المغرب العميق: شظف العيش.. ومآسي قد لا يوجد لها آخر!! (مغرب التغيير – الدار البيضاء 21 غشت 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 21 غشت 2023
خلف جبال الاطلسبْن الكبير والصغير، في عمق صحاري كنا نسمع عنها حكايات تروي عن كفاح ضد الاستعمار الفرنسي لم تخلد بنادقه إلى الصمت إلاّ في أواسط الثلاثينات من القرن الماضي، مشكّلةً بذلك آخر معقل من معاقل المقاومة ضد قوات الحماية، يسكن أناس، مغاربة بكل تأكيد، ينتمون من حيث شظفُ عيشِهم إلى العصر الحجري أو ما يقاربه!!
يُذكر من تلك المناطق الجبلية النائية سلسلة “جبال الكيسان”، بمقربة من “أكدز”، والتي حملت هذا الإسم لكونها متساوية الارتفاع ومستقيمة ومتراصة، كما هي كؤوس الشاي فوق صينية الكرم المغربي، و”جبل صاغرو”، الذي كان تحديداً آخر فضاء سكتت فيه بنادق الثوار ومدافع العدو عن مغازلة أسالت الكثير من الدماء لدى الطرفيْن.

يُذكر أن معركة طال أمدها في هذا الجبل بالذات، تحمل اسم “بوغافر”، كان أبطالها وبطلاتها ينتمون لقبائل “أيت عطّا نيلمشان”، بقيادة زعيم من طينة عبد الكريم الخطابي، وعمر المختار، وأمثالهما من الدرر النادرة، يحمل من الأسماء “عسّو اوباسلام”، كان ورجاله يرابضون فوق جبل صاغرو طيلة ست سنوات، وهو عمر المعركة، التي انطلقت شراراتها واشتد لهيبها منذ بداية الثلاثينات دون أن تهدأ ليلة واحدة.
كانت طائرات فرنسا المقنبلة ومدافعها تضرب فوق الصخور المسنّنة دون أن تطال المجاهدين، اللهم إلاّ ما كان يصل إلى بعض يسيرٍ منهم من شظايا الصخر وغباره. والعجيب في تلك المعركة أن نسوة المجاهدين لم يكنّ متفرّجات، مصلّيات داعيات لأزواجهن وآبنائهن وإخوتهن بالصبر والمصابرة، فقط لا غير، كما تفعل عادة زوجات وأمهات وأسر الثوار في كل مكان من المعمور، بل كنّ يهيّئن الطعام والشراب، ويصنعن بأيديهن دقيق البارود وقطع الحبّ الحديدية التي تحتاج إليها بنادق رجالهن، البدائية مقارنةً مع أسلحة العدو المتطورة، ثمّ يصعدن بالتناوب إلى الجبل لتجهيز الرجال بتلك المُؤَن، فكان ذلك يزيد هؤلاء إصراراً على الكفاح، ويزيد شكيمتهم قوةً، ويمتّعهم بصبر مثالي قل نظيره، فكانت عشرات منهنّ يُصَبْن بجروح متفاوتة الخطورة كنّ يعتبرنها أوسمة تزين صدورهن وأوجههنّ وسواعدن وسيقانهن، ويتفاخرن بذلك أيما تفاخر!!

جاء في الحكايات ذاتها أن الفرنسيين لم يجدوا أي وسيلة لتحقيق أيّ سبْق أو غلبة في تلك المعركة، فتفتقت أذهان ماكريهم عن حيلة جهنمية جعلت المجاهدين يضعون أسلحتهم بين يوم وليلة وهم صاغرون… لقد جمع الفرنسيون النساء والأطفال والعجزة في ساحة شاسعة وأحاطوهم بفوهات المدافع والرشاشات الثقيلة، ثم أرسلوا إلى الجبل مَن يخيّر الثوار بين وضع أسلحتهم والخروج من تحصيناتهم والنزول من مخابئهم، وبين إبادة نسائهم وأسرهم وأبنائهم… كانت خطة شيطانية ما لبثت أن أتت أكلها، لأن الثوار فكّروا جيدا وأدركوا أنهم إنما يقاتلون من أجل هذه الأسر والنسوة والأبناء، وبالتالي فالأحرى بهم أن يستسلموا ويضعوا أسلحتهم حقنا لدماء أهليهم، ولكن مقابل الامتناع عن متابعة أيّ منهم بعد وضع الأسلحة… وهكذا كان!!!
مناسبة استحضار هذه الأحداث التي طالها النسيان، أننا جميعاً، بلغت إلينا في مطلع شتاء العام الماضي صرخات الاستغاثة قادمةً من تلك المناطق بالذات، بعد أن حاصرتها الثلوج من كل جانب، وفصلتها عن باقي العالم، وعرّضتها لمآسي كانت المجاعة أقلّها وزناً وتأثيراً… فما الذي قدمته الدولة ومؤسساتُها لأهالي تلك المناطق، التي اكتشفنا فجأة أنها كانت وما زالت منسيةً في عرف مختلف المؤسسات، وخاصة تلك التي لا تتحرك إلا بين كل استحقاق انتخابي وآخر؟!
القصد هنا هي الأحزاب، التي بدا بعد تلك المأساة الشتوية أن ساكنة تلك المناطق لم تعد تطيق سماع أصوات ممثليها وهم يرسمون ابتساماتهم الصفراء على وجوه تآكلت سُحْناتُها من فرط الكذب، والنفاق، حتى صارت بلا قسمات، وأصبحت أملس من صخور تلك الربوع!! يُستثنى من هذا الواقع الغريب بعض جمعيات من المجتمع المدني، يبدو الآن أنها أخذت زمام المبادرة فجندت الأهالي وأشركتهم في عمليات يموّلها محسنون من مختلف جهات المملكة، وخاصة من المناطق المعنية ذاتها، فأقامت مستوصفات، ومدارس، ومساجد، ودور للضيافة، وتعاونيات زراعية ورعوية وتقليدية… وما زالت تفعل كما يبدو ذلك جليا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة… وكل ذلك، أمام بَحْلَقَة وبَلاهة منتخبي المناطق إياها، الذين انشغلوا، في معظمهم، ومنذ فوزهم بمقاعد الجماعات، بخدمة مصالحهم الآنية والخاصة، كما فعل سابقوهم منذ الاستقلال، وما زال الأمر على ذي الحال، وسيظل عليها إلى غاية الاستحقاقات الانتخابية القادمة… و”سير تضيم”!!
أهالي تلك المناطق منهم من لا يزالون يسكنون الكهوف، يلتحفون الحجر، ويتدثّرون ليلاً بزمهرير يحرق عظامهم حرقاً، ورؤساء ومستشارو جماعاتهم يتفرجون عن بُعد، بدليل بقاء أحوالهم كما هي، وكما كانت منذ عشرات السنين لولا بعض الجمعيات التي سبق القول إنها أخذت أزمّة المبادرة… فهل ستستمر أوضاعهم على هذه الوتيرة من الإهمال والتناسي واللامبالاة؟
ماذا يا حكومة السي أخنوش؟ وقبل ذلك وبعده، ماذا يا أحزاب آخر الزمان، التي لا يزور أعلامُها وأصحاب الأيدي الناعمة منهم تلك الربوع إلا في فترات الحملات الانتخابية؟!! هل مِن مُجيب؟..