وأسبابه، وبطبيعة الحال، في إطار إلمام كاف باللغات التي صيغت بها القوانين المختلفة موضوع الدراسة المقارنة، لأن هامش الخطأ في مثل هذا النوع من الدراسات ينبغي أن يكون جدَّ ضئيلٍ حتى لا نقول منعدماً.

ومن نافلة القول، التأكيد على أن هذه الدراسات ينبغي بالوجوب أن تتصف بالموضوعية والصرامة العلمية وبالفهم العميق لما يكمن خلف مختلف القوانين موضوع الدراسة من الخلفيات السياسية والإيديولوجية والعقدية، لأن هذا الجهد يرنو إلى الحصول على الصِّيَغ المُثلى لقوانين سيرتهن بها مصير مواطنين لا قِبَل لهم بكل هذه الهموم والإرهاصات الإبداعية والخلاّقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى