من كل الآفاق

“الشعائر” و”الطقوس”: تشابه في الظاهر.. واختلاف الجوهر!! (مغرب التغيير – الدار البيضاء فاتح دجنبر 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء فاتح دجنبر 2024           ع.ح.ي.

كثيراً ما يرد تعبير “الشعائر والطقوس” بنوع من الارتخاء في القول، بما يوحي بتشابه اللفظين والمعنيين، بالرغم من وجوب وجود الاختلاف والمُغايَرة بينهما من جرّاء عطف أحدهما على الآخر (واو العطف يفيد المُغايرة في قواعد اللغة والبلاغة)، لأنه بالبداهة، وفي حالة القول بتماثل اللفظين، لا يجوز لنا أن نذكر هذا التعبير المزدوج ونحن نريد به “الشعائر والشعائر”، أو نريد به “الطقوس والطقوس”. هكذا يقول منطق اللغة خصوصاً، ومنطق الأشياء عموماً. وما دام التفريقُ بين اللفظين والمعنيين واجباً ومُحَتَّماً، بناء على القاعدة العامة: “إذا اختلف المبنى اختلف المعنى”، فمن الأحرى بنا الوقوف عند كل منهما على حدة، للتعرف بإيجازٍ على حدودهما في جغرافيا البلاغة اللغوية.

1 ـ الشعائر

ورد ذكر “الشعائر” في القرآن الكريم مضافةً إلى اسم الجلال (شعائر الله) مع ذكر واجب تعظيمها، مما يجعل لها خصوصية بالغة التميُّز عن غيرها من أفعال العبادات الظاهرة. وبالتالي فهي ذات مصدر إلهي لا يرقى إليه الشك.[1]

مبدأ الكمال في الشعيرة:

إن الشعائر منزّلة وموحى بها، ومن ثَم لا تجوز الزيادة فيها أو النقصان منها من لدن الإنسان مهما كانت المبررات، لأن المنطق يقتضي أن يزيد الإنسان في شيء يُفتَرَضُ أنْ يشوبه النقصان، أو ينقص من شيء تعيبه الزيادة والحشو غير النافع، وبطبيعة المنطق ذاته، فما أنزله العليم الحكيم على أنبيائه ورسله من الأوامر والنواهي، ومنها الشعائر بالذات، لا يجوز وصمه بإحدى هاتيْن الآفتيْن (النقص والحشو).

يُفهم من هذا أيضًا أن الشعائر تشكّل وسيلة عبادة، بمعنى أن مقاصدها ذات اتجاه عمودي (بين العبد وربه) وهذا حتى في حالة الأخذ بشعيرة ذات مظهر أفقي، كالصدقات الموجهة أفقيًا من مانحيها إلى المنتفعين منها، لأن الهدف إنما هو التقرب إلى الحق سبحانه، وبالتالي فهذه الشعيرة ذات المظهر الأفقي تكون في جوهرها وحقيقتها عمودية ككل العبادات. بل إن المعاملات بين الناس أيضًا ينبغي أن تكون كالشعائر ذات جوهر ومقصد عمودييْن بمعنى أن يكون رضوان الله مصدر تصويب وتسديد للأفعال التي يأتيها الإنسان خلال معاملاته مع أخيه الإنسان أو مع أي كائن آخر يشاركه مساره الأرضي، سواء كان ذلك الآخر ظاهرًا أو محتجبًا، وسواء كان عاقلاً أو غير عاقل، أو كان مكلَّفًا أو مُعفى من التكليف.

بيد أن بعض المفسرين يحصرون الشعائر في “مناسك” الحج والعمرة، ودليلهم على ذلك ورود ذكر الشعائر ضمن تلك المناسك. غير أن مفسرين آخرين رأوا أن الشعائر تشمل كل ما نزل من الأوامر والنواهي. وقد جاء في المعجم الوسيط: «الشعائر جمع شعيرة وهي ما ندب الشرع إليه وأمر بالقيام به» وجاء فيه أيضًا: هي «مظاهر العبادة وتقاليدها وممارساتها».

والحال أن هذه المعطيات البيانية تؤكد أن الشعائر لا يمكن ولا يجوز أن تأتي من عند الإنسان، وهي بهذا التوصيف تشكل وسيلة اتصال بالحق بالكيفية التي بيّنها لرسله وأنبيائه ليلقّنوها لأقوامهم، تمامًا كما بيّن الحق سبحانه لآدم “كلمات فتاب بها عليه”.

وهذا بالذات، هو الذي يفصلها ويميزها عن الأفعال التعبدية الأخرى، الخارجة عن هذا النطاق، والتي لا يمكن بالمنطق والبداهة أن تؤدي إلى نفس النتائج أو تخدم نفس المقاصد سالفة الإشارة.

2 ـ الطقوس

عندما نقول “طقوس”، ينبغي أن ندرك للتو أننا بصدد “تطبيقات غير منزَّلة”، وبالتالي غير دينية، ومجهولة المصدر والمسار والمآل.

وليس بالضرورة أن تكون تلك التطبيقات لا دينية بمعنى مضادة للدين، وإنما نقول إنها غير منزّلة، وبالتالي فمنها ما يسير بمحاذاة الشعائر الدينية، كما أن منها ما يعارض تلك الشعائر ويسير في الاتجاه المعاكس، والاتجاه المعاكس لا يمكن أن يكون والحالة هذه إلا سبل متفرقة تنتهي إلى التفرقة وزرع العداوات والأحقاد بين أبناء المجتمع الواحد والأسرة الواحدة.

مثال الطقوس القريبة من الشعائر، بعض البدع التي يرمي ممارسوها إلى “الزيادة في الدين” (على وزن “الزيادة في العلم”) وهذه الزيادة يسميها فاعلوها “بدعًا محمودة”، مع العلم بأن البدعة تبقى بدعة، وبأن إتيانُها يشكل اتهامًا ضمنيًا بأن شعائر الله غير تامة، وأنها مصابة بآفة النقصان، ولذلك يَزيد المبتدِع عليها حتى تكتمل. وبطبيعة الحال، فهذا المنحى باطل تمام البطلان، ولا يجوز الأخذ به من لدن أي عاقل يدرك منطق الأشياء، لأن الله تعالى قال في مُحكَم آياته: “اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا” (المائدة ـ 3) ولذلك فأي زيادة في الدين تُعتبَر بالبداهة تنقيصًا من كمال هذا الأخير، ما عدا، بطبيعة الحال، الزيادة في أعمال البر والإحسان، التي شرّع الله تعالى “أن يتنافس فيها المتنافسون” (المطففون ـ 26) بمعنى: التنافس على تحصيل ثواب الأعمال والفوز به.

وما يهمنا نحن من هذا الأمر هو أن الشعيرة الدينية عندما تختلط بطقس من الطقوس فإنها تتحول إلى طقس، وهذا يشكل خطرًا داهمًا على ممارسة العبادة بمختلف حركاتها وسكناتها… فكيف ذلك؟

إننا نعلم بأن مسلمين من العجم، من الفرس والتُّرك وبلاد الرومان وبلاد الهند والسند وغيرهم من الثقافات غير العربية، جاءوا إلى الإسلام فاعتنقوه ولكنهم نقلوا إليه بعض مقومات فكرهم العقدي، وبعض التطبيقات والطقوس التي درجوا عليها قبل اعتناقهم صيغة الإسلام المحمدية، المكمِّلة للدين، كتقديس الموتى وجعل قبورهم مساجدَ، وتقديم هدايا للقيمين عليها هي في حقيقتها مقدمة للراقدين فيها من الموتى… إلى غير ذلك من التطبيقات، كالبخور، والطواف حول القبور، وإهداء الذبائح لأرواح الموتى، وإشعال الشموع للتقرب من ساكنة تلك الأماكن من الهالكين، وإقامة أنواع مختلفة من “الزار” أو “الجذبة” حيث تختلط فيها الأجساد من الجنسيْن معًا، وتشتد فيها الملامسة بين المجذوبين والمجذوبات ويتيه خلالها العقل عن روعه فيفقد صوابه ولا يعود ضابطًا لحركاته وأقواله وأفعاله… وكل ذلك ليس من الدين، وبالتالي ما أنزل الله به من سلطان.

والغريب في كل ذلك، أنه يتم ويستمر في الزمان والفضاء، وإلى غاية أيامنا هذه، تحت غطاء شعائر الدين، والشعائر الدينية منه براء.

هذا النوع من الإضافات الوضعية، كان سببًا رئيسيًا في تفرّق المجتمع المسلم إلى شيع، وفي حرص كل فريق على التعصب لطريقته و”طقوسه”، فضاعت الشعائر الأصيلة في نهاية المطاف، وقد كانت تهدف بالبداهة إلى توحيد الصف وجمع الكلمة، ولم يبق بعدها إلا “الطقس” والتطبيق المصنّع في معامل العقل المتأسلم، الذي صار والحالة هذه تحت وَقْع تخدير شديد العمق و بالغ الصعوبة أصبح مع مرور الزمن ورسوخ تلك العادات الدخيلة جزءًا لا يتجزّأ مما يسميه هؤلاء إسلامًا، بعد أن صار ممارسوه يعتقدون فعلاً أنه من شعائر الإسلام، حتى أن علماءهم ومفكريهم بحثوا له عن جذور في تاريخ الفكر الإسلامي، وأوجدوا له عنوةً انتماءً إلى الدين بشكل أو بآخر.

إن الذي أردنا الخلوص إليه من خلال مناقشتنا لهذا الموضوع، أنّ “الشعيرة” الدينية إذا طالتها الزيادة أو النقصان تحولت إلى “تطبيق” أو “طقس” بشري لا علاقة له بالدين، وتحولت ممارستها بتحصيل الحاصل إلى سلوك مختلِف لطريق مختلفة لا تنتهي أبدًا إلى ما كانت تنتهي إليها ممارسة الشعائر الدينية الأصلية، من اتصال بقوى النور، ومن قرب من “النور” الخالص (وهو اسم من الأسماء الحسنى). وتكون النتيجة والحالة هذه اتصالاً بقوى شيطانية، ولكن المتصل بها لا يدرك ذلك في غالب الحالات، لماذا؟

لأنه يعتقد نفسه سالكًا في السكة الصحيحة والمحجة البيضاء… فكيف ذلك؟ سوف نقدم لشرح هذه الفكرة مثالاً في غاية اليُسْر والبساطة:

1ـ لنفترض أن لدينا صهريجيْن ممتلئيْن بصباغة بيضاء نقية وناصعة، بحيث نراهما متماثليْن تمام التماثل تكريسًا لحقيقتيْهما معًا.

2ـ لنفترض أننا أخذنا قلم حبر أسود وأنزلنا منه قطرة صغيرة من ذلك الحبر في أحد الصهريجيْن، ثم حرّكناه جيّدًا، بحيث يختفي أي أثر للسواد.

3ـ إن النتيجة ستكون من منظوريْن اثنين مختلفيْن:

المنظور الأول: يقول إن الصهريجيْن متماثليْن ومتطابقيْن لأن أولهما لا يختلف عن الآخر في أي شيء بتاتًا، وهذا ما يظهر للعين بالفعل، ولا يقدر أحد غير الشخص الملم بالعملية أن يميز بين الصهريجين أو يُدرك أن أحدهما قد تغير جوهرهُ ومحتواه عن الآخر.

والمنظور الثاني: يقول إن الصهريجيْن لم يعودا متشابهين ومتماثليْن لأن أحدهما تغيّر جوهرُه وصارت به شائبة بالرغم من عدم تجلي ذلك في ظاهره.

4ـ إنّ العلم، والعلم وحده، هو الذي يجعلنا نميز بين الحوضيْن. بمعنى أن يعلم المرء أن أحدهما قد ألقيت فيه قطرة غير بيضاء، وبالتالي فإن باطنه تغيّر دون ظاهره، وليس أعلم بحقيقة الصهريجيْن مِن الذي غيّر أو شهِدَ على تغيُّر جوهر أحدهما دون الآخر، أو الذي حلل كيماوياً عينةً من الحوضيْن فاكتشف وجود مادة دخيلة في أحدهما… وهنا بيت القصيد.

إن “الممارس للشعائر الدينية المشوبة بطقس أو ببعض الطقوس” (غير الدينية) لا يتبيّن الفرق القائم، ولا يفطن إلى أنه يأخذ من جوهر تعرض للتغيير، بالرغم من بقاء ظاهره نقيًا على مستوى الظاهر والحواس.

ولو كان هذا الممارس يتمتع ببصيرة حادة يَهديه إليها إيمانه فيفتح أمامه أبواب علم دقيق بالموضوع، لكان قد فطن على الفور إلى أنه يمشي في الطريق الخطأ، أو أنه يسير في الطريق ذاتها عبر مرآة يرى الطريق فيها كما لو كانت أصليةً حقًا، بينما هي في حقيقتها صورة مقلوبةٌ ومعكوسة، كما هو دائمًا حال الصور المنعكسة على أي مرآة.

إن هذا بالذات، هو الذي يجعل السالك الذي يمارس في سيره شعائر أصيبت بآفة التغيير أو بالزيادة أو النقصان، لا يفطن إلى أنه يسير في الطريق الغلط، وأنه يتمنطق سيف الباطل، ولذلك نراه يصر على فهمه وقوله وسلوكه دون أن يدري أنه مخطئ، أو ربما وعى بذلك ولكن بعد فوات الأوان، وبعد أن تكون حالته قد استحكمت منه ولم يعد يستطيع منها فكاكًا.

إنّ “الطقوس” والتطبيقات إذنْ، تختلف تمام الاختلاف عن “شعائر الله”، ومن المنطقي والبديهي أن تختلف النتائج والنهايات فيما بينها بتحصيل الحاصل، والسبب في هذا الاختلاف يسيرٌ للغاية:

– إن “الشعائر” أنزلها الله تعالى على أنبيائه ورسله، فكأنها بمثابة “دليل الاستعمال” (guide d’utilisation) الذي يقدمه صانع آلة من الآلات لمقتنيها لكي يُحسن استعمالها. وليس صعبًا أن يُقيم المرء هذه المقارنة البسيطة، لأن استخلاف الإنسان في الأرض وما فوقها وما تحتها وما حولها والحفاظ عليها صالحةً نقيةً فطريةً كما قُدِّمت له في بداية الاستخلاف، يشكل صلب “الأمانة” التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال وأبين أن يحملنها، لأنها جد ثقيلة ومُهْوِلَة، وبالتالي فمن الطبيعي أن يتوصل الإنسان بدليل الاستعمال حتى يُعينه ذلك على أداء أمانته حقها، خاصة أن هذا الدليل منزّل من عند صاحب الأمانة الذي هو وحده، دون سواه، القادر على توجيه الأمر والنهي الكفيليْن بتأمين سلامة ذلك الاستعمال؛

ـ إن “الطقوس”، أو “التطبيقات” العقدية الأخرى، ليست إلا “محاولة للعقل لابتداع طرق استعمالٍ للآلة ذاتها (الأمانة) لا تحتكم إلى دليل استعمال صادر عن صانعها”، وبالتالي فالطقوس تبقى غير مضمونة النتائج والعواقب، أو تكون بالأحرى ذات نهايات غير سعيدة بالبداهة، لأن المستعمِل هنا قاصرٌ بخِلقته وعِلمه القليل عن الإلمام بدقائق صنع ما بين يديه من مكونات تلك الأمانة، وفي أمس الحاجة دائمًا وأبدًا إلى مَن يسدِّد حركاته وأقواله وأفعاله حتى يكون أداؤه على النحو السليم والصحيح.

هذا، بالذات، هو الدور الذي نزلت الرسالات السماوية لتكرِّسه من جهة، ولِتُقيمَ الحجة من جهة أخرى على كل مَن يُلقي ذلك وراء ظهره أو يضرب به عرض الحائط.

خلاصة القول، إن التدبير الحسن والسليم للأمانة المطوقة لعنق الإنسان يقتضي بالوجوب الأخذ بما نزّله صاحب تلك الأمانة من الأوامر والنواهي الرامية إلى تسديد حركاته وسكناته في كل ما له صلة بمساره الأرضي ومآله الأخروي، و”الشعائر” هي الدليل الأصلح لأداء هذا الدور المحوري والمصيري. أما “الطقوس” فإنها لا تفعل سوى أنها تجذب ممارسها إلى عوالم محفوفة بمخاطر لا يملك الممارس القدرة على تقييمها، والإلمام بمزالقها، فيقع له ما سلف ذكره من السير في طريق هي عبارة عن صورة مقلوبة في مرآة الوجود ينصبها الشيطان أمامه لتنعكس عليها صورة مقلوبة للطريق الأصلي السوي والسليم، الذي تقود إليه شعائر الله بمنتهى اليُسْرِ والأمان.

إنّ كلمة السر إذن، هي الأخذ بما قدمه لنا صاحب الصنعة من النصائح والإرشادات والبيانات في استعمالنا لصنعته وإبداعه، وإلا فإننا سنُسيء ذلك الاستعمال وينتهي بنا المطاف إلى إفساد الصنعة وسد الطريق على أي فرصة للاستفادة منها بشكل سليم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير / مصدر صورة الواجهة:  file:///C:/Users/HP/Desktop/%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8% 2017

[1] «ومن يعظم شعائر اللَّه فإِنها من تقوى القلوب» (الحج 32).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى