الدين والتدين وظاهرتا الاتفاق والاختلاف (مغرب التغيير – الدار البيضاء 18 أبريل 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 18 أبريل 2024
قال الإمام محمد عبده: «كل إنسان – مهما علا فكره وقوي عقله أو ضعفت فطنته وانحطت فطرته – يجد من نفسه أنه مغلوب لقوة أرفع من قوته، وقوة من أنس منه الغلبة عليه مما حوله، وأنه محكوم بإرادة تصرفه وتصرف ما هو فيه من العوالم في وجوه قد لا تعرفها معرفة العارفين، ولا تتطرق إليها إرادة المختارين، تشعر كل نفس أنها مسوقة لمعرفة تلك القوة العظمى، فتطلبها من حسها تارة، ومن عقلها أخرى، ولا سبيل لها إلا الطريق التي حددت لنوعها، وهي طريق النظر، فذهب كلٌّ في طلبها وراء رائد الفكر: فمنهم من تأولها ببعض الحيوانات، لكثرة نفعها، أو شدة ضررها، ومنهم من تمثلت له في بعض الكواكب لظهور أثرها، ومنهم من حجبته الأشجار والأحجار لاعتبارات له فيها، ومنهم من تبدت له آثار قوى مختلفة في أنواع متفرقة تتماثل في أفراد كل نوع، وتتخالف بتخالف الأنواع، فجعل لكل نوع إلها».[1]
لقد تحدث محمد عبده في هذه الفقرة عن “التديّن” لا عن “الدين”، لأن الدين مصدره إلهي، بينما التديّن أساسه بشري عقلي سِجالي، وبالتالي يصحّ أن يطبعه التعدُّد والتنوّع وأن يقوم حوله الاختلاف.
بيد أن ظاهرة “الدين والتدين” ظاهرة عامة تشترك فيها كل الجماعات البشرية على مدى تاريخها الطويل، وعلى اختلاف ما بينها من بداوة وحضارة، وتخلّف وارتقاء. وإن مبعث هذه الظاهرة، إحساس كل فرد في جماعة بأن هناك قدرة أو قُدُرًا تتصرف فيه وفيما حوله تصرفًا يلفت النظر ويبهر العقل، فيستشعر من نفسه ميلا قويًا لمعرفة مصدر هذه القدرة التي لها عليه وعلى غيره ذلك الأثر العجيب.
كما أن العقول حينما تبحث عن الحقيقة دون أن يكون لها مدد من السماء، لا يمكن أن تتفق على شيء واحد تؤمن به وتخضع له، وإنما تتشعب بها السبل، فإذا هي مختلفة في ذلك اختلافًا كبيرًا: “هناك عقول مشت على فطرتها فوصلت إلى معرفة الله، وهناك عقول مشت على غير فطرتها فنظرت نظرة ساذجة إلى ما حولها من مصادر القوة والتأثير فيها أو فيما يحيط بها، فإذا بجماعة تعبد الشمس وأخرى تعبد القمر، وثالثة تعبد النار، ورابعة تعبد الشجر، وخامسة تعبد البقر.. وغير هؤلاء كثيرون يعبدون آلهة شتى، وكلها مخلوقات لله، لا تملك لهم ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا، ولا حياة، ولا نشوراً”.[2]
ولقد افترق الباحثون في تاريخ الديانات في ذلك إلى فريقين:
فريق أول: «يذهب إلى أن الدين بدأ في صورة الخرافة والوثنية، وأن الإنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إلى الكمال فيه بالتوحيد، بمثل ما تدرج نحو الكمال في علومه وصناعاته.
هذه النظرية نادى بها أنصار مذهب “التطور التصاعدي” الآخذ بنظرية النشوء والارتقاء لداروين، والذي ساد في أوروبا في القرن التاسع عشر في أكثر من فرع من فروع العلوم، وحاول تطبيقه على تاريخ العقائد عدد من العلماء» [3].
و«فريق ثانٍ: يقرر بالطرق العلمية بطلان هذا المذهب، ويثبت بالعكس أن عقيدة الخالق جل وعلا هي أقدم ديانة ظهرت في البشر، مستدلا بأنها لم تنفك عنها أمة من الأمم في القديم والحديث، فتكون الوثنيات والحالة هذه مجرّد أعراض طارئة، أو أمراض متطفلة بجانب العقيدة الإلهية العالمية الخالدة».[4]
وتسمى هذه نظرية “فطرية التوحيد”، التي انتصر لها جمهور من علماء الأجناس، وعلماء الإنسان، وعلم النفس.[5] ويؤيدها الحديث النبوي “يولد الإنسان على فطرة وأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يُمجِّسانه”.
وإذا كانت النتيجة هي أن الديانات السماوية هي الأصل الفطري، وأن لها السبق في الوجود الديني، وأن ما اعتراها من شوائب أو اختلالات، وما زاحمها من ديانات وضعية باطلة، إنما هو محض شذوذ وانحراف صدر عن فئات ضالة مضلة.. إذا كانت النتيجة هي هذا، فلنا أن نتساءل:
هل بدأت هذه الديانات السماوية واستمرت تتنزّل ديانة إثر ديانة على نمط واحد، ثم انتهت وهي على نفس النمط دون تغيّر ولا تطوّر؟ أو أنها بدأت على نمط خاص، ثم تطورت إلى أنماط مختلفة، ثم انتهت بنمط آخر هو نسيج وحده؟
الواقع أن الديانات السماوية كلها جاءت متفقة ومختلفة: متفقة في أصولها، مختلفة في فروعها، كلها يتفق على الجوهر والحقيقة، على أصول العقيدة، وأصول الشريعة. فهي جميعًا تدعو إلى الإيمان بالله وحده، والإيمان بكل ما جاء من عنده، والإيمان باليوم الآخر، والأخذ بكل ما يصل بالإنسان إلى الخير ويباعد بينه وبين الشر.
أما فروع الشرائع وتفاصيلها، وصورها وشعائرها، فتختلف فيها الديانات السماوية اختلافًا ظاهرًا؛ فمثلا فريضة الصلاة، جاء بها كلُّ الشرائع السماوية، ولكنها تختلف صورها من شريعة إلى أخرى. فهي في الشريعة الإسلامية قيام، وقراءة، وركوع، وسجود وجلوس، على كيفية معروفة، وفي الشريعة المسيحية ترانيم وتراتيل تتلى جماعياً على هيأة خاصة، أو فرديا في هيئات مختلفة، جلوسا أو وقوفاً أو غيرهما.
أما لماذا اتحدت الشرائع السماوية في أصولها واختلفت في فروعها؟ فذلك لأن الأصول ثابتة لا تتغير بحال من الأحوال، فالله سبحانه هو الله بذاته وصفاته لا يتغير ولا يتحول أبدا، والرسل في كل أمة هم الرسل بما يجب لهم من الاتّباع، والكتب المنزلة على مدى تاريخ الرسالات هي الكتب المنزلة بما لها من قداسة وتعظيم، وكل ما جاء من عند الله حق ثابت، وصدق لا يُنقض، وفيه أصول الأخلاق، والعبادات، والمعاملات، وأدب مُتَّبَع وطاعة ملتزَمة، لا يحيد عن ذلك إلا ضال أو هالك.
أما الفروع، فهي التي يعتريها التغيير والتبديل، ويتناولها التعديل والتطوير، لأنها ليست أكثر من تطبيق للأصول في صور شتى، ولا بد لهذه الصور أن تختلف تبعًا لاختلاف أحوال المكلَّفين بها واستعدادهم، وما يحيط بهم من عوامل وظروف كثيرًا ما يكون لها دخل في التكاليف. فما يصلح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر، وما يلائم طبيعة قوم قد لا يلائم طبيعة أقوام آخرين، وهذا من أبرز الأغراض المشار إليها باصطلاح “التديُّن”.
إنّ “الدينَ” إلهيٌّ وبالتالي فإنه يتّصف بـ”الثبات والحقّانية”، ومصدره يتمثّل في الوحي؛ بينما “التديّن” بشريُّ المَنشأ والصِّياغة، لأنه يشخّص تفاعل الإنسان مع تعاليم الدين وحقائقه الثابتة الصادرة في الرسالات الإلهية، ولا يمكن بالتالي أن يكون بسبب منشئه البشري هذا إلاّ مادة للمراجعة والنقد والتغيير والتطوير تبعاً لتبدّل أحوال المتديّنين وقضاياهم، ولذلك جاز أن يختلف حوله العلماء والفقهاء، فقهياً وليس عَقَدياً، وأن يُنحوا فيه إلى مذاهب شتى.
وكما حدث من جرّاء الخلط بين “الإسلامي” و”المسلم”، وبين “الثابت” و”المتغيّر”، من اختلافات لدى المجتمع المسلم، على صعيد فهمه لدينه واستيعابه لتعاليمه وأحكامه، يجد الباحث أثناء مناولته لموضوع الخطاب الديني مواقف تكرّس لنفس اللبس بجعل “التديّن” أحياناً يرقى تعسُّفاً إلى مرتبة “الدين” لدى بعض الجماعات المسلمة، الأمر الذي نتجت عنه اختلافات في فهم المسلمين لدينهم، وفي تقديمهم هذا الفهم لغير المسلمين، الذين صاروا والحالة هذه ينظرون إلى الإسلام نظرتهم إلى بعض أهله ومفكريه ومُتَكَلِّميه، وما أعظم الفارق بين “دين” الله العزيز الحكيم من جهة، وبين “تَدَيُّنِ” بعض المُغالين أو المبتدعة من جهة أخرى، وما أكثر هؤلاء في التاريخ الإسلامي، وربما جاء في طليعتهم “الزنادقة”، الذين حكت عنهم كتب التراث الشيء الكثير، والذين من بين ما حشروا به ذلك التراث مئات آلاف من الأحاديث المنسوبة إلى النبيّ أبلى أهل الحديث ومؤلفو الصحاح عظيم البلاء لتنقيتها من أغلب ما شابَها من تلك الزيادات، حتى سمعنا أن البخاري، مثلاً، اضطر إلى معالجة نحو ستمائة ألف حديث لم يَنْتَقِ منها بعد الغربلة سوى نحو سبعة آلاف تزيد أو تنقص قليلاً، وهي المدوّنة في أغلب كتب الِصِّحاح.[6]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رسالة التوحيد، الإمام محمد عبده.
[2] “التفسير والمفسرون”، محمد حسين الذهبي، 1915-1977، هو وزير أوقاف مصري أسبق، ولد في مدينة مطوبس في محافظة كفر الشيخ، التحق بكلية الشريعة جامعة الأزهر وتخرج منها عام 1939، حصل على الدرجة العالمية، أي الدكتوراه، بدرجة أستاذ في علوم القرآن عام1946، من كلية أصول الدين في جامعة الأزهر، وذلك عن رسالته “التفسير والمفسرون” التي أصبحت بعد نشرها أحد المراجع الرئيسة في علم التفسير بالأزهر الشريف.
[3] “الدين”، للدكتور محمد عبد الله دراز، ص 102.
[4] نفس المصدر السابق.
[5] نفس المصدر السابق.
[6] روى الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” (2/333)، بإسناده عن عبد الرحمن بن رساين البخاري، يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري، يقول: “صنفت كتابي الصحاح لست عشرة سنة، خرّجته من ست مائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى”.
(مصدر صورة الواجهة: النبأ).