بين يقينيات “الدين” واختلافات “التديّن” وتناقضاته!! 2/1 (مغرب التغيير – الدار البيضاء 6 مايو 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 6 مايو 2024 ع.ح.ي.
الآراء والمواقف المعبَّر عنها في هذا الباب لا تُلْزِم هذه الرقمية
لو أردنا كباحثين ودارسين للفكر الإسلامي أن نقف على حقيقة “الدين” الذي هو عند الله الإسلام، فأيّ المصادر ينبغي أن نعتمده في سبر أغوار هذا الموضوع؟ وأيّ المراجع نتوسل من خلالها الإجابةَ على أسئلة هذا الأساس الديني الحارقة؟
قد يقول قائلٌ: إن لدينا من أمهات الكتب ومن مدوَّنات الأحاديث وصِحاحِها ما يكفي لتلبية هذا الطلب وزيادة… غير أن واقع الحال سيردّنا بهذه الإجابة على أعقابنا خائبين. وتكفي نظرة سريعة، ولكنها عارفة وثاقبة، إلى أحوال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، للاقتناع بأننا نبعد بنحو خمسةَ عشرَ قرنا عن ذلك الهدف، لأننا انحرفنا منذ البدايات الأولى بدرجات تزداد اتساعاً وابتعاداً عن الحقيقة الدينية الخالصة، وبالتالي عن الجادة التي رسم لنا خريطتَها الأساسيةً رسولُ الله ونبيُّه محمدٌ، والتي حاول هذا النبيّ/الرسول جهد مستطاعه أن يقيَنا السقوطَ فيما ظلّ ومازال يكتنفها منذ البداية من المزالق والمَهالك. وإن الدليل على صواب القول بهذا الانحراف الهائل يسيرٌ وتبيانَهُ في غاية السهولة… فكيف ذلك؟
أولاً: النهي عن تدوين الحديث
إن محمدا، صلى الله عليه وسلّم (“سلاما” وليس “تسليما” كما يذهب أغلب القائلين لأن “التسليم” هو الإذعان والطاعة وكلاهما مستحيل في حق الخالق) نهانا عن تدوين أحاديثه وكان يعلم بحكمته المثالية، بأننا لو فعلنا فسنجعل كلامه مع مرور الزمن ندًّا وقريناً لـ”أحسن الحديث”. و”أحسن الحديث” هذا إنما هو كلام الحق عز وجل، كما وصفه في كتابه الحكيم بقوله: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد» (الزمر- 23) حتى أن محمداً قال مبررا نهيَه ذاك ومستنكِراً موقف القائلين بواجب تدوين الحديث وجدواه: “أكتابٌ مع كتاب الله”؟! وكأنه يقول: «أحديثٌ بشَريٌّ مع “أحسن الحديث”، الذي هو حديث إلهي»؟!
ثانيًا: التمييز بين الرسول والنبي
إن الرسول عندما نهى عن كتابة الحديث فإنما أراد بذلك أيضًا أن يعلّم قومَه كيف يُفَرِّقون بين “الرسالة” و”النبوة” ويُمَيّزون بين مناط كل منهما.
- فهو “رسول” بما كان يُبَلِّغه من التنزيل الحكيم بحذافيره بلا أدنى زيادة أو نقصان، وقد كان التنزيل خارج وعيه وإرادته، وفي هذا بالذات جاءت الآيتان 3 و4 من سورة النجم: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى». وبالتالي فالأمر في هاتين الآيتين ليس بتاتا، بل ليس مطلقا، كما يعتقد به القائلون من فقهاء السلَف والخَلَف، بكون الرسول “ذا وحييْن”، جاعلين كلامَه كنبي وحياً موازياً ومساوِياً للتنزيل الحكيم، وفي هذا الادِّعاء مطلق العبث، ودليلُهُ النهيُ “النيويُّ” عن التدوين.
- كما أنّ محمداً “نبيٌّ”، بما كانت تقتضيه النبوّة من حسن تدبير شؤون المسلمين وترشيد إدارة مصالح دولتهم الأولى، التي كان من حيث كونُه نبياً يؤسس لها ويجتهد ويُبدع في ضبط شؤونها وتأمين سلامتها وأمنها وتطوير علاقاتها بمحيطها، الذي كان محيطاً عدائياً في معظم حالاته.
لقد كان رئيس الدولة الإسلامية الأولى، بوصفه نبيا، نموذجا يُحتذى في صدق الطوية، ونقاء السريرة، وفي الأمانة والعدل والحكمة واتّباع الصراط المستقيم، لأنه كان في الوقت ذاته قائداً ومربّياً وهادياً ومعلِّما، وكيف لا وقد “كان خُلُقُه القرآن”، ومن هنا جاء إرسالُهُ رحمةً للعالمين كافة، وليس، كما ادّعى كثيرون من السلف، جاء “بدعوته على رأس رمحه”، وأنه جاء “ليقاتل كل من لا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله”… وهذا يحتاج وحده لمساحة عريضة من المناقشة والمناظرة.
ثالثا: “النبي“ غير معصوم بخلاف “الرسول”
إن محمداً، من حيث كونُه نبيا ورئيسا للدولة، كان يصيب ويخطئ، وينجح ويُخفِق، بدليل ما بلغ إلينا في الأخبار والآثار من مواقف احتاج “النبي” فيها إلى المشورة، وأحياناً إلى التصويب والتصحيح من لدن الصحابة الأكبر سنّاً والأكثر تجربةً والأوسع درايةً وخبرةً بشؤون الحياة العامة، في أحوال السلم والحرب على السواء.
وبطبيعة الحال، فإن هذا لم يكن يُنقِص شيئا من مكانة النبي كرئيس للدولة، بخلاف صفته الأخرى كرسول، والتي كان فيها مؤيَّداً بالعصمة الإلهية، وبالتالي في غير حاجة إلى أي تدخل من خارج دائرة الرسالة، ما دام في مقام الرسالة مبلِّغاً ما يوحَى إليه من ربه بلا أخطاءٍ البتّة، وبلا أدنى تدخل من لدنه أو من لدن غيره.
سؤال حارق: في هذا السياق من التطرق لنهي الرسول عن كتابة الحديث، يتوارد إلى الذهن ما يمكن اعتباره بمثابة سؤال حارق، وقد وُصِف بالحارق لأنه يتعلق بمفارقة لم يَجْنِ المؤمنون منها إلاّ الكثير من الأضرار والمصائب… والسؤال هو:
“لماذا أصر السلف بعد وفاة الرسول وبعد انقضاء عهد الخلافات الراشدة على جمع الحديث رغم النهي عنه، علما بأن الخلفاءَ الراشدين أنفسَهم لم يجرؤوا على مخالفة ذلك النهي”؟
لماذا إذَنْ أفنى السلف أعمارَهم في اقتفاء آثار الروايات المتضمِّنة للأحاديث بين الآحاد والأمصار، ثم بعد ذلك في تدوين ما أفلحوا في العثور عليه من الروايات والنُّتَف، علما بأن حصيلة هذا الجهد، المذموم بالشهادة المُسْبَقة للنبيّ ذاتِه، أسفر عن جمع نحو ستمائة ألف حديث، وقال بعضهم مليوناً أو يزيد، ما لبث جامِعو الصحاح أن اكتشفوا أنها كانت في معظمها منحولة ومحشورة وباطلة، فاختاروا لنا منها ما بين الأربعة آلاف والسبعة آلاف بحسب اختلاف طرقهم في الإجازة والمنع والقبول والتجريح والرفض، بعد أن اضطروا في محاولتهم إنجاح تلك المهمة المستحيلة إلى ابتداع مجال بحثي سمّوه “علم الحديث”، وآخر سمّوه “علم الرجال”.
رابعاً: الوثوق بالرواة على حساب صحة الروايات
اعتمد جامعو الحديث في هذين العلمين، اللذين لا ينتميان إبستيمولوجياً لـ”العلمية” بأي شكل من الأشكال، معاييرَ تنبني على الوثوق في الأشخاص والآحاد دون المُتون، بحيث طفقوا يُجيزون هذا الحديث لأن الراوي في ظنِّهم ثقة، ويرفضون ذاك الآخر لأن الراوي غيرُ موثوق به، دون أن يُعيروا أدنى اهتمام للمتون، وبذلك بلغت إلينا أحاديث بعضُها يُثير الهُزْءَ والسخرية، وبعضها يَنْدَى له الجبين، لأن الذين أجازوه ودوّنوه في صِحاحهم نظروا إلى الراوي ولم يعيروا أدنى التفات لمضمون الرواية.
أحد الأدلّة على سوء الاختيار:
جاء في الصحاح، نقلا بالبهتان عن أم المؤمنين عائشة، أنّ الرسول تعرَّض للسحر على يد أحد سِقْطِ مَتاع يهود المدينة من جيرانه، في وقت كان الوحيُ فيه على أشُدِّه، وكان الحق سبحانه قد أوحى إليه في ذات السياق آيةً يتعهد فيها بـ”عصمته من الناس” حتى يتسنى له أن يؤدّي رسالته على الوجه الأكمل بعيدا عن المنغصات، وأيضاً، في وقت لم يعد فيه بين ساكنة يثرب أيُّ نفر من يهود تلك المرحلة من العهد النبوي، إذ كان كل يهود المنطقة قد غادروا مهد الدولة الإسلامية الأولى إلى صياصيهم وحصونهم خارج المدينة.
فكيف أجاز مهندسو الصحاح نقل هذا الحديث المدسوس، الذي يمسّ بشكل فاضح بشخص الرسول، ويضرب في الصميم سلامة جزء غير يسير من الوحي كان يتنزّل عليه طيلة الأشهر الستة، التي ورد في الحديث ذاته أنه قضاها مسحوراً، يفعل الشيء فينساه لتوّه، ويجامع نسوته دون أن يذكر من ذلك شيئا بمجرد مغادرته فراش الزوجية كما جاء ظلماً وبهتاناً في بعض الروايات الناقلة للحديث ذاته، والوقِحة بكل تأكيد؟!
خامساً: انتفاء المنهجية لدى الجامعين
وغياب الأهلية لدى الـــــرواة:
هناك نماذج أخرى من الأحاديث، على نفس المنوال البائس السالف ذكره، تجعل الباحث والدارس يطرحان السؤال عن مدى جدية هؤلاء الجامعين والمدوِّنين، ومدى أهلية الرواة لحمل عبء الرواية، مع العلم مرة أخرى، بأن النبيّ نهى نهيا مطلقا في الزمان والمكان عن تدوين كلامه، لأنه كان يعلم، بأن ذلك الكلام كان خارج طَوْق الرسالة المُحْكَم، وبالتالي معرضاً للزيادة والنقصان والنحل والتحريف… كما كان في نظره السليم والحكيم مرتبطا بزمانه ومكانه وقضاياهما، وقابلا من جرّاء ذلك للمراجعة والنقد والتغيير كلما تغيّرت الأزمنة والأمكنة والقضايا، فلا ثابت إلا كلام الله، ولا أحد يثبت على مر الدهور غيره سبحانه. (يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير / صورة الواجهة: سطور.