إضاءات قانونية
أخر الأخبار

الجانب الموضوعي للعدالة البيئية وتجلياته في قرارات القضاء العالي (مغرب التغيير – الدار البيضاء 5 أكتوبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 5 أكتوبر 2023

تطرح القضايا البيئية من الناحية الموضوعية إشكالات مرتبطة بطبيعة المسؤولية وأطرافها وأركانها وآثارها حيث يناقش الأطراف عادة كل من موقفه، مسألة الخطأ والضرر والعلاقة السببية  وما يرتبط بهذه العناصر والأركان من دفوع وثغرات واقعية وقانونية. ومن ثم يكون القضاء هو الملجأ لفك هذه الإشكالات المعقدة سواء من الناحية النظرية أو الواقعية محاولا استلهام الحلول من نصوص القانون أو بالاجتهاد تطبيقا لقواعد العدالة والإنصاف. وبرصدنا لعدد من قرارات محكمة النقض، على سبيل الاستشهاد، يتبين بوضوح أن قضاتها يحاولون تأطير قضاء الموضوع في الاتجاه الذي يضمن عدد من المرتكزات الحقوقية ويقيم توازنا في مراكز الأطراف ويكرس في نفس الآن الأمن البيئي المنشود. فما هي المنهجية التي يجب على القضاء اتباعها وهو يفصل في مثل هذه المنازعات ومثيلاتها ؟

من الأكيد أن محكمة النقض تراقب مدى استنفاذ قضاة الموضوع لكل وسائل الإثبات المقبولة قانونا وتكوينهم لقناعتهم ويقينهم بثبوت عناصر وأركان المسؤولية بمقتضى تعليلات مصادفة للصواب، فنجدها على سبيل المثال في قضية تتعلق بتسرب مواد نفطية وتأثيرها على الفرشة المائية وعلى الآبار الخاصة أصدرت قرارا هاما تحت عدد 1281 بتاريخ 16/9/2010 أكدت فيه ما يلي: “المحكمة لما قضت بالتعويض اعتمدت في قضائها على المذكرة المدلى بها من طرف شركة (لاس) التي أكدت واقعة  تسرب الغاز من إحدى قنواتها وهي بذلك أقرت بواقعة تسرب الغاز و بكون الطرف المدعي أصيب بأضرار بل وقبلت تعويضه، وعلى المحضر المنجز من طرف العمالة، إضافة إلى خبرة  بواسطة  مهندس  فلاحي الذي كلفته بالانتقال إلى الضيعة  المملوكة للطرف المدعي وتحديد آثار التسربات النفطية التي عرفتها المنطقة على النشاط الفلاحي وعلى الفرشة المائية والآبار الخاصة بالضيعة والتربة وتحديد قيمة الأضرار المباشرة والمصاريف التي أنفقت وبيان الدور الذي قامت به الشركة  للحد من التلوث الناتج عن التسربات، وبذلك أصبحت المحكمة تتوفر على كافة العناصر التي تحدد فيها التعويض عن الضرر“.

وهو ما أكدته أيضا في قرارها رقم 7/2 بتاريخ 8/1/2015 في دعوى مخالفة، والذي جاء فيه: “إن إثبات الضرر والعلاقة السببية بينه وبين الفعل الضار مسألة واقع، والمحكمة لما قضت بالتعويض اعتمادا على أن الخبرة المأمور بها لتحديد الضرر وعلاقته بالجهة المنسوب إليها الفعل المتسبب فيه، قد أثبتت وجود الضرر الناتج عن انبعاث غازات الفليور والمواد الدقيقة المتطايرة المصاحبة لها أثناء تصنيع الحامض الفوسفوري وتصنيع أسمدة  عبر أبراج بعد غسلها للتقليل من انبعاثها في الهواء، وكون هذه النفايات تنتهي بالتساقط على أوراق النباتات وعلى أرض المطلوبين يجعل قرارها معللا بما فيه الكفاية“. وهي بهذا التوجه تبين عن صواب المنهجية التي يجب اتباعها من أجل تحقيق الأمن البيئي وإضفاء الحماية القضائية عليه.

*  تعامل محكمة النقض مع طبيعة الخطر البيئي:

لقد أتيحت لهذه المؤسسة في عدد من المناسبات أن تعبر عن موقف مستقر ثابت ذي حمولات حقوقية وحمائية هامة أكدت فيه عدم إمكانية الأخذ بالتقادم في مثل هذه الأضرار البيئية بعلة أن الخطر البيئي واقعة مستمرة في الزمان ومنها القرار عدد 512 بتاريخ 23/5/2007 الذي جاء فيه: ” وحيث أنه بصرف النظر عن كون التقادم هو دفع موضوعي يمكن التمسك به في أي مرحلة من مراحل الدعوى ابتدائيا واستئنافيا فإنه لا محل لتطبيقه في النازلة باعتبار أن الدخان الذي تنفثه معامل المستأنف عليه والنفايات الكيماوية الملقاة من طرفه تعتبر واقعة مستمرة لا تخضع للتقادم، وبالتالي فإن الحكم المستأنف عندما قضى بخلاف ذلك فإنه يكون قد جانب الصواب وواجب الإلغاء في هذا الشق منه مع التصدي بالتصريح باستحقاق المستأنف للتعويض عن الأضرار اللاحقة بمزروعاته عن مدة ثمان سنوات من 1998 إلى 2005 بالنظر لتاريخ تملك المستأنف للقطع الأرضية محل النزاع بمقتضى عقد المقاسمة المدلى به“.

* موقف  محكمة النقض من أساس المسؤولية البيئية:

لا شك أن هذا الموضوع يبقى من أكثر المواضيع إثارة للنقاش سواء على المستوى الاكاديمي الفقهي أو القضائي العملي وقد تبنت محكمة النقض موقفا متميزا خاصة في القضايا التي تكون فيها المؤسسات الوطنية هي المتسببة في ضرر بيئي، حيث حملتها المسؤولية على أساس المخاطر وتحمل التبعية وليس على أساس الخطأ، وفي هذا التوجه مقاربة حمائية كبيرة تعيد التوازن للعلاقات وتطمئن المرتفقين والعموم على ضمان حقوقه ومصالحه.

وفي هذا السياق قررت محكمة النقض في قرارها عدد 721 بتاريخ 18/7/2007 ما يلي: ” لكن، وخلافا لما أوردته هاتان الوسيلتان، فإنه يتبين من الخبرة المعتمدة في الملف أن الوحدات الصناعية لشركة مغرب فوسفور التابعة للمستأنف فرعيا تلقي بنفايات دقيقة وغازية تنقلها الرياح وتلقي بها في الأراضي المجاورة على النباتات والمغروسات بحيث تغطي جميع أوراقها وبذلك تحجب عنها نور الشمس التي تساهم في عملية النمو وينتج عن ذلك جفاف في الأغصان وضعف كبير في الإنتاج مما يؤكد أن الضرر ثابت وكذا العلاقة السببية بينه وبين نشاط المرفق العام ويجعل الحكم القاضي بالمسؤولية بناء على نظرية المخاطر معلل بما يكفي علما أن المحكمة اعتمدت على الخبرة المنجزة في الملف وحدها مما يجعل ما أثير عديم الأساس”.

كما أكدت هذا التوجه في قرارها عدد 633 بتاريخ  9/7/2008 الذي جاء فيه: ” إن مسؤولية المكتب الشريف للفوسفاط إنما تقوم على نظرية مضار الجوار أو ما يعرف بالضرر غير المألوف والذي يتجلى حسب وقائع القضية في انبعاث الدخان والغازات من معامله، و تسببت في الإضرار بمزروعات المطلوب، وهي مسؤولية لا تقوم على الخطأ أو على التعسف في استعمال الحق وإنما تقوم على نظرية تحمل التبعية، بمعنى أن المكتب يتحمل نتيجة نشاط استعمال معامله التي يستفيد منها فيبقى عليه مقابل ذلك تعويض أصحاب الأراضي المجاورة والمتضررة“.

* تعامل محكمة النقض مع قضايا التدبير المفوض وتعدد المسؤولين عن الضرر البيئي:

عملت محكمة النقض على تكريس نفس النهج الحمائي عند مناقشتها لقضايا التدبير المفوض لبعض المرافق الحساسة المؤثرة على البيئة حيث جاء في قرارها عدد 1399 الصادر بتاريخ 30/9/2010 ما يلي: ” إن الثابت من الخبرة المنجزة أن الأضرار التي لحقت الضيعة ناتجة مباشرة عن تسرب المياه الملوثة من محطة المعالجة التي تتولى شركة (ري) تسييرها في إطار عقد التدبير المفوض، كما أن الخبير تبين له من خلال  مراسلات شركة(ري) لشركة (لا س) أن  قنوات الصرف العمومي ملوثة  بمواد  هيدروكاربور والتي لا يمكن إزالتها بوسائل التطهير العادية وانه بصرف النظر عن الجهة التي تصدر تلك المواد فالثابت أن شركة (ري) هي المكلفة بتدبير الصرف الصحي للمياه والتي تقتضي منها معالجتها وعدم طرحها من جديد  في قنوات التطهير إلا بعد التحقق من عدم خطورتها على البيئة، وبذلك فان عناصر المسؤولية من خطأ وضرر وعلاقة سببية متوافرة في النازلة”.

كما أن محكمة النقض أبرزت في عدد من مواقفها على حرصها الشديد على ضبط قضاء الموضوع لمسؤوليات كل طرف عندما يتعدد مرتكبو الخطأ البيئي الضار وذلك تفعيلا لمبدأ المسؤولية والمحاسبة كما هو الشأن في القضية عدد 562/3/1/2010 التي صدر فيها قرار عدد 1223 بتاريخ 8/9/2010 جاء في إحدى حيثياته:” لكن، حيث  إنه خلافا  لما  جاء في الوسيلة الأولى فإن محكمة  الاستئناف  قد  استدعت  شركة  سامير التى أدلت بمذكرة  جوابية بجلسة 24/03/2008 لا تتضمن أي إقرار بمسؤوليتها  عن الأضرار  اللاحقة بالمطلوبين ، بل نفت  أية علاقة بتلك الأضرار وتمسكت بأن “الحادثة التي  لمحت  لها   الطالبة  شركة ريضال كانت منذ سنة2001 ومحدودة في محيطها، وإنها (أي  شركة  س) وبمساعدة السلطات المختصة قامت بتطويق الموقع وتنظيفه وفقا للنظم المعمول بها  عالميا”، ولم تثبت الطالبة كون الأضرار اللاحقة بعقار المطلوبين ناتجة عن تسرب مواد  الهيدروكاربونات من أنابيب شركة )س(، كما أن المحكمة لم تكن ملزمة بإجراء خبرة  مضادة، ما دام  قد   ثبت  لها  من خلال الخبرة المنجزة ابتدائيا من طرف الخبير (ن.س) أن الأضرار التي  لحقت ضيعة المطلوبين ناتجة عن تسرب المياه الملوثة من محطة الضخ التي تشرف الطالبة على تدبيرها، إذ انه عند حدوث تساقطات مطرية هامة، تملأ المياه الوسخة خزان المحطة إلى حد يفوق طاقتها الاستيعابية فتنسكب المياه الوسخة الزائدة في  القناة السطحية عبر فوهة مفتوحة دوما، ويستحيل إغلاقها، وعندما يصل هذا السيلان إلى حد  متجاوز، تفيض هذه المياه على أرض  المطلوبين وتلوث مياه الآبار الموجودة  بها، فأجاب القرار على دفوع الطالبة ولم يهملها، وجاء معللا وغير خارق لأي مقتضى والوسيلتان على غير أساس “.

* موقف محكمة النقض من إشكاليات التعويض ورفع الضرر البيئي:

يبدو من خلال ما وقفنا عليه من قرارات لهذه المؤسسة العتيدة أن منظور التطبيق العادل للقانون والاجتهاد في دائرة الإنصاف كان هما الركيزتان الأساسيتان لتحقيق أمن بيئي يحمي الحقوق ويوازن المصالح.

ففي قضية تتعلق بتلويث مياه الساقية بإلقاء النفايات فيها أيدت محكمة النقض قضاة الموضوع فيما ذهبوا إليه عندما رفعوا الضرر البيئي بطريقة متناسبة وظروف المكان حيث جاء في هذا القرار الذي يحمل عدد 2994 بتاريخ 29/6/2010 ما يلي : ” ما دام من ضمن طلبات المدعي في مقاله الافتتاحي طلب الكف عن تلويث مياه الساقية وإلقاء النفايات فيها، فان ذلك يقتضي من المحكمة وضع الحد لكل ما يتسبب في ضرر التلوث بها، و محكمة الاستئناف حين أيدت الحكم الابتدائي الذي قضى بتغيير اتجاه القناة التي أحدثها  المدعى عليه وسط منزله لصرف مياه الغسيل والتنظيف التي تصب في الساقية، وبجعلها تصب في بالوعة القناة العمومية الخارجية رفعا لضرر التلوث، تكون قد بتت في حدود مقال الدعوى، ولم تخرق المقتضيات المحتج بها“.

كما أكدت محكمة النقض اتجاه محكمة الموضوع عندما خولت هذه الأخيرة لضحية ضرر بيئي تعويضا جزئيا يتناسب حجم الضرر الذي بأرضه دون باقي الأجزاء الأخرى وذلك تطبيق لمبدأ قانوني راسخ وهو التعويض في حدود الضرر، حيث جاء في القرار عدد 154/1 بتاريخ 20/3/2014 ما يلي: ” المحكمة لما ثبت لها  من الخبرة المنجزة في الموضوع أن الأضرار اللاحقة بالمدعي  مباشرة تتجلى في حرمانه  من استغلال  عقاره  لكونه  أصبح  مغمورا بالمياه العادمة المتسربة  من محطة الضخ التابعة لشركة (ري)، و تسرب هذه المياه الملوثة إلى الآبار الموجودة بالضيعة، مما جعلها غير صالحة  للاستعمال  ومضرة  بصحة الإنسان والحيوان والدواجن ، تكون  قد اعتمدت فيما انتهت إليه نتيجة الخبرة المنجزة من طرف  الخبير الذي  أوضح  أن عقار المطلوب  يتكون  من قسمين تفصل بينهما الطريق  الثلاثية رقم 2519، وان القسم الأول  يوجد  داخل  المستنقع، والثاني  متضرر  بواسطة  تسرب  المياه الملوثة، واقتصر  في تحديد التعويض على القسم الأول  المغمور بالمياه كلية، والذي  يستحيل  استغلاله في زراعة الخضراوات، ومن  ثم فالتعويض الذي قضت  به المحكمة كان جزئيا فقط وينصب على الجزء غير المستغل من العقار  دون الجزء الثاني منه، فجاء قرارها مبنيا على أساس وغير  متناقض في تعليلاته “.

هذا المنظور الحمائي المتوازن عبرت عنه أيضا محكمة النقض في قضايا ومنازعات البيئة عندما أيدت في قرارها عدد 202 بتاريخ 27/2/2014 قرار محكمة الموضوع التي لم تعتبر طلب التعويض المقدم في المرحلة الاستئنافية على إثر الخبرة المنجزة، طلبا جديدا بمفهوم الفصل 143 من ق. م.م واعتبرته منبثقا عن الطلب الأصلي حيث جاء في تعليلات هذا القرار ما يلي: ” لكن، حيث نص الفصل 143 في فقرته الأولى على أنه: “لا يمكن تقديم أي طلب جديد أثناء النظر في الاستئناف باستثناء طلب المقاصة أو كون الطلب الجديد لا يعدو أن يكون دفاعا عن الطلب الأصلي”، وأن الاستئناف ينشر الدعوى من جديد بما يعنيه ذلك من إمكانية تقديم طلبات ختامية على ضوء خبرة منجزة خلال هذه المرحلة ما دام أنها منبثقة عن الطلب الأصلي. وأن مبلغ التعويض الذي أسست عليه الدعوى من منطلقها يمكن أن يكون محل طلب خلال المرحلة الاستئنافية دون أن يتعارض ذلك مع مقتضيات الفصل 143 من قانون المسطرة المدنية المشار إليه، والمحكمة لما اعتبرت التعويض المطالب به من طرف المطلوب على إثر الخبرة المنجزة في النازلة خلال المرحلة الاستئنافية منبثقا عن الطلب الأصلي الذي هو طلب التعويض غير المحدد خلال المرحلة الابتدائية لا يعد طلبا جديدا فإنها لم تخرق المقتضى المذكور المحتج بخرقه والوسيلة غير مرتكزة على أساس “.

وبنفس المنظور الحمائي للبيئة وبمقاربة إنسانية عميقة أيدت محكمة النقض محكمة الموضوع عندما لم تلتفت إلى دفع المدعى عليها التي تتمسك بأن مسكن الضحية هو بناء عشوائي لا يستحق عنه التعويض وركزت المحكمة على ثبوت توافر عناصر المسؤولية من خطأ وضرر وعلاقة سببية ليستحق الضحية التعويض بغض النظر عن هذا الدفع.

هذه مجرد نماذج من الجهد الذي ما فتئ القضاء العالي يبذله ببلادنا لتكريس الحماية الللازمة للبيئة والحيلولة دون إلحاق الأضرار بالمواطنين من جراء مختلف المخالفات التي تضر بالبيئة فلاحية كانت أو سكنية أو غيرها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: أرشيف “مغرب التغيير”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى