آراء ومواقف
أخر الأخبار

قصة سليمان والنملة ..تدبّروا معي يرحمكم الله!! (مغرب التغيير – الدار البيضاء 4 يوليوز 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 4 يوليوز 2024        ع.ح.ي.

الآٍراء والأفكار المعبَّر عنها في هذا الباب لا يُلزِم هذه الجريدة

اللغات أشكال وأنواع ومذاهب، مثلها في ذلك كمَثَل كلِّ ضروب الإنتاج الإنساني، سواء كان  عقلياً تنظيرياً، أو كان عملياً تطبيقياً أو غيره.
بناءً على هذا المعطى العلمي، الإبستيمولوجي، نجد بين لغات العالم، فضلا عن تعددها وتنوّعها اللسانِيَيْن، لغاتٍ أخرى كثيرةً نخص منها بالذكر:
– “لغةَ الجسد”، أو لغةَ الحركات بالإيماء؛
– “لغةَ الأثر”، وهذه يختص بها علماء الآثار وعلماء الأرض؛
– “لغةَ الأوضاع والهيئات”، حيث – مثلاً – تستطيع الطريقة التي يَدفِن بها قومٌ من الأقوام موتاهم أن تخبرنا عن العقيدة السائدة في مجتمعهم، إذ لكل عقيدة أو ديانة طريقتُها في دفن موتاها، وفي تَصَوُّرِها لما بعد الموت؛
– “لغة طبقات الأصوات”، التي تدلنا على الحالة النفسية أو العقلية للإنسان المُشَكِّل لمصدر الصوت… ومنها أيضا التعبير بالموسيقى والألحان؛
– ثم هناك نوع منفصل نسميه في أدبياتنا “لغةَ لسان الحال”، وهذه نستنتجها بالمنطق من ظاهر مصدر اللغة، إنسانا كان او حيواناً، أو حتى آلةً من الآلات أو جهازاً من الأجهزة، إذ يكون في وسعنا مثلاً أن نستنتج أنّ سيارةً ما تشكو من عطل أو عطب من الأعطاب من خلال ظاهر صوت محركها، أو صوت عجلاتها أثناء الحركة، فيكون الصوت الظاهر والصادر عنها معبّراً عندنا “بلسان حالها” عمّا تشكو منه من أنواع العَطَل.

والحال أنّ هناك أنواعاً أخرى لا يتسع المقال لعدّها، وإنما الذي يهمنا منها في هذا التدبّر هو “لسان الحال” بالذات.
فشدّوا أحزمتكم، مرة أخرى، لأننا سنخرج عن الطريق الجاهزة التي عبّدها “السلف” من المفسّرين، فتركوا فيها تَضاريسَ ملئى بالحُفَر والمطبّات!!
بدايةً، وكما دل العنوان أعلاه على ذلك، نحن هنا بصدد قصة نبي الله سليمان مع النملة، التي أنذرت عشيرتها بالإسراع إلى بيوتها والاحتماء بها مَخافةَ أن تدوسها أقدام عساكره وهم لا يشعرون…  قال تعالى: “حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوْاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ” (النمل-18)، وكيف أن سليمان فطن إلى ذلك فتبسّم من قولها، وشكر ربه أن هداه إلى هذا الضرب من الفهم، خلافاً لكل أفراد حاشيته وقادته العسكريين وجنوده وأهل عصره!!
أول ما يواجهنا ونحن نحاول فهم هذا الموقف العجيب، أقوال المفسرين، الذين انقسموا كعادتهم إلى مِلَلٍ ونِحَلٍ تفسيرية أغلبُها بعيد عن الواقع، فلم يجدوا لتيسير هذه المهمة على أنفسهم سوى اعتبار ذلك الحدث معجزة من المعجزات (الله يسمّيها آيات بيّنات) التي خص بها الله سبحانه نبيه سليمان، فكان ذلك بالنسبة لهم مَخرَجاً سهلاً يُعفيهم من واجب التدبّر القرآني، الذي أمرنا رب العزة بممارسته والاستعانة عليه بـ”ترتيل” الآيات، بمعنى تفكيكها ثم جمعها بناء على وحدة الموضوع، وذلك للإحاطة بالموضوع ذاته كما جاء في القرآن من مختلف جوانبه، وبالتالي تحقيق فهم أفضل وأعمق لمقاصده ومراميه، وذاك هو “الترتيل”، وليس قطعاً بالمعنى الذي أجمع عليه المفسرون من السلف، والذي يفيد “تجويد” التلاوة القرآنية و”تنغيمها”، جاعلين القرآن بذلك مجرد “ظاهرة صوتية” لا تختلف عن الأغاني والمواويل!!
كنت أقول، إن المفسرين من السلف اختاروا أسهل فهم وأكثره تسطيحاً، وهو القول بمعجزة تَعَلُّم سليمانَ للغة النمل، ولم يدركوا، برصيدهم العلمي المتواضع، أن النمل لا يتواصل بالأصوات ككثير من الكائنات، المتمتعة بالحبال الصوتية، وإنما يتبادل المعلومات بالتلامس بواسطة شعيرات دقيقة موجودة بمقدمات رؤوسه، وبفضل لُعاب يشتمل على محلول كيميائي ينطلق من تلك الشعيرات، بحيث يمكن لأي مادة جافة وناعمة كدقيق القمح، مثلاً، إذا ألقِيَتْ على صفوفه، أن تفسد عليه تواصلَه، وتشل وسيلته في الاتصال وتجعله يهرع إلى مخابئه، أو يلجأ إلى تغيير مَساراته مبتعدا عن ذلك الحاجز المرعب والمفاجئ، علما بأن هذا النوع من الاتصال بالذات هو السبيل الوحيد إلى تنظيم حركاته الاسترزاقية والدفاعية والحِمائية!!

الوسط الكويتية

مفسرون آخرون، من المتنورين، وبعضهم ممن يُطلَق عليه وصف “القرآنيين”، وهؤلاء يخاصمون تراث السلف ويُجافونه، قدّروا أن النملة ومجتمعها، بواد النمل المذكور في الآية أعلاه، إنما هي إشارة بالرمز إلى أهالي المنطقة التي وقف سليمانُ وجنوده على مشارفها، وهم من المزارعين البسطاء والمستضعفين، الذين اعتادوا بين الحين والآخر على الوقوع ضحايا غارات كان يشنها عليهم قطاع الطرق ومقاتلو القبائل الباغية، التي كانت لا تنتج شيئا وإنما تطلب غذاءها وغنائمها بالقوة والقهر من أمثال أولئك الفلاحين البسطاء… وهذا تفسير يبدو أقرب للواقع من مجرد القول بتعلّم سليمان للغة النمل، علماً كما سبق القول، بأن النمل لا يتواصل بالأصوات أو بالمنطوق، كما أن القرآن لم ترد فيه أي إشارة إلى أن النبي سليمان علمه ربه لغة النمل، بل جاء فيه أنه علمه “منطق الطير” فحسب!!
حسناً… لنتصوّر الآن أن شخصاً متأملاً ومتدبِّراً اِعتاد على تتبع حركات النمل وطُرُقِه الفذة في التعرف على مصادر غذائه وتبليغ هذه المعلومة لمجتمعه، وفي نقله الغذاء بنظام وانتظام إلى بيوته، المُشيَّدة تحت سطح الأرض بحس غريزي عجيب وهندسة في غاية الإحكام. ولنفترض أن هذا الشخص أخذ عودا فلمس به نملة واحدة في طليعة أو مؤخرة أحد صفوف ذلك النمل، فما الذي سيحدث؟
سيقع على الفور ارتباك على طول الصف، وستبدأ جحافل النمل في تغيير سرعة حركاتها، وتغيير وجهاتها، وبدلا من انتظامها في صفين متوازيين، أحدهما ينقل أفرادُه الغذاءَ إلى البيوت، وثانيهما يقفل راجعاً باتجاه مصدر الغذاء للتعاون على نقل كميات أخرى منه… بدلا من ذلك، يتحول الصّفّان معا إلى صف واحد يتحرك في اتجاه واحد وبمنتهى السرعة، وهو اتجاه البيوت والمخابئ، وبذلك يبدأ الصف الموحّد في التقلص إلى أن يختفي بالكامل، مادامت جحافل النمل في ذلك الموقع قد اختارت الاحتماء ببيوتها ومخابئها بأقصى سرعة ممكنة خوفا من الخطر الذي أنبأتهم به النملة ضحية تلك المشاكسة!! فما هو تفسير هذا كله؟
إن تفسيره أن النملة التي لمسها ذلك الشخص، بعود أو بغيره، مرّرت للنملة الموجودة أمامها أو التي خلفها رسالة بالتلامس ضمّنتها إنذاراً بالخطر، فمررتها النملة المستقبِلة بدورها لمن تليها بنفس الوسيلة… وهكذا انتقلت “المعلومة الإنذارية” بسرعة قياسية جعلت النملات المستقبلة لرسالة الإنذار ترتبك وتتدافع، وبذلك عمت الفوضى والتدافع على طول الصف، بما يوحي بأن الرسالة صارت معمّمة غريزياً على كل النملات العاملة في ذلك الموقع… سبحان الله!!
إن هذا يجعلنا نفهم من خلال “لسانِ حالِ” النملة الأولى،  سالفة الإشارة، أن هناك رسالة إنذارية تلقّتها وهي في بداية الصف أو مؤخرته، وأنها أبلغت مجتمعها بالكامل بنص تلك الرسالة وحثته بالتالي على توقيف عملية نقل الغذاء وتخزينه والإسراع توّا إلى داخل السراديب والمخابئ ليحتمي بكل مكوّناته من الخطر الداهم!!
هذه هي لغة “لسان الحال”، التي يمكن للمتدبر أن يترجمها إلى كلمات نعقلها نحن، من قَبيل ما جاء في الآية الكريمة أعلاه، والتي أعتقد شخصياً أن النبي سليمان استطاع بواسطتها ومن خلالها أن يفهم ما وقع أمام ناظريه، وهو يشاهد صفوف النمل تهرع إلى مخابئها خوفا من أحذية جنوده، وأن يفطن بالتالي إلى أن نملة كانت في طليعة الصفوف، صاحت في جموع النمل: أهربوا إلى مساكنكم قبل أن يحطمكم هؤلاة الغُزاة وهم لا يشعرون!!
ومرة أخرى فالنمل، كما يقول العلم الحديث، لا يتواصل بأي لغة صوتية يمكن أن نقول إن سليمان تعلّمها وحياً من عند ربه، بل تتواصل بحركات ولمسات أدركها سليمان لكونه مؤمنا متدبّراً ومتفكِّراً في الخَلق من حوله، وهذه خاصية لا يتمتع بها إلا القليلون من النساك والزهاد والمتدبِّرين والمتأملين، في مختلف المِلَل والنِّحَل والعقائد.
هذا مجرد افتراض شخصي لا أدّعي به امتلاك حقيقة هذا الأمر، ولكنه افتراض قائم على حقيقة علمية ثابتة، وناتجة عن سنوات طوال قضاها علماء الطبيعة والبيولوجيا في البحث والدراسة في مختلف المجالات عامةً، وفي دنيا الحشرات خاصة، وعالَم النمل منها بشكل أخص.
ويبقى القول بالضرورة، إن هذه الفرضية لا ترمي، مطلقاً، إلى نفي تَمتُّعِ سليمان بالحظوة واستئثاره بآيات بيّنات منزّلة من عند ربه جلَّ عُلاه، وهو الذي استجاب ربه لدعائه فأتاه “مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده” كما ورد في الذكر الحكيم… فسبحان الله!!!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصدر صورة الواجهة: CNN Arabic

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى