الدفع بعدم دستورية القوانين: معالجة حقوقية وضمانة أساسية لتأمين المنظومة القانونية (مغرب التغيير – الدار البيضاء 18 أكتوبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 18 أكتوبر 2023
يعتبر الدستور ميثاقًا لحقوق الإنسان المغربي، ولواجبات المواطنة. وقد جاء في تصديره التزام صريح للمملكة المغربية بحماية منظومة حقوق الإنسان والنهوض بها والإسهام في تطويرها، مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزئة. كما جاء تخصيص الباب الثاني من الدستور للحريات والحقوق الأساسية، واعتبار القضاء صاحب الولاية العامة في حماية الحقوق والحريات، كما هو الشأن في الأنظمة القانونية للدول المتقدمة.
لقد أوكل الدستور للقاضي مهمة حماية الحقوق والحريات، وللقضاء باعتباره سلطة محايدة بين السلط الثلاث لعدم تأثره بالاعتبارات السياسية، وحصانته من أي تأثير، وتَحَصُّنه من أي تدخل على قراره القضائي ببسط رقابته على عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية. وإذا كان القضاء الإداري قد قطع أشواطًا مهمةً في ضبط رقابته على أعمال الإدارة بالنظر لما راكمه من اجتهادات على هذا المستوى، فإن القضاء الدستوري ممثلاً في المحكمة الدستورية له دور كبير بالنظر إلى الاختصاصات الموكولة إليه في مراقبة عمل السلطة التشريعية من جهة، وحماية الحقوق والحريات من جهة ثانية. وفي مقدمة هاته الاختصاصات “مراقبة دستورية القوانين والتشريعات” انطلاقا مما خوله الدستور للمواطن من إمكانية الدفع بعدم دستورية مقتضى التشريع الذي سيطبق عليه.
ويمكن إجمال الحالات التي يمكن من خلالها الدفع بأن قانونا معينًا غير دستوري في أربع حالات:
- انتهاك القانون المطعون في دستوريته لأحد الحقوق الخاصة المحمية صراحة بموجب الدستور كحق الملكية.
- انتهاك القانون لأحد الحقوق الخاصة المحمية ضمنيا من الدستور كالحق في الإنجاب.
- انتهاك القانون لحق عام محمي صراحة بموجب الدستور كالحقوق الرامية إلى حماية الكيان المادي للشخصية.
- انتهاك القانون لأحد الحقوق العامة المحمية ضمنيا بموجب الدستور كحق الخصوصية.
محور أول:
هناك تساءل أول حول مجال ونطاق الدفع بعدم الدستورية؛ وتساءل ثانٍ عن خصوصيات هذا الدفع، ثمّ تساءل ثالث حول الحقوق والحريات المضمونة بمقتضى الدستور والتي يؤدي المساس بها إلى اللجوء لآلية الدفع بعدم الدستورية.
التساؤل الأول: مجال ونطاق الدفع بعدم دستورية قانون ما: بالرجوع إلى الفصل 133 من الدستور، نجد أن المشرع الدستوري لم يحدد نوع القضايا المشمولة أو المعنية بالدفع المذكور، بل جاء بعبارة عامة وهي إمكانية الطعن بعدم الدستورية أثناء النظر في أي قضية مهما كان نوعها. لكن المادة الثانية من مشروع القانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وإجراءات تطبيق الفصل المذكور، في الفقرة (ب) عند تحديدها لمعنى أطراف الدعوى، وهذا مفهوم قانوني، أشارت إلى المدعي أو المدعى عليه في الدعاوى المدنية أو التجارية أو الإدارية وكذلك المتهم المطالب بالحق المدني أو المسؤول المدني في الدعوى العمومية. والملاحظ أن واضع المشروع استعمل مصطلح الدعوى بينما الدستور استعمل مصطلح القضية. ومعلوم أن القضية لها معنى أشمل حيث تتضمن الدعوى كما يشمل المشروع القضايا التي تدخل في اختصاص الجهات ذات الاختصاص القضائي من غير المحاكم، كالهيئات التعديلية، ومدى إمكانية الطعن بعدم الدستورية فيما يتعلق بالقانون الذي سيطبق على المعروض على المجالس التأديبية كما هو الشأن بالنسبة للجان متساوية الأعضاء، وكما هو الشأن بالنسبة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية؟ وهل يمكن للقاضي أن يطعن بعدم دستورية مقتضى سيطبق عليه؟
نتساءل: القانون عرض على المجلس الدستوري وقضى بدستوريته مع بعض الاسثناءات أو قضى بدستوريته مع بعض الملاحظات… فهل يمكن لمن يعرض على المجلس الأعلى للسلطة القضائية أن يدفع بعدم دستورية مقتضى معين، ما دامت هناك ظروف استثناء حيث أنه، إذا تغيرت الظروف، يمكن للقاضي بل يمكن للطرف أن يطعن بعدم دستورية نص تشريعي رغم أنه سبق القضاء بدستوريته.
وهنا نعتقد بأنه حتى بالنسبة لهذه الهيئات وكذا هيئات الحكامة والتقنين، يجب أن يكون مسموحًا لأطراف القضية المعروضة عليها بالنظر في دستورية القانون الذي سيطبق أمامها. كما أنه هناك ملاحظة أخرى في هذا السياق، وهي أن المشرع لم يشر إلى دعاوى الأحوال الشخصية أو قضايا مدونة الأسرة. ومن المعلوم بالنسبة لقضايا الأحوال الشخصية في المغرب، أنها ليست فرعا من فروع القانون المدني حيث أن الأحوال الشخصية وقضايا الأسرة في مرجعيتها تختلف عن مرجعية القانون المدني، وإن كان هناك بعض التقارب الذي سجلته مدونة الأسرة على هذا المستوى في بعض النقاط. فهل قصد المشرع بالقضايا المدنية كذلك، جميع القضايا بما فيها قضايا الأحوال الشخصية، أم أن هناك نية وقصدًا من أجل استثناء هاته المادة من الطعن بعدم الدستورية؟ خصوصا وأن البعض يرى بأن بعض القضايا أو بعض المسائل القانونية التي تناولتها مدونة الأسرة تتعارض مع بعض المقتضيات المنصوص عليها في بعض المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ومن جملة هاته المواثيق القانون الدولي الخاص بحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية مناهضة التعذيب وكذا اتفاقية حقوق الطفل واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
بناء على ما سبق من الأفضل أن يُفتح المجال للأطراف في جميع القضايا وأمام جميع المحاكم كالهيئات ذات الاختصاص القضائي بالدفع بعدم الدستورية.
التساؤل الثاني: خصوصيات الدفع بعدم الدستورية على ضوء الدستور: يمكن إجمالها على ضوء ما ذكر. فيما يلي جواز إثارة الدفع في سائر المراحل ولو لأول مرة أمام محكمة النقض، وهاته نقطة إيجابية في سجل المشروع، ازدواجية الرقابة على جدية الدفع من لدن المحكمة العادية والمحكمة الدستورية، عدم التقيد، وهذا نقطة فيها نظر عدم التقيد في سبقية البت في دستورية قانون معين في حالة تغير الظروف وهذه نقطة إيجابية أيضا، وأخذت من بعض الأنظمة القانونية المقارنة، اعتبار مساس القانون بالحقوق والحريات المضمونة دستوريا هي المحدد الوحيد في وصف القانون بأنه دستوري أم لا، واعتبار أطراف في قضية معينة وحدهم دون غيرهم من لهم الحق في الدفع بعدم الدستورية، وما يترتب على ذلك من ضرورة توفر صفة المصلحة.
التساؤل الثالث: الحقوق والحريات المشمولة أو المعنية بالحماية: ماذا نقصد بالحقوق والحريات؟
الحقوق والحريات المشمولة بهذا الدفع هي فقط المضمونة بالدستور إذا كانت هناك حقوق لا يتضمنها الدستور فهي غير مشمولة بهاته الحماية بالدفع بعدم الدستورية.
كذلك الحقوق التي يكون مصدرها اتفاقية دولية صادق عليها المغرب وفق الطريقة والصيغة والشروط المذكورة في الدستور. فهاته الحقوق كذلك معنية بالحماية، وقد نص الدستور المغربي على مجموعة من الحقوق من بينها المساواة وعدم التمييز في الحقوق. والدستور سرد مجموعة من الحقوق في الباب الثاني منه.
محور ثان:
الدفع بعدم الدستورية باعتباره ضمانة أساسية لتأمين النظام القانوني. يقتضي مبدأ المشروعية خضوع السلطات العامة لأحكام القانون سواء تعلق الأمر بالسلطة القضائية أو السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية. فهذه السلط جميعا تخضع لأحكام الدستور، وقد نصت الفقرة الثالثة من الدستور على انه تعتبر دستورية القواعد القانونية وتراتبيتها ووجوبها مبادئ ملزمة، والدفع بعدم الدستورية يعتبر في هذا الصدد ضمانة أساسية لتأييد القواعد القانونية من حيث التدرج وعدم انتهاك القوانين للحقوق والحريات المضمونة دستوريا.
ومن أجل إعطاء الفرصة للمحكمة الدستورية لتحليل نصوص تشريعية وتحديثها وتطويرها لتنسجم مع مبادئ حقوق الإنسان المعتمدة في الدولة، فقد تم منح هذه المحكمة، وهذا مستجد مهم جدا، كما هو الشأن في الأنظمة المتقدمة المقارنة صلاحية البت في مقتضى دستورية القانون والتصريح بعدم دستوريته في حالة تغير الظروف. فما المقصود بتغير الظروف؟
المقصود بتغير الظروف هو الظروف الواقعية والقانونية التي يجب أن تكون موضوعية لا شخصية، وكذلك مبدأ المشروعية كما هو في تصور المشرع الدستوري ليس شيئا ثابتا لا يتغير إلا بالدستور، بل من الممكن الخروج من القاعدة الدستورية بما تحمله من معاني ومفاهيم اللحظة التاريخية والسياق العام الذي انتجها، والتصورات التي ارتكزت عليها في حينه، إلى فضاء أرحب في الفهم والتفسير مما يتلاءم مع المستجدات الحقوقية والقانونية والشرعية. إذن مبدأ الشرعية مفهوم كلاسيكي من مقتضياته هو الثبات، وبمقتضى هذا المشروع الجديد، أي مشروع القانون التنظيمي، أصبح المشرع الدستوري يتيح إمكانية الاجتهاد من المرور أمام المحكمة الدستورية عندما تصرح في وقت معين وسابق بأن المقتضى المعين هو دستوري وفي وقت لاحق يصرح نص المقتضى بأنه غير دستوري.
إذن، يجب التوسع في مجال الدفع إلى المحكمة الدستورية. كأن يشمل هذا الدفع إضافة إلى المحاكم، اللجان والهيئات ذات الاختصاص القضائي؛
ويجب عدم تحديد نوع الدعاوي التي يمكن في إطارها الدفع بعدم الدستورية، والاكتفاء بالصيغة الدستورية العامة والتي مؤداها إمكانية الطعن في أي قضية.
وينبغي تقديم الدفع بعدم الدستورية بواسطة محام مقبول للترافع أمام محكمة النقض بما لديه من خبرة قانونية وتجربة؛
وينبغي التنصيص على البت في جدية الدفع بمقتضى حكم مستقل قابل للطعن، مع عدم إيقاف البت في الدعوى الأصلية إلا في حالة قضاء المحكمة التي يطعن أمامها في الحكم المستقل بإيقاف البت، وما عدا ذلك لا يتم إيقاف البت. معنى هذا أن مراقبة شكليات الدفع بعدم الدستورية يجب أن تسند للمحاكم العادية لا المحكمة الدستورية. يجب أن تنفذ إلى الموضوع لأن الأمر يتعلق بقضاة سواء في المحكمة الدستورية أو المحاكم العادية لهم تكوين عام ويمكن لهم القيام بهذا الدور أحسن قيام.
ويجب تحديد معايير الجدية من عدمها، وينبغي أن لا نترك هذه العبارة هكذا على عواهنها، بل يجب أن نضع معايير محددة يتم الاستئناس بها أو تكون ملزمة عند البت، سواء تم الدفع أثناء الإجراءات أو في طور المحاكمة، بعدم دستورية النص الذي سيتم تطبيقه.
وأخيراً، ينبغي تبليغ القضاة بقرارات المحكمة الدستورية، مع إلزامهم، وهذه نقطة مهمة، بالتفسير الذي يتم إعطاؤه من طرف المحكمة الدستورية للنص القانوني المطعون في دستوريته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: أرشيف “مغرب التغيير”.