المهام الدستورية للأحزاب المغربية.. هل ستظل حبراً على ورق بعد تجارب ماضية شبه مقبولة؟! 2/2 (مغرب التغيير – الدار البيضاء 23 يوليوز 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 23 يوليوز 2024 ع.ح.ي.
الآراء والمواقف المعبَّر عنها في هذا الباب لا تُلزِم هذه الجريدة
إنّ الحديث عن الأحزاب الموصوفة بـ”الإدارية”، لا يُثير في الواقع نفس الإحساس بالغُبن والحسرة كالذي يُثيره ذكر الأحزاب الأصيلة والمتقاعسة عن أدوارها الدستورية، بل يُثير مشاعر السخرية والتَّنَدُّر، لأننا ما كنا ننتظر منها أصلاً إلاّ ما أبانت عنه من العبث واللامعقول.
نؤكّد هنا، تحت ضغط الواقع المُعاش، بأن هذه الأحزاب قد تفرّغت في حقيقة الأمر لممارساتها القديمة بعد أن لم يعد لها ما تفعله داخل أجهزة الحكومة، كالدسّ والتآمر داخل تشكيلات البرلمان والجماعات المحلية، والاختلاء بالمال العمومي على صعيد الجماعات بالذات، والاستفراد به، والإثخان فيه بكل الوسائل الممكنة.
ويرجع تفاقم “النُّبوغ” في الفساد والإفساد لدى منتخبي الأحزاب الموصوفة بالإدارية، إلى هَنّاتِ نُظَرائهم في الأحزاب الموصوفة بالوطنية “التقدّمية”، الذين انقلب عددٌ غيرُ قليلٍ منهم على مبادئه فصار شبيهًا بهؤلاء، فاختلط الحابل بالنابل، وعمّت فوضى عارمة لم يسبِق لها مثيل، حتى فيما قبل تجربة التناوب غير المأسوف عليها، فصار بيننا اليوم أنفارٌ يتحسَّرون على أيام حكومات العهد البائد، التي كانت، كما يقول بعضهم، “تَاكُلْ وتْوَكَّلْ”، بمعنى أنها كانت، بالرغم من تهافُتها على السلطة والجاه والثروة، تُحقِّقُ منجزاتٍ لا يُستهان بها على الصعيد العام.
يمكن القول، إذَنْ، كمبرّر لهذا الانتشار الفاحش وغير المسبوق للفساد والإفساد، إن هوان الأداء الحزبي في صميم تجربة التناوب التوافقي وما جاء بعد هذه بالذات، هو الذي أفضى إلى نشوء نوع من التقارُب في العبث والسَّفَه بيْن مُفسدي الأمس وخصومهم القدامى، فـ”تشابه البقر” على المتتبِّعين، ولا يزال على هذا النحو إلى غاية الساعة الراهنة.
نعزِّز هذا القول بأمثلة لا تزال حية:
- فضيحة المدير السابق للبنك العقاري والسياحي؛
- فضيحة المدير العام الأسبق للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي؛
- فضيحة المدير السابق لمكتب مطارات المغرب؛
- فضيحة الرئيس السابق للتعاضدية العامة لموظفي الإدارة العمومية؛
- فضيحة “النجاة” التي تورّط فيها وزيرٌ للشغل، أثناء استوزاره، يجمع حزبه بيْن نقيضَيْن يصعُبُ الجمع بينهما في الذات الواحدة، ولا في الخيال، هما اليسارية التقدمية والسلفية المحافِظة(!!!)
ولأن السياسة لها نزواتُها الخاصة، والتي تجعل منها استثناءً في غاية التفرُّد، ومن باب سخرية القدر أيضًا، فإن ذلك الوزير لم يُحاكَم، بل ولم يُساءل بأي شكل من الأشكال، وإنما صار بالصّدفة وزيرًا أوّل!! ونقول “بالصدفة”، لأن مجيئه إلى هذا المنصب الكبير، لم يأت نتيجة تقدّم حزبه على باقي الأحزاب بفضل التحلّي بإرادة السبق والتفوّق وامتلاك ناصيتيْهما، بل نتيجةَ عزوف نحو ثلاثة أرباع الناخبين عن صناديق الاقتراع، الأمر الذي توّجَ حزبه بالمرتبة الأولى بأصوات لا يتعدّى مجموعها 1/14 من الكتلة الناخبة.
نلاحظ أنّ “دُرَرَ” هذه الخماسية، التي أدرجناها أعلاه على سبيل المثال فحسب، تقدُّميةُ الانتماء كما هو معلوم… والقائمة طويلة وحافلة، يشهد عليها التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات، الذي يُفتَرَض أن يقود إلى المحاكمات والمعتقلات جمهورًا عريضًا من المسؤولين والمنتخبين المنتمين إلى جميع الأحزاب وكل الانتماءات بلا استثناء.
بيد أننا إذا خرجنا من باب فضائح المتحزِّبين هذا، لنُعَرِّجَ على باب الفعل السياسي داخل الأحزاب ذاتِها، وفيما بينها، فإننا سنجد أن أكثرها استئثارً بشعارات الديمقراطيا والتشارُك والحداثة، لا يستقيم قِطارُهُ على سكّةِ أيِّ واحدةٍ مِن هذه المُسَمَّيَات في ممارسته للعمل الحزبي، فكيف له أن يُحقِّق لنا ذلك على صعيد تدبير الشأن العام؟!
إن المؤتمرات العامة العادية لِجُلِّ الأحزاب أو جميعِها لا تنعقد في آجالها المحدَّدة إلاّ فيما نَدُرَ من الحالات، أو بفعل الصُّدفة، أو لأسباب قاهرة وطاغية يصعب القفز عليها. والسبب في ذلك أنّ القيادات الحزبية تستطيبُ البقاء فوق مقاعد الزعامة، ما دام ذلك لا تتبعه أي مساءلة أو محاسبة، حتى وهي ترى شباب تلك التنظيمات يتكَهَّلون، ويَشيخون، ويَهْرَمون، دون أن تتاح الفرصةُ لأَوْفَرِهِمْ حَظًّا كيْ يأخذَ دَوْرَه في إطار تناوب منطقيّ تقضي به سُنَّةُ الحياة، ما عدا في الحالات التي يكون للقادة فيها أبناءٌ أو أقارب يجتهدون في توريثهم مناصب الزعامة، ضدًّا على كلِّ ما يجرى به العمل من الأنظمة والقواعد والأعراف.
إنّ الزعامات في طلائع أحزابنا لا يُنهيها إلاّ مَلَكُ الموت، أو دسيسةٌ يتلوها انقلابٌ بلا مرجعيات واضحة، وبلا مبرِّرات سوى تكييف جُبّة قيادية متقادمة لجَعْلِها على مقاس زعيمٍ جديد، قد يكون قادمًا من الفضاء، في ظلّ فَوْرَةٍ للتدافع على مناصب الزعامة لخدمة أوطارٍ لا صِلَةَ لها بالمصلحة العليا للوطن، ولا حتى بالمصالح الحزبية المُفْتَرَضَة (ما وقع بين المنصوري ومزوار في حزب التجمع الوطني على سبيل المثال).
هكذا نجد أنّ الديموقراطيا هي آخر هموم قيادات حزبية مَتحفية، ومنتهِيَة الصلاحية، ومستسلِمٌ معظمُها لِخَرَف الشيخوخة… وبالرغم من ذلك، نجدُها تُضَمِّنُ خطاباتِها وعودًا بدعم المسار الديمقراطي والتشارُكي على صعيد الحياة العامة، فلا تفعل بذلك سوى أنها تَبْصِمُ على سياسوِيَتِها وشَعْبَوِيَتِها الفاضِحَتَيْن، وعلى غباءٍ سياسي منقطع النظير.
ثم ماذا غير هذا؟ إن أحزابنا، إضافةً إلى كل ما سبق ذكرُه، لا تخجل من نفسها وهي ترطن بنفس البرامج، ونفس الوعود، وكأنها تنهل من مَعينٍ إيديولوجيٍّ واحد، ومن المرجعية ذاتها في الفكر والسياسة. وتزيد على ذلك، بأنْ تُرشِّحَ للاستحقاقات التي يُعلِّق المغاربة عليها عريضَ الآمال، أسماءً ووجوهًا وسُحْناتٍ عافها الجميع بسبب نزقها وهُلامِيَتِها المقرفتيْن، بينما تمتنع، بالمُقابِل، عن مجرّد مُساءلة الأسماء ذاتها عن نتائج ومردوديات مشاركاتها السابقة، العديدة والمختلفة، فبالأحرى أن تُحاسبَها أو تُحاكِمها ولو معنويًا وأدبيًا على ما قدَّمَتْهُ أو أخَّرَتْهُ في فترات انتخابها أو تعيينها المتوالية.
ثمّ ماذا أكثر من كل ما ذكرناه “مُكْرَهينَ لا أبطالاً”؟ لا شيء يُذكر، ما عدا تنفير المواطنين من السياسة، ودفعهم بتحصيل الحاصل إلى تجنّب الاقتراب من صناديق الاقتراع كما لوْ كانت هذه صاعقة أو مُلطَّخَة بما لا يَحْسُنُ ذِكرُه.
النتيجة؟ موت الأحزاب، المؤدّي بداهةً إلى “موت السياسة”، في بلد يتموقع بيْن قارّات ثلاث، أمريكا وإفريقيا وأوروبا، وبين حضارات عريقة تنتظر منه أن يكون مُحاوِرًا بأبعاد متعدِّدة: أمازيغية وعربية وإفريقية زنجية وأندلسية إيبيرية؛ إسلامية ويهودية ومسيحية؛ ليبرالية حداثية واشتراكية علمانية وإسلامية معتدِلة ومتفتّحة… وكلّ هذه، يكرسها ثراءُ الذات المغربية وتنوُّع مكوِّناتِها الإنسانية، الإثنية والثقافية والجغرافية والعَقَدية والفكرية… ولكن، “على مَن تقرأ زبورَكَ يا داوود”؟!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير / صورة الواجهة: العربية.