محاربة الأمية بالمغرب.. “حكاية واش من حكاية”!! (مغرب التغيير – الدار البيضاء 24 يوليوز 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 24 يوليوز 2024 ع.ح.ي.
الآراء والأفكار المعبَّر عنها في هذا الباب لا تُلزِم هذه الجريدة
في غضون شهر فبراير 1956، قاد جلالة المغفور له، الملك محمد الخامس أول حملة وطنية لمحاربة الأمية، بإمكانيات مادية محدودة، وبموارد بشرية يسيرة، ولكنها متسلحة بعزيمة قوية، تتكون من المتطوعين من المعلّمين والمعلّمات، ومن تلامذة الثانوي بكافة مدارس المملكة، وأعضاء الجمعيات الكشفية، التي كانت تشكّل نواة النسيج الجمعوي في تلك الفترة الأولى من الاستقلال.
كان الهدف المسطَّر لتلك الحملة يتمثل في “محو أمية مليون نسمة” دفعة واحدة.[1] والحال أن هذا الرقم، وفي تلك المرحلة بالذات، كان وحده كافيًا لإخبارِنا بأن تلك العملية طغت عليها عواطفُ الجيل الأول للاستقلال وحماستُهُ. ذلك الجيل الذي شكّل قدوةً بلا أدنى ريب، من حيثُ قوةُ عزيمتِهِ وإصرارُهُ على الإسراع في محو مخلفات الحقبة الاستعمارية بأي شكل من الأشكال، ولو من غير تخطيط مُسْبَقٍ ومُحكَم، وبغير وسائلَ كافيةٍ ولا لوجيستيك، ما عدا الإصرار ذاته، والقدرة المثالية على تحدّي كل الصعاب.
جهد جسيم يفتقر إلى الدراسة والتخطيط:
في السنة الموالية (1957) انطلقت حملة ثانية استهدفتْ “مليونيْ نسمة”، مما يوحي بأن الحملة الأولى قد استنفدَتْ أهدافَها، وصار الواقع على إثْرِها مشجِّعًا على خوض غمار حملة جديدة أكثر اتِّساعًا وأثقل عبئًا. وهذا، كما تدل على ذلك آخر الإحصائيات حول حجم الأمية في مغرب اليوم، يُثْبِتُ أنّ العمليتيْن الأولييْن معًا لم تخضعا لأيّ دراسة بالمفهوم العلمي للكلمة، ولم تحقِّقا بالتالي نتائج باهرة تناسب حجمهما، ما عدا تلك الروح التي بعثَتَاها في جسدٍ مكلوم، مُثْخَنٍ بالجراح، كان يُحاول بالكاد أن يستكمِلَ استقلاله. وحتىّ هذا لم يتحقق بَعْدُ، وبصورة كُلِّيَة إلى غاية لحظة كتابة هذه السطور، اعتبارًا لوضعية سبتةَ ومليليةَ والجزر، والتي لا يزالُ جميعُها يرزح تحت وطأة استعمار متحفِيٍّ يعجز عن الانتماء إلى عصره ومِئَوِيَتِه وألفيته، ولصحرائنا الشرقية التي اقتطعتها فرنسا من ترابنا وألحقتها بحديقتها الخلفية، الجزائر.
حملات متوالية بلا فائدة تستحق الذكر:
منذ أواخر خمسينات القرن الماضي، نظمت بلادُنا حملات كثيرة بشعارات متعددة ومختلِفة، وبوسائل تنفيذ متنوِّعة يعتمد كلٌّ منها مقارباتٍ خاضعةً بدورها لظاهرة التعدّد والتنوّع، دون أن يؤدّي ذلك كلُّه إلى فكّ شفرة هذا الداء العُضال، الذي صارَ مُزمنًا بامتياز، حتى لا نقول إنه صار ساكنًا فينا وجزءًا لا يتدزّأ من مقوماتنا الذاتية، لأن الإقرار بهذا الواقع سيعني أننا رفعنا “الراية البيضاء” في وجهه، ولم تعد لنا أيُّ حيلة للخلاص منه.
وبطبيعة الحال، فإننا لن نستسلم بهذه السهولة، بل ينبغي أن نفكّر باستمرار وإصرار في أمثل الطرق والأساليب لجعْلِ الأميةِ خبرًا يعود إلى تاريخ مضى إلى غير رجعة.
دَعُونا نرى، بدايَةً، تجلّي هذا الانشغال في الخطاب الملكي، قبل أن نفتح المجال لمناقشة نسجل من خلالها ملاحظاتنا حول أبرز أسباب إخفاقنا إلى غاية الساعة الراهنة في طرد هذا المُقيم الثقيل والمُعيق لكل تقدُّم أو تطوّر.
لقد كانت التوجهات المعبر عنها في مختلف الخطب الملكية[2] تُجيبُ بالوضوح الكافي على ما سبق أن قلناه في بداية هذا المقال:
فالحملات التي نُظِّمت منذ الاستقلال إلى غاية يومنا هذا لم تُفِدْ كثيرًا في التقليص من حجم الأمية. بل يُمكن القول إننا تراجعنا إلى الوراء كثيرًا، إذا أخذنا بعيْن الاعتبار ظروف العصر وتحدِّياته وإكراهاته ذات البُعد العالمي والكوني، فضلاً عن متطلبات التنمية المستدامة، والتي لا تملّ حكوماتنا من اتخاذها شعارًا بيْن كل تجربة وأخرى… فكيف ذلك؟
ما كان مقبولاً بالأمس لا يجوز قبوله اليوم:
إن نسبةً تُقارب خمسين في المائة من الأميين، ليست بنفس الثقل والخطورة فيما بيْن الفترات الأولى من الاستقلال، وفترتنا الزمنية الحالية. كما أن مبرِّرَ وجودها في الأزمنة السابقة لا يجوز ولا يُعقل أن يظلَّ مبرِّرًا لبقائها بيننا في الوقت الراهن.
انطلاقًا من المُقاربة ذاتها، فإن تسجيل تلك النسبة المُهْوِلة من الأمّيين في مغرب عتيق ويكاد يكون بدائيًا، وهو مغرب السنوات الأولى من الاستقلال، لا يكون له نفس الوَقْعِ والخطورة حين نجد الآفة باقيةً، وصامدةً، وحاضرةً بثقلها الوازن في مغرب القرن الحادي والعشرين والألفية الثالثة. من هنا يجوز لنا القول:
“إننا تراجعنا كثيرًا أمام غول الأمية، وإننا أفسحْنا له مجالاً أوسَعَ كيْ يُرسِّخَ فينا جذورَا أثخنَ وأعمقَ من ذي قبل”.
إن الأرقام التي قدّمها الخطاب الملكي، المشار إليه في الهامش أدناه، تُصيبُ المرء بالدَّوار، وتكاد تدفعه إلى اليأس. ونذكّر هنا بأنّ هذا القول لا ينبغي حملُهُ على محمل الدعوة إلى العدمية والتيئيس، بل من حيثُ كونُهُ معاينةً لواقعٍ قائم.
جهود التنمية لن تصيب إلا نصف المغاربة:
إنّ وجود مواطن مغربي من اثنيْن مصابًا بوباء الأمية، معناه أن جهودَنا الإنمائية والإصلاحية محكومٌ على نتائجها بالتقلّص إلى النصف مهما بلغت من الكِبَر والعُمْق، ومهما كانت إيجابيةً وناجحةً وواعدة بالأفضل. لماذا؟
بكل بساطة، لأن مواطنًا من اثنيْن لن يَسَعَهُ أن يحقق الفائدة المرجوة من تلك الجهود، مهما ادّعت حكوماتنا ذلك، ومهما زكّتْ دعواها بما يصدر عنها من الإحصاءات والأرقام “المنفوخة”.
مغرب بمساريْن متناقضيْن:
إن معنى ذلك أيضًا، أننا نمارس تدبير شؤوننا العامة بمنطق فِصامي، سكيزوفريني، مزدوج المسار ومتناقض مع ذاته. فمن جهة، نجتهد ونكدّ لتحقيق تقدّم بلادنا وازدهارِها ورَفاهها… ومن جهة ثانية، ملازمةٍ لسابقتها وموازيةٍ لها، نُضَيِّعُ الفرصة على نصف مواطنينا (خاصة من الإناث، اللواتي صِرْنَ يشكلن أكثر من نصف الساكنة المغربية) كيْ يتعلم ويَعي ذاتِه وما حولَه، وكيْ يحقق من الفوائد والمنافع الإنمائية مثل ما يحققه النصف الآخر، ويكون معه على قدم المساواة، ويتمتّع مثله بنِتاج العدالة الاجتماعية، التي يبدو والحالةُ هذه أنها لم تَزِدْ في كثيرٍ من الأحيان عن كونها شعارًا للاستهلاك وليس أكثر.
إن هذا ليس إقرارًا ذاتيًا سوداويًا من عند أنفسنا، بل هو عيْنَ ما جاءت به الأرقام المتداوَلَةُ بيننا في الساحة العامة، والتي أكّد الخطاب الملكي بعضَها بنبرةٍ مِلْؤُها الرفضُ والاستنكار، لأنه لا أحد يسْتَطيب أن يكون نصفنا خارج زمانه، أو كما تقول أدبيات الاتصال السائدة بيننا اليوم: “خارج التغطية”.
نصف المجتمع أعزل ومغلوب على أمره:
الأدهى مما سبق قوله، أن نصف مجتمعنا لا يركن فحسب إلى الجهل، وإلى العَمى في وعيه وإدراكه، فتضيع عليه من جرّاء ذلك فُرَصُ النموّ والارتقاء في سلّم الإنسانية، بل نجده مستسلِمًا لكل أشكال الغزو والنصب الفكرييْن من لدن جمهور المشعوذين والنصّابين والعرّافة، وكذا من لدن نصابين في مجالات العقيدة والسياسة والفكر والفهم… لا لشيء، سوى لأن نصف مجتمعنا أعزل من كل أسلحة الدفاع المشروع عن النفس، ويفتقر إلى مختلِف وسائل تكريس الفهم الصحيح والصائب لما يدور حوله.
بتحصيل الحاصل أيضاً، فإنه يكون لقمةً سائغةً بيْن كمّاشات سماسرة السياسة ومُحتالي الاستحقاقات الانتخابية، التي ترتهن بها أمورٌ مصيرية يُفتَرَضُ أن يُدلي الجميع فيها بدلوه ورأيه عن علمٍ، وبلا أدنى استثناء. وبطبيعة الحال، فإن ذلك النصف المغبون من المجتمع يكون، والحالة هذه، ضحية استغلال غير مشروع بكل المقاييس.
السبب الرئيسي في تفاقم ظاهرة الأمية:
لنطرح السؤال: “من أين جاء إصرارُ الأمية على البقاء بيننا بكل ثقلِها الهائل هذا، وبكل هذا الامتناع عن الاستجابة للعلاجات المختلِفة، والتي لم نتوقَّف عن تجربتها في ذواتنا منذ الاستقلال إلى لحظة كتابة هذه السطور”؟
إن الواقع، كما تؤكده التوجهات الملكية في غيرما مناسبة، يقول لنا: “إن أساس الداء نظامٌ تعليميّ غير سليم“… وهذا بالذات، هو الذي دفعنا إلى إعادة القراءة في أحوال منظومتنا التربوية والتعليمية خلال عدد من المقالات السابقة… وبالتالي، فلا ريب أننا سنعود إلى البحث عن الإجابات الشافية على السؤال ذاته في مقالات أخرى لاحقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير / مصدر صورة الواجهة: البيضاوي.
[1] مشروع القضاء على الأمية في أفق 2010، إصدار كتابة الدولة المكلفة بمحاربة الأمية والتربية غير النظامية، فبراير 2005، ص 1 و2.
[2] أنظر الرسالة الملكية الموجهة إلى الأمة بمناسبة الإنطلاقة الجديدة لمسيرة النور (13 أكتوبر 2003).