الإجهاض في التشريع المغربي بين التجريم والتغاضي والإباحة (مغرب التغيير – الدار البيضاء 26 شتنبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 26 شتنبر 2023
الإجهاض السري، بلا مبالغة، موضوع اجتماعي إنساني، وبالتالي قانوني وحقوقي، ولكنه أيضاً موضوع حارق، لأنه يطال شريحة غير يسيرة من المجتمع، بل شريحة هائلة تقدر بالملايين في كل دورة إحصائية (عشر سنوات) في بلد الأربعين مليون نسمة، لأنه بكل بساطة يطال ما لا يقل عن 300.000 حالة سنوية، في المعدل، بمعنى أننا تضيع منا في السرّ سنويًا جحافل من “مشاريع مواطنين” يعادل حجمهم الديموغرافي حجم بلدة متوسطٍة من البلدات. مع العلم بأن الظاهرة موسومة بجانب كبير من السرية، وبالتالي فالإحصائيات التي أفضت إليها الدراسات الميدانية المنجزة، والتي يتحدث بعضُها عن 600 إلى 800 حالة إجهاض سري يوميًا، لا تمت للواقع الفعلي بأي صلة. فمقابل كل عشر نساء يفصحن عن عمليات الإجهاض السري التي خضعن أو أُخضِعنَ لها، بطريقة أو بأخرى، يمكن أن تكون هناك مائة امرأة يُخفين ذلك عن أسرهن ومحيطهن فلا يعلم حقيقة أمرهن إلا علام الغيوب، وقد يكون الرقم أكبر من ذلك أو أقل… والله وحده أعلم.

الموضوع حارق كذلك، لأنه يقع تحريمه شرعًا، وتجريمه قانونًا، ونبذه اجتماعيًا وإنسانيًا، إلا مَن رحم ربك من المحظوظات اللواتي يوقعهن “حظهن الباسم” بين أذرع وأياد استوطنت في صدور أهلها الرحمة، فانتبه أصحابُها إلى الجانب الإنساني من المعادلة، ولا شيء غير هذا الجانب، مع ما يثيره ذلك من الرفض والاشمئزاز تارة، ومن السخرية السوداء تارة أخرى لدى السواد الأعظم من مكونات المجتمع المغربي، الذي هو مجتمع محافظ بالرغم من مظاهر التمدن والحداثة البادية على سحنته العامة.
ومن يُرِدِ الدليلَ على هذا الواقع فليَنظرْ إلى العنت الذي كانت تعاني منه المرحومة السيدة عائشة الشنّا، على سبيل المثال فحسب، في حربها اليومية الضروس من أجل رد الشيء اليسير من الاعتبار للأمهات العازبات، ولينظر أيضًا إلى الزخة الهائلة من النفاق الاجتماعي الذي تُعامَل به الجمعياتُ الناشطة في هذا المجال على صعيد الأجهزة الرسمية للدولة والجماعات المحلية وبقية المسميات السياسية والدستورية، التي تتصرف إزاءها بمنطق المثل العامّي: “الخنزير ما ناكلو ومرقتو نسقّي بها”… حيث تضطر إلى منحها بعض الدعم والمساعدة بيد، والتضييق عليها وإعاقة تطوير خدماتها باليد الأخرى، كما هو دأب الإدارة المغربية المصابة بالسكيزوفرينيا أو بالفصام أو العُصاب منذ نشأتها.
والموضوع حارق في نهاية المطاف، لأن الشّريعة تقول فيه بألسنة فقهائها الذين لا ترسو سفن فكرهم في نفس المرفأ المذهبي والتنظيري؛
والقانون يقول فيه هو الآخر من خلال كفاءات تشريعية وقانونية تنهل هي الأخرى من “سبع بحورٍ”، أو من “اثنتى عشرة عينًا” يعلم كل نفر منهم مشربه منها دون باقي الأنفار، مما أنتج لدينا، ولا يزال، نصوصًا شديدة البعد عن واقع الأمر وواقع الحال، وعن التحولات الكبرى التي يشهدها المجتمع، الشيء الذي يستوجب فتح نقاش واسع وشامل؛
والأحزاب استهوتها لعبة السياسة فحسب، فتكلمت بدورها في الموضوع بلا بوصلة، واتخذت منه مطية لقضاء أوطار في غاية السياسوية والشعبوية، وفي منتهى التزلف الفارغ لتاريخ لن يريد بالتأكيد أن يعيد نفسه، لأنه والحالة هذه لا يُشرِّف السياسة ولا التاريخ بمفهومهما الأصيل الضائع؛
والمجتمع حائر بين هؤلاء وهؤلاء، إذ هو المكلومُ جسدًا وعقلاً بجرح الحمل غير المرغوب فيه، والمُكتوي بنار الحرقة على فلذات أكباد تضيع من يده ليلَ نهارَ، جهارًا وتحت جنح الظلام، بلا أدنى ذنب سوى اختلاف الأرزاق والحظوظ والأقدار… ولله في خلقه شؤون.
وأما الفرقاء والمتدخلون والباحثون والدارسون والمتتبعون فكلًّ منهم “يغني على ليلاه” بطريقته الخاصة، مشكلين بذلك فسيفساء في غاية التنوّع والتلوُّن.
فريق آخر من الباحثين والدارسين طالب بالتريث إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الأرقام البادي بعضُها القليل، والمختفي بعضُها الوفير، حتى إذا اقتُرحَتْ حلولٌ أو نصوصٌ حاكمةٌ في مستقبل الأيام كان ذلك مبنيًا على معطيات واقعية أو قريبة من الواقع.
ورأى نفر مخالف، بأن الحملة التي انطلقت ذات فترةٍ لمناقشة موضوع الإجهاض السري قد أتت أكلها لمجرد إفضائها إلى دائرة جد متسعة من الحوار القطاعي (المشرعون ورجال القضاء والمحامون والحقوقيون وغيرهم) والوطني (مختلف مكونات المجتمع المدني ومؤسساته)، مما يُفترَض أن يسهل مهمة المشرِّع وباقي المؤسسات والمرافق المعنية بمعالجة الظاهرة، ويضع على طاولة النقاش صحونًا دسمة وغنية بالأفكار والاقتراحات والصيغ المقارَنة والمبتكرة.
غير أن هناك شِبْهَ إجماعٍ بين كل هؤلاء المهتمين بالظاهرة، على وجوب البحث عن “حلول مغربية صِرْف”، لأن الجهد المقارن المفضي إلى تقليد الآخر والأخذ عنه لا يفيد حتمًا في مثل هذا النوع من الموضوعات والإشكالات. فالتجربة الفرنسية أو الأمريكية أو البريطانية لا يمكنها أن تفيدنا في شيء، وكذلك الشأن بالنسبة للتجربة التونسية أو الجزائرية بالرغم من كونها أكثر قربًا، إذ التقارب أو الشبه هنا ليس إلا في الظاهر فحسب، فلكل مجتمع خصوصياتُه وعلله وأسبابُه، وتفسيرُهُ الخاص للظاهرة ومسبباتِها، واستجابتُه الخاصة لآثارها المباشِرة وغير المباشِرة.
إن الأمر إذن يتعلق بموضوع يشكل مأساة حقيقية، ولكن الإجهاض السري، بالرغم من هذا التوصيف الواقعي والصادم، يشكل حلاً من الحلول المتاحة لآلاف النساء والفتيات للتخلص من حمل غير مرغوب فيه، يكاد يعصف بحياتهن وبأرواحهن، لأنه تترتب عنه في كثير من الحالات آثار نفسية واجتماعية شديدة الخطورة كالانتحار، وجرائم الشرف، والتفكك الأسري، وارتفاع نسب الأطفال المتخلى عنهم، فضلاً عما يشكله ذلك من مناسبة للإلقاء بعدد غير هين من الأطباء وأطر الصحة وموظفيها وأعوانها في غياهب السجون…
ويبقى السؤال: أين ستقودنا اجتهادات أهل الاختصاص؟ وأصحاب الرأي؟، والباحثين والدارسين؟ وبالمناسبة، ماذا يقول ممثلو الأمة، إن كان لهم إسهام في هذا الباب؟ وعلى ذكر هؤلاء، ماذا تقول أحزاب آخر الزمان، التي تدمن على سُباتها الشتوي في انتظار الاستحقاقات الانتخابية الجديدة لتفتح دكاكينها من جديد، وليَشْرَع قادتُها وزعماؤها في توزيع ابتساماتهم الصفراء الفاقعة ووعودهم الكاذبة كالعادة؟!!