آراء ومواقف
أخر الأخبار

بين يقينيات “الدين” واختلافات “التديّن” وتناقضاته!! 2/2 (مغرب التغيير – الدار البيضاء 7 مايو 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 7 مايو 2024           ع.ح.ي.

الآراء والمواقف المعبَّر عنها في هذا الباب لا تُلْزِم هذه الرقمية

لو أردنا كباحثين ودارسين للفكر الإسلامي أن نقف على حقيقة “الدين” الذي هو عند الله الإسلام، فأيّ المصادر ينبغي أن نعتمده في سبر أغوار هذا الموضوع؟ وأيّ المراجع نتوسل من خلالها الإجابةَ على أسئلة هذا الأساس الديني الحارقة؟

قد يقول قائلٌ: إن لدينا من أمهات الكتب ومن مدوَّنات الأحاديث وصِحاحِها ما يكفي لتلبية هذا الطلب وزيادة… غير أن واقع الحال سيردّنا بهذه الإجابة على أعقابنا خائبين. وتكفي نظرة سريعة، ولكنها عارفة وثاقبة، إلى أحوال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، للاقتناع بأننا نبعد بنحو خمسةَ عشرَ قرنا عن ذلك الهدف، لأننا انحرفنا منذ البدايات الأولى بدرجات تزداد اتساعاً وابتعاداً عن الحقيقة الدينية الخالصة، وبالتالي عن الجادة التي رسم لنا خريطتَها الأساسيةً رسولُ الله ونبيُّه محمدٌ، والتي حاول هذا النبيّ/الرسول جهد مستطاعه أن يقيَنا السقوطَ فيما ظلّ ومازال يكتنفها منذ البداية من المزالق والمَهالك. وإن الدليل على صواب القول بهذا الانحراف الهائل يسيرٌ وتبيانَهُ في غاية السهولة… فكيف ذلك؟  (تابع)

أُولى مكامن الشِّرْك المقنّع:

إنّ أخطر ما فعله أهل الحديث وجامعوه والقائلون بقدسية صِحاحه من السلَف والخلَف أنهم أشركوا مع الله من حيث يعلمون أو لا يعلمون، بإسباغهم صفة “الثبات” على غير كلام الله، مبرّرين ذلك بالقول بـ”الوحييْن” بدلاً من الوحي المنزَّل والمتفرِّد، حتى لا يتراجعوا عن موقفهم الباطل ويُراجعوا أنفسهم وأحكامهم، فأوقعوا بذلك – على مر التاريخ – ملايين وربما ملايير المسلمين والمؤمنين بالتراكم، بمن فيهم الفقهاء منهم، في مواطئ الضلالة. ولن يحتاج عاقل إلى التأكيد هنا على أنّ هذا النوع من الشرك المقنّع، كما يعلمون جميعا بكل تأكيد، يُعَدُّ عظيماً بكل ثقل الكلمة، إذ لا ثابتَ كما سبقت الإشارة سوى الله عز وجل وكلامه وأحكامه، وما دون ذلك فإنّ سُنّة الله أوْجَبَتْ إخضاعَه للمراجعة والتعديل والتغيير والتطوير.

رابعاً: غياب التمييز بين الإسلام والرسالة المحمدية

إن من أفظع الأخطاء التي ارتكبها السلف أيضاً أنهم خالفوا النص القرآني حين أطلقوا صفة “الإسلام”، حصرياً، على أمة الرسول محمد، فجعلوا بذلك كل المؤمنين والموحِّدين الآخرين من اليهود والنصارى والصابئة وغيرهم من الملل والنحل النوحية (نسبة إلى نوح) والإبراهيمية وغيرها خارج دائرة الإسلام في شموليته وكونيته، اللتين بيّنهما القرآن في أكثر من آية، حين نص على الأركان الثلاثة الأساسية للإسلام، وهي: الإيمان بالله الواحد الأحد؛ والإيمان باليوم الآخِر؛ وإتيان صالح الأعمال.

الأمة المحمدية ليست وحدها مسلمة:

الطامة أيضاً أنّ السلف زادوا على هذا الظلم تنظيراً آخر يؤكده ويرسّخه، ألا وهو تنصيصهم على خمس عبادات هنّ في حقيقتهن أركان للإيمان تخص الأمة المحمدية وجميع من ينضمون إليها على مر التاريخ، الذي نسميه نحن “تاريخاً إسلامياً”، وهو في حقيقته تاريخنا نحن فقط، جاعلين من تلك العبادات الخمس أركاناً للإسلام، والإسلام كما سبق القول أعم وأشمل مما يعتنقه المؤمنون أتباع محمد بن عبد الله، وأركانه كما سبق القول لا تزيد عن الثلاثة الكونية والعالمية سالفة الذكر.

هكذا، اعتبر السلف ومن تبعهم من “الفقهاء” (لا أقول “العلماء” بتاتاً لأن الفرق بين الاصطلاحيْن شاسع كما سيأتي بيانه في مقال لاحق) أنّ “المسلمين” هم “أتباع الرسالة المحمدية” دون أغيارهم، وطفقوا انطلاقا من هذا الاعتبار الباطل ينتظرون من جميع معتنقي العقائد والملل والنحل الأخرى، بما فيها التوحيدية، أن ينسلخوا منها بالجملة، وأن يعانقوا العقيدة المحمدية، كما لو كانت وحدها المنبثقة من ملة إبراهيم، الذي سمى الله سبحانه معتنقي عقيدته بالمسلمين من قبل، كما جاء في القرآن بكل الوضوح الممكن، حتى وهم يعلمون، أقصد السلف الصالح، أن الحق عز وجل أمر رسوله محمدًا، هو الآخر، باتّباع الملة الإبراهيمية، بل جعلها شرطاً من شروط صحة الرسالة المحمدية، وأمره بأن يخاطب اليهود بالقول إنهم “ليسوا على شيء حتى يحكّموا التوراة فيما بينهم”، مما يدل على أن الرسالة المحمدية لم تلغ العمل بالتوراة أو الإنجيل وإنما صدّقت ما بين يديها منهما وفضحت ما طالهما من التحريف، كما جاء في الكتاب الحكيم.

تكفير سكان الأرض بلا وجه حق:

لقد كانت النتيجة الحتمية لذلك الخطأ المبدئي، الذي ارتكبه السلف وما زلنا ننحو منحاه إلاّ من رحم ربُّك، أننا أو بالأحرى أن أغلب المؤمنين بالنبي الخاتم، صاروا يكفّرون كل معتنقي الديانات الأخرى بما فيها السماوية، التوحيدية، التي تكمّلها وتتمّمها وتختمها الرسالة المحمدية، ويَعِدُون أنفسهم وتابعيهم من جرّاء ذلك بالخلاص وبجِنان الخلد، ويصنفون كل الأغيار بتحصيل الحاصل في خانة المغضوب عليهم والضالين واصمين إياهم بكل أشكال الكفر والشرك والإلحاد ما ظهر منها وما بطن، ومُتَوَعّدين إياهم بالخلود في النار.

خامساً: تحويل الدين إلى صناعة

يتجلى هذا المنحى المنحرف عن الجادة في مظهريْن اثنيْن:

  1. الاجتهاد في ابتداع سيرة نبوية يحتدم النقاش حول صحتها وسلامتها من التصنّع والحشو والكذب بما فيها من الخرافات والمواقف الأسطورية المنقول بعضها بحذافيره من ميثولوجيات يونانية وفارسية وإسرائيلية… وحدِّث ولا حرَج؛
  2. صياغة تاريخ إسلامي“، أو بالأحرى أراد له صانعوه أن يكون “إسلامياً“، قُدِّمَتْ فيه الغزوات الجائرة الظالمة على أنها فتوحات إسلامية مشروعة، ووُصِفَ فيه قادة سفّاكون وقَتَلة بأوصاف الفاتحين الحائزين قصب السبق إلى جِنان الخلد، بينما هم سفكوا دماء الأسرى، وسَبَوْا النساء وعرّضوهن لأبشع أنواع الامتهان والاغتصاب، وحوّلوا صغارهن إلى إماء وعبيد بيعوا في أسواق النِّخاسة بأبخس الأثمان. ومصيبة المصائب أن هذا المآل الأسود لم يَنْجُ منه أهل بيت الرسول أنفسهم، بل كانوا من أوائل ضحاياه مع بداية “مُلك” معاوية ومن ورثه من بعده.

سادساً: استبدال أحكام القرآن وحدوده بفقه

دموي أُسبَغَ التقديسَ على روادِه ومنظريه

على إثر انقضاء عهد الخلافات الراشدة، التي لها بدورها ما لها وعليها ما عليها، وظهور الخلافة الأموية، تليها العباسية، برز إلى ساحة التفقيه “فقهاء”، يسمّيهم البعض ظلماً وعدواناً بـ”العلماء”، تنصلوا من أحكام القرآن وحدوده وأوامره ونواهيه، وابتدعوا فقهاً أطلقوا عليه وصف الشريعة جعلوا بعضه ناسخاً للشرع القرآنيّ، ولكي يُجيزوه ابتدعوا له أحاديث نسبوها للنبي مسبغين عليها صفة الوحي الموازي أو “الوحي الثاني” بعد أن قالوا بوجود وحييْن أحدهما قرآني، والثاني شامل لأقوال النبي وأفعاله وحركاته وسكناته، الآدمية العادية، التي اعتُبرت في نظرهم عُنوَةً من صميم الوحي كما تَقَدّم.

بناء على هذا الطرح الغريب، طفق هؤلاء ينظِّرون لتاريخ “إسلامي” دموي لا صلة له من قريب ولا من بعيد بما جاء به الرسول ممّا تَنَزَّل عليه من الوحي. وزادوا على ذلك كله بأن أسبغوا على أنفسهم، وبالتوارث على الفقهاء من بعدهم، الشبيهين بالكهنوت، أرديةَ القداسة حتى صار التراث الموروث عنهم صنواً للنص المنزّل، بل فاق هذا الأخيرَ في القداسة إلى درجة القول بنسخ التراث للنص.

 سابعاً: التفرُّق في الدين شِيَعاً

كأنما حرص فقهاء السلف عمدًا على مخالفة أوامر الحق سبحانه ونواهيه، أنتجوا للمجتمع المحمدي، الذي يُقْصِرون عليه صفةَ “الإسلام” حصراً، آراءً وفتاوِيَ فقهيةً مختلفةً، وأحيانا متناقضةً حول الموضوع الواحد من الموضوعات المطروحة على بساط التنظير والإفتاء، فأنتج ذلك بدوره شِيَعاً شتّى، وانتهى بتحصيل حاصل التعصب والتعنت، المذمومين والمَنْهي عنهما في الكتاب، إلى ظهور طرائق قِدَداً، وفرق متناحرة داخل الخندق الواحد. وقد كانت البداية بإقرار أربعة مذاهب فقهية، وربما أكثر، تحت شعار “الاختلاف رحمة”… وقد رأينا ولمسنا فيما بعد إلى أين قادنا هذا الضرب من “الرحمة”!!

ولم تكد تنقضي العقود الأولى من الخلافة الأموية ثم العباسية حتى تناسلت أعداد وأسماء الفرق والشيع المحسوبة على المجتمع المسلم إلى أكثر من ثلاثمائة فرقة، فضلاً عن الطرائق والمذاهب والزوايا والإخوانيات المنتمية إلى كل فرقة على حدة.

نهايته، أن الأمة المحمدية لم تعد أمة واحدة، وبتحصيل الحاصل فالدين الذي صارت تدين به هذه الأمة لم يعد عينَ ما جاء به الصادق الأمين مبشِّراً على امتداد سنوات تبشيره وحكمه، بل ديناً آخرَ يختلف تمام الاختلاف عن ذلك الأساس الأول، يمكن أن نسميه “ديناً أموياً/عبّاسيا” ليس إلاّ، أو اختصاراً بـ”الدين الموازي”.

ثامناً: معضلة التفاسير بين المتجاوَز والباطل

من أفظع ما ابتُلِيَ به التراثُ الفكريّ والعقديّ عند من يسمون أنفسهم مسلمين (لا نسميه تراثاً “إسلامياً” لأنه ليس جديراً بهذه الصفة) أن السلف، من الفقهاء، بعد تحنيطهم العقلَ وسد أبواب الاجتهاد دونه، قرّروا داخل “هياكلهم” أنّ المسلمين عامة لا قدرة لهم على فهم مُراد الله في آيات كتابه الحكيم، وبالتالي وجب، حسب ظنهم، وإن هو إلاّ الظنّ، أن يُبَسِّطوا لهم آيات الذكر الحكيم لتيسير فهمهم له وتقريبه إلى أذهانهم، التي حكم هؤلاء الفقهاء عليها بالقصور، لولا أنهم بفعلتهم هذه جعلوا فهم الكلِم الإلهيّ يتخذ مناحي متعددة ومختلفة، وغالباً متضاربة ومتناقضة، ومن أجل تبرير تفاسيرهم تلك، والتي بنوا عليها ما سمّوه “تراثاً إسلامياً”، حرصوا على ابتداع أحاديث نبوية منحولة جعلوا بعضها كما سبقت الإشارة ناسخاً لآيات الذكر الحكيم وأحكامه… وهذه مصيبة أخرى تحتاج لأكثر من وقفة… وللحديث حتماً صِلَة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير / صورة الواجهة: النبأ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى