هل يعتبر نشر الأحكام المعيبة والتعليق عليها مشروعاً أم غيرَ مشروع؟ (مغرب التغيير – الدار البيضاء 12 أكتوبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 12 أكتوبر 2023
يتعلق الأمر بتقييم أداء المحاكم والخدمات التي تقدمها استنادا إلى ملاحظات محامين وحقوقيين يجمعونها ويُخضعونها للدراسة والتحليل، ثم يعرضونها للنشر والتعليق.
بعض الجهات المثمِّنة للمشروع، اعتبرت هذا العمل شكلاً من أشكال تفعيل رقابة المجتمع المدني على “المرفق العام” بصفة عامة، بناء على كون الدستور يجيز ذلك في فصوله 154، 155، 156 و157. وبتحصيل الحاصل، يتم تكريس ممارسة المجتمع لتلك الرقابة على القضاء، باعتبار هذا الأخير موسوماً بصفة “المرفق العام”، لأنه، كما ورد في تعريف فقهاء القانون لهذا المرفق، “يخضع لإشراف الدولة ويهدف إلى خدمة المصلحة العامة“، وبطبيعة الحال، فالقضاء تتوفر فيه هذه الشروط.

أثار هذا المشروع سُحبًا كثيفة من ردود الفعل، ومن الغموض واللبس، كما أثار نقاشًا صاخبا ظل يُلقي بظلاله على الساحة القضائية والحقوقية الوطنية، ولا يزال يُسيل المزيد من المداد في صفوف مفكريها وإعلامييها دون أن ترسو سفنُه في أيّ مرفَئٍ واضع المعالم.
الرأي المساند لهذا المشروع والمتعاطف معه، يرى أن نشر الأحكام القضائية المعيبة، أو التي يراها ناشروها معيبة، لا يشكِّل أيَّ مساس بحرمة القضاء وسمعته، ولا باستقلاليته وقيمته الاعتبارية، لأن نشر الأحكام المذكورة والتعليق عليها يحتمل الصواب والخطأ، وبالتالي فإذا كان النشر والتعليق صائبيْن فمعنى ذلك أن هناك خطأً في تلك الأحكام، والخطأ طبيعة إنسانية لا يمكن نكرانُها، وما أحدثت الدرجات المختلفة لهيئات القضاء إلا تأكيد لاحتمال ارتكاب ذلك الخطأ، سواء على مستوى بنية الأحكام المنطوقة أو على مستوى الإجراءات والشكليات التي تسْبِقُ أو تواكب كل ملف أو قضية منذ البداية إلى غاية النطق بالحكم.
وبالتالي فإذا كان النشر والتعليق غير صائبيْن، فإن ذلك لن يُنقص من قيمة الأحكام موضوع النشر والتعليق، ولا من قيمة الناطقين بها، بل من شأنه بالعكس من ذلك أن يعزّز الأحكام ذاتها ويؤكّد سلامتَها وخلوَّها من الشوائب والنقائص، وسيكون ذلك والحالة هذه على حساب الناقد المخطئ وليس على حساب القضاة وقراراتهم وأحكامهم.
معنى هذا أن أصحاب هذا الموقف يعتبرون الأحكام ومصادرها في منأى عن المساس أو التنقيص أو التجريح في الحالتيْن معًا: سواء عندما يُصيب الناقد أو عندما يُجانب الصواب، وبالتالي فنشر الأحكام والتعليق عليها واجب ينبغي احترامه من جهة، وحق ينبغي الإلحاح على ضرورة ممارسته من جهة ثانية.
وأما الرافضون لهذا المشروع، فيرون أن وجود درجات متصاعدة من التقاضي، الابتدائي والاستئنافي ثمّ الأعلى، ليس في حقيقته إلا إعمالاً مهنياً داخلياً لآليات نقد وتصحيح الأحكام التي أصابها عيب مهما اختلفت أنواعه وتباينت طبيعته وآثارُه، ودون أدنى تدخل من أي جهات خارجة عن الجسم القضائي.
بمعنى أن اضطلاع أي جهة أخرى بمهمة تجريح الأحكام ونقدها والتعليق عليها أمام الملأ، من خلال عملية النشر سالفة الإشارة، لن يكون في رأي هذا الفريق الثاني إلاّ تطاولاً على اختصاصات الهيئات القضائية المرتَّبة في الدرجات الأعلى، والتي تتيح للمتقاضين فرصًا غير قليلة للسعي إلى تصحيح الأحكام التي يرون فيها عيبًا أو خللاً أو اعوجاجًا لسبب أو لآخر، عن طريق الطعن بالاستئناف أو النقض أو المراجعة، أو عن طريق إقامة دعاوي جديدة منفصلة ترمي إلى استرجاع حق أو تدارُك خطأ يمكن أن يتضرَّر من جرائه أحد أطراف النزاعات المطروحة على بساط التقاضي.
الموضوع إذَنْ، لا يخلو من أهمية، بل يكتسي أهمية بالغة لسببيْن على الأقل:
أولاً: لكونه يتعلق بالسلطة الثالثة، التي تشكّل الجهاز المطوَّق برسالة إقامة العدل بين الناس على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ودياناتهم ومذاهبهم وأحوالهم الاقتصادية والاجتماعية وثقافاتهم، وتشكّل بالتالي أساس المُلك عملاً بالحكمة القائلة: “العدل أساس المُلْك”، مما يُسبغ على الأمر هالةً أكبر مما قد تبدو في الظاهر؛
وثانياً: لكون هذا الموضوع يلامس، عن قُرْب، جهود الإصلاح التي تعرفها المنظومة القضائية المغربية تحت مجهر العالم قاطبة، ولكونه بالتالي يشكّل مُحَدِّدًا وازنًا من مُحدّدات ومعايير استقلالية السلطة الثالثة بالمغرب. ومن باب ترسيخ تلك الاستقلالية، أن يبقى القضاء وأحكامه بعيدًا عن كثرة المتدخلين وكثرة لغوهم، بغض النظر عن مشروعية هذا اللغو أو عدمها، خصوصًا في مرحلة الإصلاح والتصحيح هذه، التي تتطلب حدًّا أدنى من التركيز والاستقرار والتفكير العميق والهادئ، والتي يُمكن بعدها الرجوعُ إلى مثل هذه المشروعات لتأمين تفعيل رقابة المجتمع بواسطة هيئاته ومؤسساته المدنية على المرفق العام، وعلى الجانب القضائي من ذلك المرفق على الخصوص.
أحد المتدخلين الداعين إلى هذا المشروع، وهو محام، أشار إلى أنّ هناك، من جهة، سوءاً للفهم عمل بعضُ الصحف على إذكائه بنقل بعض التصريحات خارج سياقها، ومن جهة ثانية، أنّ بعض القضاة الذين ملأوا الصفحات في الجرائد وليس في الكتب او المجلات علمية المتخصصة، بتعاليقهم على أحكام زملائهم وكأن أحكامهم بلغت منتهى الكمال، وربما هؤلاء، لديهم ما يخشونه على الأحكام التي نطقوا بها، لهذا تراهم يشهرون سيف التهديد ضد كل من تسول له نفسه التعقيب على قراراتهم ناسين أنهم معرضون للخطأ كغيرهم من البشر… إذ الكمال لله وحده.