حرائق أمريكا بين الجُرم المدبَّر والقول بالعقاب الإلهي!! (مغرب التغيير – الدر البيضاء 16 يناير 2025)

مغرب التغيير – الدر البيضاء 16 يناير 2025 ع.ح.ي.
الآراء والأفكار المعبَّر عنها في هذا الباب لا تُلزِم هذه الجريدة
تعلّمنا من القراءة المتدبّرة للقرآن الحكيم أن الله تعالى كان يعاقب “القرى” الباغية بإحدى الطرق التالية وغيرها:
* بضربها ضربة قاضية بالصيحة لتصبح على عروشها خاوية بعد هلاك أهلها كما وقع لقوم صالح؛
* بإرسال الطير الأبابيل عليها فتُمطِر أهلها بحجارة من سجيل كما وقع لأصحاب الفيل؛
* بضرب أهلها بالحجارة المسوّمة، بمعنى أنها تُصيب المستهدفين بها مباشرة كما لو كانت تحمل أسماءهم، أو هي فعلاً كذلك، كما حدث لقوم لوط فأصبح عالِيُ القرية سافِلَها؛
* بالإغراق بواسطة طوفان عظيم يجتاح المنطقة والقرية كما وقع لقوم نوح؛
* بالريح الصرصر العاتية التي تتقاذف الأهالي ومكونات بيئتهم الطبيعية ومساكنَهم كما وقع لثمود، قوم عاد…
أو بطرق أخرى مُشابِهة أو مُغايِرة لا يتسع المقال لعدّها وإحصائها، ولكنها في مجملها كانت تضرب القرى فتقضي على أهلها بسبب اتّصافهم جميعا بالكفر أو الشرك أو الظلم، كسلوك أحادي يعم القرية برمّتها، ولكن الله تعالى كان في كل مرة يُنجي المؤمنين الذين اتبعوا النبي المُرسَل إلى القرية وهم القِلة، ويقضي قضاءً مبرَماً على الباقين وهم الكثرة، وذلك في جميع الحالات المتعلقة بالقرى!!
إن حرصي على التذكير بأن هذا الأمر يتعلق خاصةً بالقرى، أو القرية، قصدتُ إليه خِصّيصاً لألفت النظر إلى حالة أخرى جد مختلفة عن سابقتها، وهي حال “المدينة”، حيث لم يأت في القصص القرآني، ولا في الكتابات التاريخية، أيُّ ذكر لعقاب ربّاني جامع حل بإحدى المدن في الحضارات السابقة فما السر في ذلك؟
السر أن “القرية”، بهذا التوصيف السياسي والاجتماعي، معروفة منذ نشأتها بأُحادية المنهاج المعيشي والعقدي والفكري السائد، ولذلك فكلما أرسل الله نبيا إلى قومه في قرية من القرى وجد أهلها مُجمِعين على الكفر أو الشرك أو الظلم والإجرام، فلا يؤمن به إلى القلة القليلة منهم، فيأتي أمره في كل مرة فيُنجي المؤمنين على قلّتهم، ويُنهي وجود الآخرين على كثرتهم، لكي يُحِق الحَق ويُزهق الباطلَ الزَّهوقَ بمشيئته!!
أما في المدينة فالأمر مختلف تمام الاختلاف، لأن المدينة لا يهيمن فيها فكر أو اعتقاد أو منهاج أحادي، بل هي فضاء للتعددية الفكرية والعقدية والثقافية، ولذلك لم يسبق أن ضرب الله مدينة من المدن في القِدَم لماذا؟.. لأن فيها مؤمنين يَأمَن الناس وكل الكائنات من أذاهم لكونهم قولاً وفعلاً غيرَ مؤذين، ومُسلمين مُسالِمين ينشرون السلام في محيطهم فيسري في سلوكهم ومعاملاتهم لبعضعم البعض وللآخرين من حولهم… لكن، قد يأتي أمر الله لضرب طائفة من أهل المدينة دون الطوائف الباقية، كما وقع لفرعونَ ومَلَئِه، الذين أُغرِقوا ليس بالمدينة بل عند ملاحقتهم النبي موسى والمؤمنين معه من بني إسرائيل إلى خارج المدينة، وقد أصابهم الله هم أنفسهم بعد ذلك بالصيحة لمّا طلبوا رؤيته جهرةً ثم عفا عنهم ليتّعظوا ويرجعوا… وهكذا إلى آخر هذا الضرب من الأخبار الواردة في الكتاب الحكيم!!
إذن فالقرية ينزل بها غضب الله ويحقّ عليها أمره دون القلائل من أهلها من المؤمنين بالنبي المرسَل إليهم؛ بينما المدينة تنجو بمن فيها من كل العقائد والمذاهب والملل والنِّحَل، إحقاقاً للعدل الإلهي، الذي لا يمكن أن يُنزل عقابه على أهالي المدينة وهو يعلم المستحقين منهم لعفوه وحلمه ورحمته، ويعلم أن هؤلاء قد يصبحون في سياق مشيئته وحكمته هم الأغلبية إن استطاعوا أن يُسهموا في إصلاح شأن غيرهم بفعل المعايشة والتعايش والاحتكاك والتزاوج والمصاهرة وتبادل المصالح والمنافع، فيُمهِل الله الذين ظلموا منهم إلى حين لقائه… وهذا من حكمته وعدله بين خَلْقِه وعِباده!!
بعد هذا التفريق المنطقي والعادل بين مفهومَيْ ومآلَيْ القرية والمدينة… نأتي الآن إلى ما وقع ويقع في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي لوس أنجلس تحديداً، من حرائق غير مسبوقة، أطلق عليها بعضُ رواد وسائل الإعلام لفرط جهله ِاِسمَ “حرائق القيامة”، فنقل عن ذلك البعض إعلاميون ومؤثرون من العرب والمسلمين بنفس الزخة من الجهل والجهالة!!
فيا لَلفارق العظيم بين “نيران القيامة”، الموصوفة في الكتاب بنيران جهنم، وبين “حرائق الحياة الدنيا”، التي لا تستحق أكثر من هذا التوصيف الدنيوي مهما علت ألسنتُها وزمجر لهيبُها واشتد انتشارُها الكاسح!!
الولايات المتحدة “مدينةٌ” بكل معاني الكلمة ودلالاتها، بل هي مئات وربما آلاف من المدن، وكلٌّ منها يشكّل نموذجاً حياً وجِدَّ مُتقدِّمٍ للتعددية والتنوع والاختلاف المفترَض اجتماعُها كلُّها في نفس النسق المَديني، الحضري، وداخل هذا النسق توجد آلاف مؤلفة من أتباع النبي المسلم عيسى، ومثلهم من معتنقي ملةَ النبي المسلم موسى، وكذلك آلاف مؤلفة من المؤمنين من أمة محمد، ومِن الصابئة، والإبراهيميين، والزرادشتيين، والبوذيين، وغير هؤلاء كثير وكثير، فضلاً عن التنوع القائم داخل الملة أو العقيدة أو المذهب أو الطريقة الواحدة… وكل هذا يجعل التدخل الإلهي المباشر لضرب أي مدينة من المدن مستحيلا نظرا للاعتبارات المنطقية والعقلانية سالفة الإشارة، والتي تتجلى فيها حكمة رب العزة وعدلُه ورحمتُه وعفوُه ورأفتُه!!
نَخلُصُ من هذا إلى أنّ ما وقع ويقع في لوس أنجلس، بولاية كاليفورنيا الأمريكية، لا علاقة له مطلقاً بأي عقاب إلهي!!
ثمّ هناك سبب آخر مبدئي وأكثر وزناً من كل ما سلف ذكره، من أسباب استحالة أن يكون الحدث عقابا إلهياً، وهو غياب المراد الإلهي من العذاب الدنيوي السابق ذكر طُرُقه أعلاه، وغيره مما لم يتم ذكره، إذ أنّ تلك العذابات الإلهية كانت آيات مزكّية لنبوّة الأنبياء والمرسلين السابقين على البعثة المحمدية، غير أنّ الرسول والنبي محمداً عليه السلام وعليهم أجمعين، لم يعد في حاجة إلى آية من تلك الآيات وهو الذي أعطى الانطلاقة لنشأة المدينة المسلمة المتميّزة بالتعدد والتنوّع والاختلاف داخل الوحدة، فكانت رسالته الخاتم بمثابة قَطْعٍ نهائيٍّ وحاسمٍ بين زمن الآيات البيّنات، التي يسمّيها الفقهاءُ خطأً بالمعجزات، التي كانت مدرَكة باللمس والمشاهدة والمعايَنة، وبين زمنه المتميز بالإيمان بالغيب، وبالاستعمال المنطقي لمَلَكات العقل، ولوسائل العلم وأدواته، فصارت الجدلية العتيقة التي كانت قائمةً في العهود السابقة فيما بين الأنبياء والمرسَلين وأقوامهم وقراهم، صارت قائمة داخل النسق المديني الواحد بين مُكوِّناته، وبذلك استحوذ العقل على النصيب الأعظم من مختلف أشكال التعامل مع العقيدة، ومع النصوص المنزَّلة كما لم يسبق للعقل الإنساني أن فعل مِن قبل!!
حسناً… فإذا كان العقاب الإلهي مستبعَداً عن حرائق لوس أنجلس، وكذلك وبالتشابه، مستبعداً عن الفيضانات والأعاصير التي ضربت طيلة الأسبوع الفارط، مثلاً، مناطق مثل مكة والمدينة بالمملكة العربية السعودية، وكذلك الكوارث التي أصابت أماكن أخرى من المعمور في شكل تسونامي أو طوفان أو زلازل أرضية أو انجرافات ترابية أو غرق بحري أو غيرها جميعاً… فما السبب إذن؟ وخاصة في منطقة لوس أنجلس بالتحديد لأنها شكّلت رأس هذا الموضوع؟
آخر الأخبار التي تداولتها وسائل الإعلام الاحترافية، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي المطبوعة بالهِواية، تكاد تُجمع على وجود أسباب بشرية بعضهم ينسبها لجدلية السياسة، ويخصّون بالذكر ذلك الصراع الحاد والصامت بين الرئيس جو بايدن المنتهية ولايته، وغريمه دونالد ترامب العائد إلى المكتب البيضاوي عودةَ المنتصر، فشهبّوا ذلك بسياسة “الأرض المحروقة”، وقالوا إن بايدن يعتمدها عن قصد، حتى يترك للرئيس العائد عهدةً مضطربة ملئى بكل المتاعب والمُنغِّصات من شأنها أن تُفسدَ عليه الشهور الأولى لولايته، وتجعله يتعثر منذ بدايتها، وقد لا يقوم من عثرته بعد ذلك إلى غاية نهايتها، فيتحقق فيه وصف المنتصر المغلوب على أمره، الحامل في أحشائه بذورَ فشله الأكيد والذريع… بينما رأى بعض آخر أن الأمر لا يعدو أن يكون إجرامياً، وبالتالي ذا صلة بتصفية حساب قديم ربما يعود إلى عُهدة ترامب السابقة، أو يكون، كما هو غير مستبعَد أيضاً، مجرد تماس كهربائي أفرزته رياح عاتية تجاوزت سرعتها 120 كيلومتر في الساعة، وهي نفس الرياح التي أكملت إنجازها المميت فجعلت النيران تنتشر بنفس السرعة وتتفوق على كل وسائل الوقاية المتوفرة بالمنطقة، زد على ذلك، سبباً إدارياً ساهم بنصيبه في استفحال الكارثة، يتمثّل في سوء تدبير عمدة المدينة، الذي قيل إنه لم يجد من وسيلة للتقشف وللتقليص من تبديد المال العمومي سوى التخلي عن اقتناء وتجديد ترسانة وسائل الوقاية المدنية، التي كانت مقررة للسنة الماضية وما بعدها، وبذلك كان منسوب النيران، وكذا الرياح الحاملة والناقلة لألسنتها الرهيبة، أكبر وأقوى من الإمكانيات التي سمح ذلك المسؤول بالإبقاء عليها، خارج كل تَوَقُّعٍ وتَحَسُّب لمثل هذا النوع من الكوارث، في منطقة تشهد كل عام جديد حرائق محدودة تسهل السيطرة عليها لكن، في غياب رياح مثل رياح هذا الموسم، وخصاص في التجهيزات مثل خصاص هذه السنة، التي بدأت بالكاد، ولكنها منذ بدايتها جاءت مُنذِرةً بكل الويلات!!
ومرة أخرى، فكيفما كانت أسباب نشوب حرائق لوس أنجلس، ونتائجها المُهْوِلة، وخسائرها الفلكية، فإنها لا يمكن أن تكون عقاباً إلهياً لأن هناك خارج نطاق هذه البقاع، التي تغذّت عليها تلك النيران، توجد بقاع أخرى ربما هي أدعى لتلقي العقاب الإلهي، لو كان الأمر يستدعي فعلا نزول مثل هذا العذاب من أعلى عِلِّيين!!
التحقيقات جارية الآن على قدم وساق، ولن تلبث أن تأتي إلينا الأيام القليلة المقبلة بأخبار مُقنِعةٍ ومُفْحِمَةٍ قد لا تطوف ببال أحد من العالمين… فما علينا إذَن إلا الصبر والانتظار!!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر صورة الواجهة: CNN Arabic.