آراء ومواقف

العلاج عن طريق وسائل التواصل: خطر داهم بكل تأكيد!! (مغرب التغيير – الدار البيضاء 27 دجنبر 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 27 دجنبر 2024        م.ع.و.

الآراء والأفكار المعبَّر عنها في هذا الباب لا تُلزِم هذه الجريدة

جرت العادة في كل الأزمنة الماضية، إلى غاية هذا الانفجار الهادر لتكنولوجيا التواصل الاجتماعي، أن يلجأ الواحد منا لدى مرضه، أو إصابته بأي وعكة مفاجئة، إلى طبيبه أو طبيب الأسرة المعتاد، أو الطبيب المزاول بمستوصف الحي، أو إلى أي طبيب مختص بنوع المرض أو الوعكة، ليفحصه ويصف له الدواء اللازم والمناسب بناء على نوع المرض، والحالة الفيزيولوجية للمريض، من حيث سِنُّه، وحجمه ووزنه، ولون بشرته، إن كان عاديا أو شاحبا أو مصفراً أو غيره، وقد يأمره بإجراء تحاليل طبية لأجل التأكد من الحالة، ونوعها، ودرجة الإصابة بها، وقد يطلب منه إنجاز صور بالراديو، أو بالرجع أو الصدى، أو بإجراء تخطيط كهرومغناطيسي لومضات النورونات الدماغية، أو نبضات القلب وانقباضاته داخل التجويف الصدري، وقوة تدفق الدم في الشرايين، حتى يتسنى له أن يضبط العلاجَ ونوعيتَه ومدتَه الزمنية… وكل ذلك، يعتبر من البديهيات التي يلتزم الأطباء باحترامها، مهما اختلفت تخصصاتهم، لأنها تدخل ضمنيا تحت “قسم أبيقراط” الذي يؤديه كل طبيب لدى تخرّجه، وقبل رسمه أولى الخطوات في درب مهنته النبيلة والإنسانية بكل المعايير… هكذا جرت العادة في كل العصور السالفة.

غير أن الدخلاء على مهنة الطب لم يخل منهم أيّ عصر، فكان هؤلاء يتدخلون كلما سنحت لهم الفرص بين المرضى والأطباء، وفي كل مرة بحجة أو مبرر مختلف، وما أكثر الحجج والمبررات، تارة باسم الطب النبوي، المفترَى عليه، لأن النبي إنما كان يعالج أمراضه ووعكاته بما كان سائدا في عصره ومجتمعه ولم يكن بالتالي يخترع شيئا من تلقاء ذاته، رغم أن فقهاء الضلالة نسبوا إليه تحت غطاء “الوحي الثاني” علاجات مثيرة للعجب والسخرية، بعضها قاتل بكل المعايير، مثل دفع “كل الأمراض” بأبوال الإبل؛ أو دفع أضرار السم والوباء بسبع تمرات على الريق؛ أو الاكتفاء بتلاوة آيات من الذكر الحكيم على أيِّ حالةِ حُمّى دون التعرف على مصدرها، إذ الحمى ليست مرضاً بل عرضاً ظاهرياً لمرض من الأمراض الخفية… رغم علمهم بأن الله وضع علمه رهن إشارة العلماء لينهلوا منه كل بقدر استطاعته، وبأن هذا العلم يتفرع منه الطب بمختلف تخصصاته، ورغم إيقانهم بأن آيات الذكر الحكيم أنزلها رب العزة وتعهّد بحفظها كوسيلة للهداية ولعلاج آفات العقول والنفوس، وليس كروشيتات طبية لمعالجة الآفات الجسدية والفيزيقية!!

أو نجدهم يفتون بكتابة آيات قرآنية بحبر معين ومحوها في الماء قبل شربه، حتى وهم موقنون بأن ذلك المشروب ليس إلا ماءً ممزوجا بالحبر، بغض النظر عن نوعية هذا الأخير، وعن احتمال كونه مصنوعاً من مواد كيماوية سامة أو مشعة أو ملوّثة أو مسرطِنة!!

ثم جاءت تكنولوجيا الاتصال فاتحةً مجالات التواصل الاجتماعي أمام كل هؤلاء، لا لتضيف شيئا إلى هذا العبث المنم عن مدى تخلف العقل العربي خاصةً، والثالثي عامةً (نسبة إلى العالم الثالث)، وإنما لتفتح أبواباً كثيرةً وواسعةً على مصاريعها أمام أولئك العابثين بالناس البسطاء وبالصحة العامة، إلى درجةٍ بتنا معها نطالع كلما فتحنا هواتفنا الذكية إعلانات لا يعرف الذكاء إليها طريقه، صادرة عن عشّابين ومتخصصين في التغذية يغلب الظن أن أكثرهم لا علاقة له بعلم التغذية، يصفون فيها عددا لا يُحصى من العلاجات الطبيعية لعدد لا يحصى من الأمراض، تحت ذريعة إنقاذ المرضى من المضاعفات الجانبية للعلاجات الكيماوية التي تباع في الصيدليات بمقتضى وصفات طبية يقدمها أطباء حقيقيون لمرضاهم، حتى أن بعض هؤلاء الدخلاء على مهنة الطب لا يجدون أدنى حرج في وصف علاجات من الأعشاب كبدائل للوصفات الطبية النظامية والقانونية، إلى درجة أن منهم من ينصح المريض بالذهاب أولاً إلى الطبيب ليتعرف على مرضه وليصف له دواءه، ثم اللجوء بعد ذلك إلى العشاب ليغيّر له الوصفة بما يعتبره أفضل وأسلم وأرخص وأكثر أماناً، كما يقولون، ضد التأثيرات الجانبية للأدوية الصيدلانية… يعني أننا هنا أمام مصيبة عظمى بكل المقاييس!!

المصيبة الأعظم والأفظع والأخطر، أن مئاتٍ بل آلافاً مؤلفةً من المرضى صاروا مقتنعين بأن وصفات هؤلاء الدخلاء هي الأمثل والأسلم بالفعل، بعد أن أفلح هؤلاء في إقناعهم بأنهم ضحايا أطباء يتاجرون في صحتهم بالتواطؤ مع الصيادلة وأصحاب المختبرات، حتى بتنا نطالع يوميا في وسائل التواصل الاجتماعي جحافل من المطبّعين مع ما يسمّونه “طبّاً بديلاً”، ويعتبرونه عين الحكمة، وخاصةً عندما يربطه أهله بـ”الطب النبوي” المفترَى عليه، والمنسوب للنبي الكريم ظلماً وعدواناً، وهو بريء منه براءة الذئب من دم يوسف!!

على الناس والحالة هذه، أن يعلموا ويوقنوا بأن وسائل التواصل الاجتماعي ليست عياداتٍ طبيةً، ولا هي مراكزَ ولا معاهدَ ولا مؤسساتٍ للبحث العلمي والطبي والاستشفائي، ولا هي حتى فضاءات للتباحث في مجالات الدراسة العلمية للأمراض والأوبئة والآفات البدنية والنفسية والسيكولوجية أو السلوكية… وإنما هي مساحات للتواصل وتبادل الخبرات والاهتمامات والتجارب خارج أي تخصص من التخصصات التي لها أهلُها وروادُها والمتفننون فيها عن جدارة واستحقاق.

إن كل مَن يرجع إلى وسائل التواصل الاجتماعي ليفحص مرضاً عن بُعد، أو ليجد دواءً كيفما كان نوعه بدون اجراء الخطوات العلمية المشروعة والتي من أجلها تأسست كليات الطب البدني والنفسي والسلوكي في كل بقاع المعمور… فإنه يلقي بنفسه إلى التهلكة، وبعبارة أوضح: يرتكب تلقائياً جريمة الانتحار بسَبْق إصرارٍ والترصّد!!

وحتى لو كان الأمر يتعلق، فقط لا غير، بحالة عياء بسيطة قد تكون نتاج يوم شاق ومتعِب، فإن موضوعها قد لا يخلو من خطورة، لأنها قد تخفي وراءها مرضاً كان شقاء ذلك اليوم مناسبة للكشف عنه والانتباه إليه قبل فوات الأوان، وقبل أن يتطوّر إلى مشكلة صحية لا رجعة فيها… نسأل الله السلامة والعافية!!

ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه هنا بكل إلحاح: ألا توجد في بلادنا مؤسسة أو هيأة مشرفة عمّا تنشره وتبثه وسائل الاتصال والإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي خصوصاً، يُعهَد إليها بقوة القانون بمهمة حماية السلامة والصحة العامّتَيْن من مثل هذه الظواهر الاجتماعية الضالة والمضِلّة… أقصد مؤسسة من قبيل “الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري”، التي في وسعها أن تقدم الكثير في هذا المضمار بالتنسيق اللصيق مع وزارة الصحة العمومية والمجالس المنتخبة؟.. من يجيب؟!!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصدر صورة الواجهة: ميدي1نيوز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى