لماذا يصر بعض “أهل التراث الديني” على إنتاج نفس التجارب الفاشلة؟! (مغرب التغيير – الدار البيضاء 28 أبريل 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 28 أبريل 2024 ع.ح.ي.
الآراء والمواقف المعبَّر عنها في هذا الباب لا تُلزم هذه الرقمية
يتحدث فقهاؤنا و”علماؤنا” عن التجربتين اليهودية والمسيحية.. أو بالأحرى تجربتَيْ بني إسرائيل تحت مظلة الرسوليْن موسى وعيسى.. فلا يجدون أدنى حرجٍ في وصف هذين القومَيْن بالتحريف والتزوير.. وبالنرجسية والشوفينية المفرطتين.. خاصة عند اعتبارِ هؤلاء أنفسِهم شعباً مختاراً.. وأبناءً لله.. سبحانه وتعالى عن ذلك مطلق العُلُوّ.. واعتبارِهم الأممَ والشعوبَ الأخرى عبيداً مُصَنَّفين خارج رحمة الله.. وكذلك عند تحريفِهم الكلِمَ عن مَواضعه وتعطيلِهم مَقاصدَ التوراة والإنجيل وتزويرهم تعاليمهما بما ألّفوه وراكموه من المخطوطات لخدمة هذه الادّعاءات المُبْطِلة… كل هذا جيد.. ولا يملك المرء إلا أن يزكِّيَه ويُثْنِيَ عليه.. لأن فقهاءَنا و”علماءَنا” لم يقولوا في خُطَبِهم وكتاباتهم حول هذا الموقف الإسرائيلي (نسبة لبني إسرائيل وليس للدولة) سوى عين الحقيقة…
لكن.. وبوعي أو قصد أو بغيره.. نجدهم يتنافسون.. ويتدافعون بالمناكب والألسنة والأقلام.. لإعادة إنتاج التجربة ذاتها.. بحذافيرها.. معتمدين في ذلك مبدأَ “حرام عليهم حلال علينا”.. عن طريق تصنيع حديث يحصر أركان “الإسلام الكوني الشمولي” في خمس “عبادات” و”شعائر”.. وبذلك جرّدوا كل الأمم والشعوب الموحِّدة لله الواحد من إسلامها.. المبني على رسالات أنبيائها ومُرْسَليها.. وألْقوا بها بالجملة إلى نار جهنم.. تماماً كما كان كل من اليهود والنصارى يدّعون تجاه بعضهم البعض.. عندما قالوا “لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى…” (111 – البقرة)…
فيا لها من سُخريةِ قدَرٍ وضعنا من جرّاء ذلك على قدم المساواة مع أتباع موسى وعيسى هؤلاء.. جاعلاً إيّانا.. بفضل تراثنا هذا.. نردد بلا هوادة: “لن يدخل الجنة إلا من كان مسلما على الطريقة المحمدية”… تماماً كما كانوا يفعلون!!!
بل الأدهى من ذلك.. أن صنّاع ذلك التراث ابتدعوا حديثا نسبوه للنبي عليه السلام يقسّم فيه قومه إلى نيّف وسبعين فرقة (قالوا 73 فرقة) كلها في النار إلاّ فرقة واحدة.. سمّوها “أهل السنّة والجماعة”.. وبذلك لم يعد بين فعلتهم وادعائهم هذا.. وبين فعلة اليهود والنصارى من قبلهم أدنى فارق.. وكانوا.. هم أيضاً.. قد فرقوا أنفسهم على التوالي إلى سبعين ثم إلى إحدى وسبعين فرقة.. فأصبحنا بفضل ذلك التراث ومؤلَّفات صانعيه من العلماء الأكابر في الهم سواء!!!
أما السبب البديهي في هذا الانحراف الغريب.. الذي مُنِيَ به أتباع الرسالة الخاتم.. فليس سوى فبركة صُنّاع التراث ومهندسوه لقِوامٍ عَقَديٍّ لا يشبه ما بشّر به الصادق الأمين إلا في بعض التفاصيل.. أما جوهره فقد طاله التحريف والتغيير… تماماً كما حدث من قبل للصيغتين المنزّلتين على كل من موسى وعيسى.. عن طريق تأليف عشراتٍ بل مئاتٍ بل آلافٍ من المخطوطات والكتب والتصانيف تحت بنود تتعدد وتتنوع.. منها التفسير.. ومنها الفقه.. ومنها كتب الصحاح.. وكتب المذاهب الأربعة.. ويقال خمسة مذاهب.. ويقال أيضاً أكثر من خمسة.. ثم منها الشروح.. وشروح الشروح.. والفهارس والجوامع… وكل هذا وَضَع الأسس لخلافات حول المفاهيم.. واختلافات حول المذاهب والفرق لم تكن رحمةً كما ادّعى أهل ذلك التراث دفاعا عن آبائهم.. بل جعلت منا أكبر مخالفين للأمر الإلهي الصريح: “…ولا تكونوا من المشركين* من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شِيَعاً كل حزب بما لديهم فرحون*” (31 و32 -الروم)!!!
نعم.. فرّق أهل التراث وصانعوه ديننا شِيَعاً ومازال ورثتُهم من بعدهم يفعلون.. “كل حزب بما لديهم فرحون”.. سُنّة وشيعة.. حنفية ومالكية.. شافعية وحنبلية.. أشعرية ومعتزلية.. رافضة وجهمية.. جبرية وماتريدية… وهلمّ تفريخاً للفرق والطوائف الفرعية.. وأجزاء الفرعية.. وفروع فروعها… وما زالت عمليات التفريخ قائمة.. دون أن يجرؤ مصلحٌ ولا مؤسسة أو منظمة، ولمَ لا منظمة “التعاون الإسلامي” المفترَى عليه، او منظمة الإيسسكو، على بذل أي جهد جاد وصارم لمعالجة هذا التشرذم بجَمْعِنا من جديد على كتاب واحد.. أشهد بالمناسبة للمرحوم عبد الهادي بوطالب أنه أثناء إدارته العامة للإيسسكو، كان يحمل مشروع الكدّ من أجل “الجمع بين المذاهب الأربعة في دليل فكري وعملي واحد”.. وقد صرخ بذلك في أكثر من تصريح أو رسالة أو خطبة… وهل هناك غير كتاب الله كأفضل ملجأً في مثل هذه النائبات؟!!
للتذكير من جديد.. فالله عز وجل.. علّمنا في مُحْكَم آياته إن للإسلام أركاناً ثلاثة هي: الإيمان به وحده لا شريك له.. والإيمان باليوم الآخر والبعث والحساب.. ثم الاستعداد بصالح الأعمال لملاقاته في ذلك اليوم المشهود… ثم إنه جمعنا تحت هذه اليافطة الواسعة (في سورة البقرة) مع الذين هادوا والنصارى والصابئين… غير أن أهل التراث.. الفقهاء العلماء الجهابذة.. رأوا غير ذلك.. وقضوا بغيره.. فجسّدوا هم أنفسهم.. ومن ورائهم ملايين من بسطاء العقول والأفئدة من المغرر بهم.. ما يمكن وصفه بالـ”مصيبةً”.. وهي عين إعادة إنتاج التجربتين اليهودية والمسيحية المحرِّفتَيْن لرسالتَيْ موسى وعيسى (ع.س.)!!!
لقد جسّدوا فعلاً تلك التجربة.. وأعادوا إحياءها.. وليتهم يتقبّلون المناقشة وإعادة القراءة والمراجعة.. كما يفعل أولو الألباب والبصائر في كل بقاع الدنيا.. إذ نجدهم يُصِرّون على القول المسبوق بالاعتقاد.. والمتبوع بالأفعال.. والذي قاله واعتقده وارتكبه سلفهم: “إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على إثارهم مهتدون” (22 الزخرف)!!!
الحصيلة؟ اخترَعوا منصب الإمامة.. حتى زاحم بعضُهم به إمارة المؤمنين.. ولكي يزكوا ذلك المنصب جاءوا بروايةٍ لحديث جَعَل الصلاة الحركية “عماداً للدين”.. وصنّفوها على رأس الأعمدة بطبيعة الحال لأنهم يستأثرون بمناصب الإمامة في الصلاة.. ففتحوا المجال لظهور فئة من النبلاء.. وعِلْيَة القوم… ثم اخترعوا الفتوى.. وسمّوا جماعاتهم “أهل الحل والعقد”.. فأصبحوا يشرّعون بواسطة وظيفة “الإفتاء”.. فأحلّوا وحرّموا كيف أرادوا.. بينما الله عز وجل يقول لرسوله الأعظم في أكثر من آية في مُحكَم تنزيله: “يستفتونك.. قل…” (176 – النساء).. وهذا يدل على أن المشرّع في الدين واحد.. وأنه هو الذي يقضي فيما يستفتي المؤمنون فيه نبيَّهم.. وبذلك جعلوا أنفسهم وسطاء بالقوة بين المؤمنين وربهم.. بعد أن أقنعوا أولي أمرهم بأنهم أعلم الناس بهذا الدين.. وبأنهم في ذلك أهل اختصاص وتخصص.. كما لو كان الله سبحانه يخاطبهم بالتخصيص دون غيرهم.. فيسّر لهم ذلك أن يستأثروا بالقول في كل الأمور والإشكالات الدينية العَقَدية والدنيوية حتى وافقهم بعض أولو أمرهم على ذلك.. فصاروا بقدرة قادر يُشرّعون في صغائر الأمور وكبائرها.. وأصبحوا يفتون في العلاقات الحميمية بين الزوج وزوجه.. خارج بيت الزوجية وداخله.. بل دخلوا بأحذيتهم الغليظة إلى غرف النوم.. فتكلّموا في علاقات الزوجين ببعضهما على مشارف فراش الزوجية وفوق الغطاء وتحته، وتطاول بعضهم في ذلك على بيت الرسول ذاته!!!
وقد زاد هؤلاء تَجَبُّراً لجوءُ بسطاء العقول ضعفاء النفوس إليهم ليفتوا لهم في أمور في منتهى التفاهة والسفاهة.. كطريقة دخول البيت والخروج منه.. وطريقة دخول الحمامات والمراحيض والخروج منها.. وكذلك الشأن بالنسبة للأسواق.. والمساجد.. والدور العمومية والخاصة.. وطريقة الأكل والشرب.. واللباس.. وطريقة الجلوس والنوم والسعي… وما يصلح لكل هذه الأحوال من الأذكار والأدعية المصنوعة لكل حالة… فلم يترك هؤلاء الفُضلاء أمرا إلاّ تكلّموا فيه بالفتوى والإرشاد.. اللذَيْن تحوّلا مع استفحال هذه الظاهرة إلى “أوامرَ شرعيةٍ من صميم الدين” لا يخالفها إلا زنديق أو كافر.. وبهذا كفّروا معارضيهم في الرأي والفهم.. بالرغم من التزام هؤلاء المعارضين بالمقدمات الإيمانية الكبرى والأساسية… وكل ذلك.. وبسطاء المؤمنين يَسيرون وراءهم.. ويتحلّقون حول مجالسهم مُطَأطِئي الرؤوس.. فاغري الأفواه والأعين.. معلَّقي الأنظار على ألْسِنة هؤلاء مَخافةَ أن تَفوتَهم حكمةٌ من “الحِكَم” الصادرة عن هؤلاء المشايخ!!!
المعضلة إذَنْ.. تكمن في تلك الأعداد الغفيرة من البسطاء.. وملايين الأميين والسُّذَّج.. الذين أصبح الواحد منهم يقبل أن يَطال أيُّ امرئٍ ربَّه بلسان السوء.. ولكنه لا يُطيق أو يقبل أن يفكّر أحد.. مجرد التفكير.. في مناقشة هؤلاء الأصنام أو مراجعتهم في أمرٍ تكلّموا فيه.. حتى ولو جاء المُخالِفُ إليهم بآيات قرآنية مُفْحِمة ومُخْرِسة.. وبذلك حق عليهم جميعا قول الحق عزّ وجلّ على لسان رسوله الكريم.. يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم: “يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً” (30- الفرقان).. وما أقرب ذلك اليوم الذي سينطق فيه الرسول بهذه القولة الرهيبة.. وساعتئذ سيرى هؤلاء الأرباب الملتحون المتعمّمون.. والمتبخترون في أردية الخيرات والنعم.. هل سينفعهم غير هذا القرآن.. الذي سيُسألون عنه وحده وليس عن غيره من مئاتِ أُمّهاتِ كُتُبِهِم إطلاقاً لقول الله عز وجل: “وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ” (الجاثية 28).
أَلاَ إنّ ذلك اليومَ المُهْوِلَ ليس ببعيد… نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والدين!!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير (صورة الواجهة: موقع التنوير).