مدرسة مغربية عليا لـ”البوليتكنيك”؟ سؤال في غاية الشروعية.. فأين الإجابة؟ (مغرب التغيير – الدار البيضاء 8 نونبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 8 نونبر 2023
ما من دارس ولا باحث ولا متتبع للشأن التعليمي في بلادنا، إلا وقد انتهى إلى تسجيل عدد كبير من الإشكاليات والاختلالات، وفي مقدمة هذه على الخصوص، ثلاث نقائص لم تزل منظومتنا التعليمية تشكو منها منذ الاستقلال إلى غاية الساعة الراهنة!!

الأولى: ضعف الاستجابة للمعايير الدولية، وللمقاييس المتوافق عليها عالميًا من خلال القرارات والتوصيات، وكذلك الاتفاقيات المنبثقة عن الهيئات والمنظمات الدولية، وعن المؤتمرات والندوات الجهوية والقارية والعالمية المُختصّة بالمسألة التربوية والتعليمية كاليونسكو؛ والمراكز الأممية للدراسات المعناة بالتنمية البشرية.
الثانية: العجز الكُلي، أو الجزئي، ولكنِ الشديد، عن تلبية متطلبات التنمية المستدامة، وإشباع الاحتياجات الحقيقية لأسواق الشغل، بالمفهوم الحداثي لهذه الأسواق، وللآليات الإنتاجية الصناعية والتجارية والخدماتية والاتصالية والمعلوماتية التي تنشط في إطار الأسواق ذاتها داخل الوطن ولدى شركائه في الخارج؛
الثالثة: عدم القدرة على تخريج شباب مؤهل ليس لاستهلاك المعرفة، التي هي معارف ينتجها غيرنا، وإنما شباب قادر على “إنتاج المعرفة”، لأن هذا بالذات، هو المعيار الأول والأكثر مصداقية لتحديد أهلية أي شعب للانضمام إلى مجتمع التكنولوجيا والحداثة.
وبالنسبة لهذه النقطة، أو النقيصة الثالثة بالذات، يمكن للمرء أن يطرح سؤاليْنً إشكالييْن مشروعيْن يفرضهما الواقع:
1ـ ما الذي يتفوق علينا به العقل الياباني مثلاً، أو الأمريكي أو الأوروبي؟
2ـ ما الذي ينقص العقل المغربي لكي يتّبع نفس مسار ذلك العقل الآخر، بكل ما يرمز إليه “الآخر” من السبق والقوة والغلَبة، ومن الأهلية لقيادة سفينة المجتمع الإنساني برمته؟

بالنسبة للسؤال الأول: نلاحظ قبل الإجابة عليه أن الإنسان الياباني لم يجد أمامه وبين يديه، بعد الضربة الموجعة بل القاتلة التي تلقاها في هيروشيما وناكازاكي على يد طيار أمريكي يختلف الكثيرون حول سلامة صحته العقلية، أو سلامتها لدى من أمره بإلقاء قنبلته الذرّيّة، سوى نفس ما وجده الشباب المغاربة الذين كانوا يتوجهون منذ بدايات القرن الماضي في بعثات دراسية إلى مختلف القارات طلبًا لإذكاء شعلة العلوم وتوسيع دائرة المعارف وتنويعها.
وبالنسبة للسؤال الثاني: نسجل أيضًا قبل المرور إلى الإجابة عليه، أن العقل المغربي، وبشهادة معظم علماء النفس والأنثربولوجيا وحتى العلماء الحداثيين الممسكين في الزمن الراهن بأزمّة وصهوات جياد العلم الحديث، بمختلف شُعَبه وتخصصاته، يتمتع بنسبة من الذكاء والفطنة تفوق المتوسط بالشيء الكثير، بل قد أعلن جل هؤلاء بأن المغربي يُعتبر أذكى من معظم بني جنسه الآهلين حاليًا فوق هذا الكوكب.
ونأتي الآن للإجابة على السؤاليْن معًا، دفعة واحدة نظرًا لارتباطهما ببعضهما، واعتبارًا للعلاقة السببية القائمة بينهما، فنقول فيما يمكن اعتباره اعترافًا مريرًا بضعف “الأنا” مقارنة مع ذاك “الآخر”: بأن الآخر، الياباني أو الأمريكي أو الأوروبي، لم يفعل سوى أنه عرف كيف يستثمر نفس العلوم والمعارف، التي كان لنا دور أساسي في جمعها وتطويرها وجعلها في المتناول الإنساني، بينما كان الآخر يتخبط في عصوره الوسطى المظلمة، وعرف ذاك الآخر كيف يطوِّعها مكانيًا وزمانيًا لتخدم أهدافًا كانت جد واضحة في ذهنه ونصب عينيه، وفي مقدمتها تحقيق السبق والقوة والغلبة، وفي مقدمة الوسائل الكفيلة بتكريس هذه الأهداف، تطويع كل الممكنات وكل الوسائل وجعلها في خدمة ما يجب تحقيقه وينبغي إصابته، بما في ذلك تطويع وإخضاع وترويض النفس الإنسانية الميالة إلى الكسل وإلى إشباع الشهوات والنزوات والتملص ما أمكن ذلك من المسؤوليات.
هذا بالذات، هو الذي جعل الأنا والآخر يُقران بأن النموذج الياباني أو الأمريكي أو الأوروبي على سبيل المثال، هو الأقرب إلى أخلاق الإسلام: صدقًا، وغيرةً، وإجادةً في الأداء، وإتقانًا للعمل والصنعة، والتزامًا بالمواعيد والمسؤوليات، وقدرةً على تحمل الصعاب وركوب الأهوال في سبيل إثبات الذات وتحقيق طموحاتها المشروعة.
تعرّفنا الآن على النقائص الرئيسية الثلاث التي شكلت أشدّ مشاكل المنظومة التعليمية المغربية امتناعاً منذ الاستقلال، وعلى امتداد الخطط والتصاميم والمشاريع الإصلاحية والبرامج الدائرة في فلكها، والتي لم تقدّم أي قيمة مضافة إلى نظام تعليمي يزداد تراجعًا، دون أن يستطيع شقُّه الخصوصيُّ تخليصَه من هذا الكابوس حتى لو افترضنا أن تعليمنا سيصير خصوصيًا برمته، وبأن التعليم العمومي، الذي يشكل دائمًا الحلقة الضعيفة في قطاعنا التربوي ستذهب ريحه وينتهي أمره بصورة قطعية… لماذا؟ لأن التعليم الخصوصي يشكو بدوره من نفس النقائص الثلاث سالفة الذكر، وفي هذا بالذات، لا فرق بين التعليميْن معًا إلا فيما نَدُرَ أو هان شأنه من الحالات.

الحاجة الراهنة والعاجلة:
إن العالم، ونقصد العالم المتقدم بطبيعة الحال، يجري أمامنا ومن حولنا بسرعة قياسية وغير مسبوقة، مما يعني أن أي تأخير في الولوج الفعلي والحاسم إلى خطوات التصحيح، الكفيلة بسد الثغرات الثلاث العَنيدة، والمنوه عنها أعلاه، يمكن أن يُضيع علينا وقتًا لا يرحم، ولا يمكن لهذا العالَم قطعًا أن يتوقف لانتظارنا حتى نلتحق بركبه أو بإحدى قاطراته، ولو قلنا إن قاطراته هذه تسير بسرعة ضوئية لما كان قولنا مجانبًا للصواب مقارنة مع أحوالنا، لأن كل شيء من حولنا يسير ويجري فعلاً بسرعة الأوينات الإلكترونية والفوطونات الضوئية، التي لا تقل سرعتها عن 360.000 كلم في الثانية، حسب التقديرات الفيزيائية القائمة.
معنى هذا أننا بحاجة إلى مشروع وازن لن يخدم الحاجة الملحة والعاجلة إلى تطوير تعليمنا وتحديثه فحسب، بل من شأنه أن يُسْهِمَ بشكل فعال وربما حاسم، في تصحيح مسار القطاع التعليمي، على صعيد إطاره الخصوصي بشكل خاص، ولِمَ لا العمومي أيضًا، بل سنفتح نافذة يدلف منها ضوء الأمل إلى مؤسسات خصوصية مغربية، أو مغربية أجنبية مشترَكة، في وسعها أن تسير على منوال أسرع وأكثر ثباتاً، ألا وهو مشروع إنشاء “مدرسة مغربية عليا للبوليتكنيك“، على المنوال الفرنسي الشهير والرائد، ولْمَ لا أفضل منه، من أجل تحقيق ثورة معرفية وعلمية أخطأنا الطريق إليها طوال عقود، عندما كان طُلاّب العلم من الشباب المغاربة ينهلون من نفس العلوم والمعارف جنبًا إلى جنب مع الطلبة اليابانيين وغيرهم، منذ العشرينات من القرن الماضي.
هل يستطيع العقل المغربي ان يخطو هذه الخطوة، الثورية بكل المقاييس، بالرغم من كل ما سبق ذكره من هنّات المنظومة التعليمية المغربية؟.. ذاك هو السؤال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير.