الجريمة الإلكترونية أو “غول العصر” المهدِّد لأنظمة التخطيط والتحكّم والتدبير (مغرب التغيير – الدار البيضاء 15 أكتوبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 15 أكتوبر 2023
في المغرب، وتحديدًا في فترة الولاية التشريعية التي تسلمت فيها زمام السلطة التنفيذية حكومةُ التناوب التوافقي الثانية، أو الحكومة التي كان إدريس جطو وزيرها الأول، والتي اعتبر كثيرون طريقةَ تشكيلها خروجًا عن المنهجية الديمقراطية (2002/2007)، صادقت الغرفة الأولى بالبرلمان بأغلبية الأصوات المعبر عنها على قانون جديد يعاقب على “الجريمة الالكترونية” يحمل الرقم: 07.03. وتتراوح العقوبات التي نص عليها هذا القانون الجديد ما بين شهر و10 سنوات حبسا، وغرامة تتراوح بين ألفيْ درهم ومليوني درهم (200.000 سنتيم و200 مليون سنتيم)، وهذه أرقام تنم عن نوع من الصرامة في التعاطي مع هذه الظاهرة. ويحمل هذا النص الجديد، اسم “قانون الإخلال بسير نظم المعالجة الآلية للمعطيات”، ويُعتبَر تتميمًا لمجموعة العقوبات التي ينص عليها القانون الجنائي المغربي. كما أنّ هذا القانون جاء لسد الفراغ التشريعي بالنظر لعدم توفر القضاء المغربي على آليات قانونية مختصّة بالتصدي للجريمة التي تستهدف النظم الآلية للمعلومات والمعطيات.

يحيل مصطلح “الجرائم الالكترونية” أو “الجرائم المرتكبة ضد نظم المعالجة الآلية للمعطيات”، على جملة من الأفعال الجرمية الإلكترونية كالولوج عن طريق الاحتيال إلى النظم المعلوماتية، وخرق أو تغيير أو إحداث اضطراب في المعطيات المدرجة فيها، أو عرقلة سير نظم المعالجة، أو إحداث خلل فيها أو إتلافها. وكل هذا الأعمال تصدر عمّن تسميهم أدبيات الإعلام بـ”الهاكرز”.
وينص هذا القانون على “معاقبة دخول أنظمة معالجة المعطيات الآلية المتضمنة لمعلومات تخص الأمن الداخلي أو الخارجي للدولة، أو تهم الاقتصاد الوطني”. كما تعاقب بعض بنود القانون الجديد الموظفين أو المستخدمين الذين يرتكبون الأفعال الجرمية المذكورة. وتطبق نفس العقوبات على “الأشخاص الذين يترتب عن دخولهم بواسطة الاحتيال للأنظمة المشار إليها حذف أو اضطراب في سير النظام أو تغيير المعطيات المدرجة فيه”.
وتضمن القانون أيضًا عقوبات عن “تزوير وتزييف وثائق المعلوميات متى ترتب عن ذلك إلحاق ضرر بالغير أو استعمال وثائق معلوماتية مزورة أو مزيفة”، وكذا عقوبات صارمة في حق كل من يقوم بصنع تجهيزات أو أدوات أو يعد برامج للمعلوميات (برمجيات) أو أي معطيات يعتمدها خصيصا لأجل ارتكاب الأفعال المجرَّمة سواء بالامتلاك أو بالتخلي عنها لفائدة الغير.
وينص القانون على معاقبة الاشتراك في عصابة أو الاتفاق على الإعداد لواحدة أو أكثر من الجرائم التي أوردها المشرع.
مناسبة الإشارة إلى القانون 03 .07 ليست إلا الرغبة في التعريف بالجريمة الإلكترونية، من حيث كونُها خطرًا داهمًا يمكن أن يصيب أقوى نظم التدبير والتخطيط والتسيير في مقتل، خصوصًا أن الجميع ينادي عن اقتناع أكيد، وانطلاقًا من تفكير وتنظير سليميْن مائة في المائة، بعلمنة طرق تدبير الشأن العام وحوسبتها ورقمنتها، والمرور في ذلك إلى السرعة القصوى بغية الالتحاق بركب البلدان المتقدمة، التي تربطنا معها علاقاتُ تعامل وتبادل وأخذ وردّ ينبغي بالبداهة أن نُبِين خلالها عن نفس الذكاء الإلكتروني، الذي يشكل مفتاح النجاح في علاقات ومعاملات العصر الراهن.
المخاطر والأضرار:
الواقع أن مطلب الرقمنة والحوسبة سيف ذو حدّيْن. ففي الوقت الذي تمنح فيه هذه التكنولوجيا لمستخدميها فرص إنجاز الأشغال والعمليات في أسرع وقت ممكن وبأقل هامش من الخطأ، وتؤَمّن لهم بذلك كامل القدرة على مسايرة الأطراف المتعامل معها، ذات الباع الطويل في مجالات الاتصال والمعرفة؛ فإنها تفتح عليهم (نفس التكنولوجيا) في الوقت ذاته أبواب جحيم مستعر، حينما تُفسح المجال لقراصنة الأنظمة المعلوماتية (الهاكرز) لضرب تصاميمهم ومخططاتهم ومشاريعهم في صميمها وفي عمقها، مهددين بذلك أمنهم واستقرارهم الاقتصادييْن والاجتماعييْن، ودافعة بهم إلى حافة الإفلاس، وإلى حالة من الشلل تنهدّ معها بنيات السلم الاجتماعي، وتعم من جرائها فوضى لا يُعرف لها أول ولا آخر قد تطال كل مجالات الحياة بلا أدنى استثناء.
لنتأمل قليلاً الأضرار الفادحة والقاتلة، التي يمكن أن تلحقها الجريمة الإلكترونية بدولة من الدول، أو بمؤسسة من المؤسسات، أو بنظام معلوماتي كامل بقواعد معطياته وتحاليله وخلاصاته:
1ـ تعطيل الحواسيب الرئيسية والأنظمة المستعملة فيها عن طريق بثّ فيروسات إلكترونية تعبث بالمعلومات والمعطيات أو تعطل استحضارها والاستفادة منها؛
2ـ إحداث ارتباك قد يتحول إلى شلل تام، في بورصة القيم، وفي مجمل النظام المالي للدولة المستهدَفة ببنوكها ومصارفها ومؤسساتها المالية الأخرى، مما ينتج عنه هبوط حاد في القيم بمختلف أنواعها بما فيها القيم الفعلية والقيم التبادلية والتحويلية للعملة الوطنية؛
3ـ بث الارتباك والخلل والخطأ في أنظمة تدبير الرحلات الجوية والبحرية والطرقية والحديدية داخل البلد المستهدَف وبينه ومختلف البلدان في جميع الاتجاهات، مما تتعطل معه حركة التجارة الداخلية والخارجية؛
4ـ إرباك المناخ السياسي والأمني وتلويثه عن طريق بث الشعارات المعادية والأكاذيب والدعايات المفبركة والأخبار الزائفة والمغرضة؛
5ـ شل قدرة الدولة أو المؤسسة المستهدَفة على التحكم في خطط وبرامج تدبير مختلف القطاعات بلا استثناء، أو استهداف قطاع أو قطاعات إستراتيجية معينة من شأن المساس بها أن يزعزع الاقتصاد الوطني أو اقتصاد المؤسسة المستهدفة ويقوّض دعائمه؛
6ـ بث رسائل تهدف إلى التفرقة بين مكونات الأمة، أو بينها وأطراف أخرى خارجية من أجل نشر ألوية الفتنة وإثارة الأحقاد وإشعال نيران الحروب وإذكاء النزاعات داخليًا وخارجيًا على السواء؛
7ـ المس بثوابت الأمة، والطعن في ذمة رموزها ومسؤوليها، والسعي إلى فسخ العقد أو الميثاق الرابط بين مختلف مكوناتها الإثنية والثقافية والسياسية والاجتماعية؛
8ـ ضرب الأنظمة المعلوماتية لقواعد المعطيات الدفاعية والأمنية فيما يمكن اعتباره حربًا افتراضية لا تقل عنفًا وخطورة عن الدمار الذي تحدثه الحروب العسكرية التقليدية، وإرباك أنظمة الدفاع والأمن وإعاقتها عن أداء مهامها سواء الاعتيادية أو الطارئة، وسواء كانت استعلاماتية أو ميدانية؛
9ـ بث صور وأفلام وأحداث واقعية أو مصطنَعَة من شأنها أن تخل بالقيم الأخلاقية وتنشر الخلاعة وكل أشكال الفجور بين المواطنين من مختلف الأعمار ومن مختلف الشرائح الاجتماعية؛
10ـ الاعتداء على كرامة الضحايا وسمعتهم وعرضهم عن طريق بث صور مفبركة تلحق بهم أو بأسرهم وأبنائهم وبناتهم وصماتٍ ونعوتًا بالفساد بمختلف أشكاله وأنواعه؛
11ـ التسلل إلى قواعد المعطيات البنكية والمصرفية من أجل السرقة، أو بهدف إحداث الفوضى في مقدرات زبائنها وحساباتهم الشخصية أو المؤسساتية تلبية لدوافع مَرَضية وعُقَد نفسية وسلوكية دفينة؛
12ـ بث الرعب والفزع في مستعملي الحواسيب والأنظمة المعلوماتية عن طريق توجيه تهديدات بالاعتداء أو القتل بهدف أو بغيره، مما ينجم عنه فقدان الإحساس بالأمان ويُحوِّل حياة المستهدَفين به إلى جحيم لا يُطاق؛
13ـ وأخيرًا وليس آخرًا، العمل على تفجير فضائح غير محسوبة العواقب عن طريق نشر ملفات مريبة يُفترض أن تتم معالجتها في إطار الحق والقانون، وفي ظل كامل الضمانات التي تكفلها التشريعات الجاري بها العمل ويكرسها مبدأ المحاكمة العادلة.
هذه الجرائم إذنْ، وهي ليست كل ما يمكن أن يندرج في خانة الجريمة الإلكترونية، بل هناك كثير مما غفل عنه الذهن وسها عنه الفكر، في وسعها أن تعطينا صورة جلية عن نوع من الجرائم يبدو منذ الوهلة الأولى أشد خطرًا وتهديدًا للسلم والأمن والاستقرار من الجرائم المادية المعروفة، والتي تبتدئ بالسب والقذف، وتنتهي بإزهاق أرواح الضحايا لسبب من الأسباب.
ويبقى الفارق الكبير بين هذين النوعيْن من الجرائم، أن الجريمة الإلكترونية تظل أكثر تخفِّيًا، وأشدَّ تستّرًا، وأوفر قدرة على البقاء خلف الحجب بلا قسمات، ولا هوية، ولا عنوان، ولا بصمات بدنية أو جينية أو غيرها، وبلا أدنى وصف يمكن الاستدلال بواسطته على مرتكبيها وعلى حقيقة دوافعهم… وإنما نتعرّف عليها، فقط لا غير، من خلال ما تتركه وراءها من الدمار المادي والمعنوي والقيمي والأخلاقي… إلى آخر قائمة من الأضرار قد لا يجد لها المرء أي نهاية.
لقد سمى الكثيرون مجرمي المعلوميات بالمجرمين الجبناء، لأنهم يرتكبون أفعالهم الجُرمية من خلف حجب سميكة تجعل التعرف على أشخاصهم وهوياتهم الحقيقية من الصعوبة بمكان، حتى لا نقول بالاستحالة ما دام بعضهم يرتكب في بعض الحالات أخطاءً قد تدل عليه بشكل أو بآخر.
شروط نجاح الجريمة الإلكترونية:
للجريمة الإلكترونية شروطٌ لا يكون النجاح حليفًا لمرتكبيها إلا باستيفائها كاملة، أو بتوفر معظمها على الأقل. من أبرز تلك الشروط، والتي غالبًا ما يحرص على تلبيتها مجرمو الإلكترونيك:
ـ استعمال أسماء مستعارة وشفرات جد معقدة؛
ـ الحرص على أن تكون الأسماء والأعداد المستعملة شديدة البعد عن كل ما له علاقة بشخصية الفاعل، كالحروف الأولى أو الأخيرة من اسمه، أو الأعداد الدالة على تاريخ ميلاده أو القريبة من هذه الأعداد أساسًا؛ وكاستعمال أسماء بعض أفراد الأسرة أو العائلة أو الأصدقاء؛
ـ الحرص على استخدام حاسوب غير الذي يمتلكه الفاعل، كاستخدام حاسوب مقهى أو محل “سيبير” يرتاده عموم المستخدمين، مع تغيير المحل في كل مرة؛
ـ الحرص على تغيير اسم الحساب البريدي وشفرته عند كل استخدام جديد؛
ـ الحرص على تغيير أسلوب الكتابة أو التصوير أو الإخراج الفني للرسالة المراد بثها حتى لا تكون للفاعل بصمة أو أسلوب يمكن أن يميزه عن غيره أو يصير سمة خاصة به يمكن أن تسهم من قريب أو بعيد في تحديد مكانه أو التعرف على هويته؛
ـ تغيير الخط المستعمل في كل رسالة إلكترونية مكتوبة؛
ـ تغيير طريقة الإرسال ووسيلته أو قناته حتى لا يتيسّر ترصّده في شبكة من الشيكات؛
ـ استعمال لغة للتخاطُب مليئة بالأخطاء اللغوية والمطبعية حتى يكون التعرف على مستواه العلمي أو الثقافي مستحيلاً؛
ـ اجتناب استخدام مصطلحات علمية دقيقة من شأنها أن تقرّب الباحثين والمحققين من مجال تخصصه الثقافي أو العلمي؛
ـ اجتناب استعمال العبارات التي يمكن أن تحمل طابع أو بصمة مؤسسة من المؤسسات التعليمية أو المهنية والتي يمكن أن تسهّل مهمة المحققين في التعرف على المصادر الحقيقية للمعلومات التي يوظفها الفاعل أو تشكّل تمييزًا لميوله أو اهتماماته أو عاداته في التعبير والمخاطبة؛
ـ إذا كان لابدّ من عرض وثيقة مخطوطة من إنتاج الفاعل فإن هذا المجرم يحرص على كتابتها باليد الأضعف (اليُسرَى بالنسبة لليُمني، أو اليُمنَى بالنسبة للعسْري) أو يكلف غيره بكتابتها حتى يستحيل التعرف على خطه؛
ـ استخدام إيحاءات مغلوطة لإيقاع المتصفح أو الباحث في الخطأ، كأن ينسب لنفسه نصًا مصوغًا صياغة متينة بلغة من اللغات ليوحي بانتمائه إلى أهل تلك اللغة، أو بعكس ذلك، باستعمال لغة معينة استعمالاً رديئًا لنفي أي علاقة له بها أو بموطنها؛
ـ استخدام حواسيب نقالة ومتحركة وتغيير هوياتها عن طريق تبديل أقراصها الصلبة عند كل استعمال جديد حتى لا يتيسّر ضبط عنوان الحاسوب أو تحديد إحداثياته فوق أي خريطة أرضية أو جوية أو غيرها.
هذه الحيل والمغالطات، وربما أغفلنا ذكر عدد آخر منها في محاولة الجرد هذه، يستخدمها قراصنة المعلوميات ومجرميها كليًا أو جزئيًا بحسب الحاجة، وبحسب خطورة الجرم المرتكب أو المراد ارتكابه، وكذا بحسب نوعية ضحاياه والمستهدفين به.
وبطبيعة الحال، وكما يتبين المتتبّع ذلك منذ الوهلة الأولى، فإن ضبط مكان الفاعل وتحديد هويته والتعرف على نقط انطلاقه والمواقع التي يوجه منها أفعاله المخالفة للقانون تظل جميعها بالغة الصعوبة، وأحيانًا في حكم الاستحالة، وهذا هو الذي يجعل الجريمة الإلكترونية من أخطر الجرائم في العصر الراهن، إن لم تكن أخطرها على الإطلاق.
وكما هي العادة، تبقى الأسئلة مطروحةً في انتظار تدابير عملية حاسمة تُبعد هذا الخطر الدّاهم، في وقت يرنو فيه المغرب إلى الالتحاق بالاقتصادات الصاعدة، حتى يكون في مستوى التحديات المطروحة عليه في تعامله مع شركاء متّصفين ببالغ التقدم والتطوّر في هذا المضمار. من هذه الأسئلة على الخصوص:
ـ ما الذي تبذله الدولة المغربية والمؤسسات المختصة من أجل محاربة هذه الجريمة الحديثة؟ وكيف السبيل إلى الوقاية منها ما دامت الوقاية خيراً من العلاج كما يُقال، في جميع مجالات الحياة؟ وهل هناك جهود لتكوين مهندسين متخصصين في خوض هذا النوع من الحروب الافتراضية، التي هي أشبه ما تكون بقصص الخيال العلمي المثيرة لأسئلة فكرية تنظيرية، وأخرى مادية وجودية وتقنية وتطبيقية دائمة التبدّل والتطوّر؟ وهل هناك جهدٌ دوليٌّ أو عالميٌّ للتنسيق فيما بين أعضاء المنظومة الدولية، أو اتفاقية أممية تصب في بوثقة التكاتف والتعاون في هذا المضمار الجديد والذي ما زال يحتاج إلى مزيد التعريف والتوصيف والتجلية، أم أن الأمر يظل رهين شراكات محدودة، ثنائية أو متعددة الأطراف، وبالتالي لا يَرْقَى إلى الصبغة العالمية المنشودة؟.. مَن يجيب؟!