أهم احتياجات التنمية المستدامة في المغرب: إنتاج العنصر البشري المؤهل لحمل تحديات “الاقتصاد الصاعد” (مغرب التغيير – الدار البيضاء 11 نونبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 11 نونبر 2023
خصوصيات المجتمع المغربي:
يكاد يجمع علماء الاجتماع الذين انكبوا في فترات مختلفة على دراسة المجتمع المغربي، وفي طليعتهم بول باسكون (الذي يُعتبر أبرز علماء الاجتماع الباحثين في المجال الاجتماعي المغربي) على أن المجتمع المغربي معقد التركيبة، بحيث يجد المرء فيه نمطًا إقطاعيًا لا يزال قائمًا رغم فوات زمن الإقطاع، ونمطًا رأسماليًا تقليديًا، وآخر ليبراليًا يكاد في بعض تلويناته يحاكي النمط الأمريكي الذي يقدم نفسه كمنظومة سائدة عالميًا، وهو الذي كان أساس نشوء ظاهرة العولمة، أو النظام العالمي الجديد، الذي استحوذ الآن على معظم خرائط المعمور.
غير أن الباحثين الحداثيين يرون المغرب في طريق الانضمام إلى الاقتصادات الصاعدة، أي في طريق السير على المنوال الغربي بالتدريج.
وهذا يتطلب نوعًا محددًا من التعليم والتكوين من أجل تخريج شباب مؤهلين للانخراط في هذا المنحى اقتصاديًا على الخصوص، ثم اجتماعيًا وثقافيًا بتحصيل الحاصل.
وهنا تأتي أولوية التكوين في مجال تطوير قطاع الخدمات، وخاصة ذات العلاقة بالاقتصاد وميدان المال والأعمال (التعامل مع بورصة القِيَم؛ الانخراط في المشاريع الاقتصادية الكبرى كقطاع إنتاج السيارات ومعدّات الطائرات؛ إتقان تقنيات البحث عن الأسواق المربحة؛ والاجتهاد في فتح أسواق جديدة بوسائل التوجيه والتأثير الاتصالييْن والإعلامييْن الحديثة).
هذا التوجه يقترح علينا أن تولي المنظومة التعليمية والتكوينية اهتمامًا زائدًا بمجالات أربعة أساسية: “الهندسة المدنية” (القناطر والسدود والطرق والسكك الحديدية والمطارات والموانئ والمركّبات الكبرى التجارية والرياضية والثقافية والمصانع)؛ “المعلوميات والاتصال”؛ “الماناجمنت” أو الحكامة وتدبير المؤسسات؛ و”الماركوتينغ” أو تدبير الأسواق والتسويق ومعاملات السوق.

متطلبات التنمية :
إن التنمية، في المغرب بالذات، تشكو من نقيصتيْن في غاية الصعوبة، والآن صارتا في غاية الخطورة:
1ـ المركزية المفرطة، بالرغم من شعارات اللامركزة واللاتمركز التي لم تخرج بعد من كمّاشة الورق وتوليفات الخطب الرّنّانة والمعتادة؛
2ـ البيروقراطية القَرْوَسطية، التي حافظت بشكل مدهش على نفس وتيرتها السابقة والمتجاوزة رغم التطور المذهل، الذي عرفه التدبير الإداري والمرفقي في مختلف بقاع العالم.
مثال ذلك، عجز الإدارة المغربية أو رفض القيمين عليها إقامة مكاتب أو أكشاك موحَّدة تقدم مختلف الخدمات التي يحتاج إليها طالبو الخدمات المتعددة ذات الهدف الواحد، كخدمات مشروع الاستثمار أو البناء ونحوها، حيث لا يزال طالبو هذا النوع من الخدمات يتنقلون بين أكثر من 10 إلى 15 مصلحة أو مكتب، وفي إدارات مختلفة، لقضاء حاجتهم منها. وهذا وحده يشكل حاجزًا كبيرًا في طريق إنعاش الاستثمار ودعم جهود التنمية.
هذا الواقع يتطلب تعليمًا مشتملاً على فنون التدبير اللامركزي واللاممركز للإدارات والمرافق، وهو ما يستجيب حتمًا للتوجه المغربي الجديد، الآخذ الآن في التبلور، والمتمثل في إقرار “الجهوية المتقدمة” أو “الموسَّعة”، التي بدأ العمل فعلاً في وضع أسسها انطلاقًا من الانتخابات الجماعية والجهوية ليوم 4 شتنبر 2015.
فالجهوية المتقدمة تفرض الحاجة إلى ولوج التفاصيل الدقيقة في كل ميادين الحياة العامة، وبالتالي في مجالي التعليم والتكوين المؤهِّلين لهذا النوع من الكفاءات.
من جهة أخرى، فالاقتصاد المغربي يعتمد في سواده الأكبر على النشاطات الزراعية، في حين أن العلماء المعاصرين يتوقعون شُحًّا كبيرًا في الثروة المائية في منطقة الشمال الإفريقي، وفي المغرب على الخصوص، مما يجعل مسألة الأمن الغذائي في بلادنا تكتسي أهمية متزايدة، وتحثنا على التفكير والإعداد الجيّديْن لمواجهة أي خطر قد يهدد أمننا الغِذائي.
هذا الواقع، يُحتم علينا أن نوفر من خلال المشروع التعليمي والتكويني المقترَح مهندسين أخصائيين ليس في الزراعة فحسب، فهؤلاء يتخرجون فعلاً ومنذ عقود طوال من المعاهد المغربية المتوفرة في هذا المجال، وإنما “مهندسين مختصين بتقنيات الصناعات الزراعية عامة، والصناعات الغذائية بصفة خاصة”. مهندسون يستطيعون تحقيق استثمار أفضل وأقصى للممكنات الفلاحية المتوفرة والمهددة بندرة المياه مستقبلاً، عن طريق صناعات زراعية وغذائية مبتكَرة تيسّر سبل الحفاظ على الأمن الغِذائي في أوسع مفاهيمه ودلالاته. فهذا النوع من المهندسين نادر في بلادنا في الوقت الراهن، والواقع يؤكد ذلك ويُثبته، ولا نزال نعتمد في تدبيره على الكفاءات والخبرات والمعارف الأجنبية، كما هو الشأن في صناعات مشتقات الحليب، التي لا نزال نستعمل في إنتاجها براءات اختراع أجنبية بمقتضى اتفاقيات وعقود نبرمها مع الشركات المالكة لأصول تلك المبتكرات (دانون، والأجبان الفرنسية والهولندية على سبيل المثال، فضلاً عن أغذية أخرى مصنّعة لا ينتمي أغلبها إلى المغرب إلا سطحيًا).
الحاجة إلى تطويع تقنيات الاتصال والإعلام والتواصل:
صار العالم برمته أكثر من أي وقت مضى ليس فقط قرية صغيرة بفضل سرعة ودقة وفعالية تكنولوجيا الاتصال والإعلام وتبادل المعرفة، بل صار في حجم لوحة أزرار حاسوب صغير أو جهاز هاتف ذكيّ نقال، حيث انتفت الحدود بكل أنواعها ومساحاتها ومسافاتها الجغرافية الفاصلة، بما فيها السياسية والعرقية والثقافية واللغوية… فلم يعد هناك بدٌّ من الحرص على امتطاء قطار هذا الركب السريع إن كانت هناك إرادة سياسية حقيقية في الانتماء إلى العصر وإلى أهله وكافة مكوناته.
هذه الحاجة الملحة والحيوية، تتطلب التوفر على تعليم يعطي أولوية الأولويات لإتقان تكنولوجيا الاتصال والمعلوميات ليس من أجل استهلاك ما يوجد من أنظمتها ووسائلها الأخرى في سوق الاتصال والمعلومات، بل من أجل امتلاك الكفاءة اللازمة لتطوير نظم وبرمجيات تتلاءم مع الخصوصية المغربية. بمعنى إتقان فنّ الابتكار في مجال الاتصال والمعلوميات. فالمعلومة وامتلاكها صارا الآن مفتاح النجاح في أي مشروع أو مخطط يرنو إلى المستقبل. وبطبيعة الحال، فالمدرسة التي نرنو إليها هنا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون رهينة الحاضر أو الماضي، وهذا أمر بديهي وغير قابل للمهاودة.
الحاجة إلى امتلاك ناصية ما يُسمّى بـ”اقتصاد المعرفة”:
هذه الحاجة ما هي في حقيقة أمرها سوى امتدادٍ لسابقتها، ولكنها تفرض ضرورة مواكبة آخر مستجدات عالم الإعلام والمعلومات والاتصال في سرعتها القصوى عالميًا، لأن المعايير الدولية والعالمية في هذا المضمار بالذات هي المعوَّل عليها وليس على غيرها بتاتًا، ونحن نعلم مدى ضعف معاييرنا المستمدة من واقعنا، وهذا الواقع نعلم كافة تفاصيله، البادية بكل تجلياتها في أحوال منظومتنا التعليمية، وفي المستوى الهزيل لاندماج خريجي هذه المنظومة في أسواق الشغل وفي التنمية.
إننا هنا نقترح ليس تدريس النظم والبرمجيات والبرامج المعلوماتية المتوفرة، والتي نعلم أن أطفالنا يُتقنون التعامل معها وتداولها منذ أولى احتكاكاتهم بالحواسيب وبالشبكات المعلوماتية كالانترنت وساكنتها من شبكات التواصل المختلفة… بل نقترح تدريس كيفية صناعة تلك الأنظمة والبرمجيات والبرامج وكيفية تطويرها والإبداع في ذلك، وتخطيه إلى صعيد ابتكار برمجيات أخرى جديدة وغير مسبوقة، ولكنها تكون مستجيبة للاحتياجات المغربية بالدرجة الأولى، وبعد ذلك لاحتياجات الأسواق الخارجية، كما فعلت كوريا وسنغفورة وغيرهما من البلدان التي كانت أقل منا شأوًا في مجالات العلم والمعرفة.
الحاجة إلى العناية المركزة بالعلوم البحتة والدقيقة:
إن احتكاكنا اليومي بالعوالم الافتراضية فتح أعيننا جميعًا على ممكنات الأزمنة الآتية في مجال الاكتشافات والفتوحات العلمية المتوقعة. وهذا يتطلب منا الحرص على المتابعة اللصيقة لما يجري على الساحة العلمية العالمية، خصوصًا أننا نمتلك تراثًا ثقافيًا غنيًا بمؤهلات السبق العلمي، وتاريخنا كمغاربة أفارقة وأندلسيين ومتوسطيين، وكأمازيغ وعرب ومسلمين، يؤكد ذلك برصيد هائل من الأدلة التاريخية في مجالات الفلسفة والفلك والرياضيات والطب والهندسة وغيرها.
هذه الحقيقة التاريخية تستنهض التعليم الذي نقترحه كي يشتمل على العناية الخاصة والمركزة بكل العلوم والمعارف التي كنا بارعين فيها على امتداد تاريخنا التليد. وفي طليعة هذه التخصصات: الرياضيات، وعلم الفضاء الكوني، والطب الحديث المعنى بالبيولوجيا والوراثيات والهندسات الحديثة، المرتبطة بمجالات تقنية مختلفة، منها الصناعي والتجاري والخدماتي، ومنها الزراعي والغذائي، ومنها ما يتعلق بتوقّع ندرة المياه، وظواهر التصحر، والتسونامي… إلى غيرها من المخاطر المستقبلية المحتملة والتي تعتني بتوقعها واستباقها هندسات في غاية الدقة والتخصص.

الحاجة إلى نشر ثقافة الكوتشينغ:
أقصد القائمة على حسن تدبير التقسيم الزمني والمكاني والبشري للمسؤوليات وللعمل في إطار علاقات متجانسة بين جميع أطراف الشغل أو الإنتاج. ذلك، أنّ التطور والتعقيد اللذيْن شهدهما عالم الإنتاج والتسويق والترويج، والخدمات المنبثقة من هذه العناصر والخادمة لخططها وأهدافها، جعل التدبير الإداري والتقني لهذه المجالات أكثر تعقيدًا، ولكن أيضًا، أصعب على مستوى الإدارة والتنسيق واستثمار الموجود والممكن أحسن استثمار. فرب مؤسسة إنتاجية لديها كل وسائل النجاح وممكناته، البشرية والمادية والإدارية والمالية، ولكنها لا تحقق النجاحات المطلوبة أو المتوقعة عند انطلاق أولى عملياتها ومشاريعها.
إنّ السبب واضح وجلي في مثل هذه الحالات، وهو ضعف أو غياب نظرة شمولية في وسعها أن تُحدِث التنسيق والانسجام الضرورييْن بين مختلف مكونات المؤسسة من جهة، ثم بين عناصر المشروع المطروح للتنفيذ من جهة ثانية. وهنا يأتي دور “الكوتشينغ”، ليس المسوَّق له حاليًا في بلادنا، والذي لا يحمل من هذه الفعالية العلمية الحديثة إلا الإسم وليس أكثر، بل “الكوتشينغ في مفهومه المتعارف عليه في أكثر البلدان تقدمًا وتطورًا”، ومنها على الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية، حيث نشأ هذا المفهوم الحديث ليخدم كبريات المؤسسات الإنتاجية والمقاولات التي تعدت شهرتها ومنتجاتها كلَّ الآفاق.
من هنا يتعين أن يشتمل البرنامج التعليمي على مادة “الكوتشينغ” صمن شعبة العلاقات العامة، التي تتضمن فعاليات علمية ومعرفية تتكامل فيما بينها لتعطينا في نهاية المطاف خرّيجين في غاية الفطنة وفي منتهى القدرة على مواجهة الإشكاليات اليومية للمؤسسة، وحلها ومعالجتها بالسرعة والحكمة والمران المستمدة جميعها من مادة دراسية وتكوينية نظرية وميدانية تطبيقية في وسعها أن تفكك المؤسسة، وتفكك المشكلة المطروحة، وتعيد تركيب ذلك في قوالب جديدة تحمل الحلول والمعالجات من تلقاء ذاتها.
الحاجة إلى التأهيل في مجالات تدبير الكوارث:
وكذلك الأزمات والحروب على المستوى المدني، إذ العالم الذي نحيا فيه الآن، والذي سنعيش فيه سواء في الغد القريب أو المتوسط أو البعيد، تزداد التهديدات والمخاطر المحيقة به يومًا بعد يوم:
ـ فهناك العنف الناجم عن عدم الاستقرار النفسي والاقتصادي والاجتماعي بمختلف أشكاله؛
ـ وهناك الإرهاب الذي صار موضة العصر في كافة بلاد المعمور بلا أدنى استثناء؛
ـ وهناك الكوارث الصناعية الناجمة عن سوء تدبير المشاريع الإنتاجية وفي مقدمتها التلوث الطبيعي والبيئي؛
ـ وهناك الكوارث الطبيعية التي ستزداد بدورها تكاثرًا وتفاقمًا بسبب أنماط غير قليلة من سوء التقدير والتدبير الإنسانييْن، وفي مقدمتها ظاهرة الاحتباس الحراري، الناجمة بدورها عن اتساع ثقب الأوزون في مواقع مختلفة من الغلاف الجوي للكوكب الأرضي… مما يهدد بظواهر طبيعية سبق للإنسان أن تعرّف عليها وعايشها على امتداد تاريخه الأرضي، ولكنها هذه المرة ستكون بلا أدنى ريب أكثر عتوًا وقوة وخطورة، وليس أقلها ظاهرة الزلازل وانزلاقات القشرة الأرضية، وظاهرة التسونامي التي يُتوقع أن يفوق ارتفاع أمواجها العاتية 30 إلى 50 مترًا، وظاهرة التسممات المائية والجوية الناتجة عن انتشار المفاعلات النووية وتوفر بعضها لدى كل مَن هب ودب… وقائمة هذه التهديدات لا تزال طويلة ومفتوحة.
إن هذا الواقع يتطلب أن يتوفر برنامج التعليم والتكوين على مادة أو مواد دراسية وتكوبنية تُعنى بتدبير الكوارث المختلفة، سواء على مستوى التوقع والاستباق، أو على مستوى المواجهة والمجابهة والمكافحة عندما تصبح أمرًا واقعًا بالفعل. وبطبيعة الحال فلهذا النوع من الفعاليات العلمية والمعرفية مهندسوه وهندساته المعترف بها عالميًا.
الحاجة إلى تطوير أداء مؤسسات المجتمع المدني:
والهدف ان تنخرط بفعالية في جميع المشاريع الإنمائية والإصلاحية، ما دام المجتمع المدني قد صار شريكًا فاعلاً في التنمية وفي تدبير الشأن العام، غير أن الجمعيات والهيئات العاملة والناشطة في هذا الحقل موزعة بين ثلاث فئات متنافرة ومتباعدة الأساليب والأهداف:
1ـ نمط لا يرعى سوى المصالح الفئوية والخاصة؛
2ـ نمط تابع لجهات وخلفيات سياسية أو مصلحية وطنية أو أجنبية لها أجنداتها الخاصة، والتي غالبًا ما تكون غيرَ خادمة لقضايا الوطن وأهله؛
3ـ نمط ضئيل جدًا، يريد رواده أن يخدموا المصلحة العامة والأهداف المعلن عنها ولكنهم تعوزهم المعرفة والخبرة اللازمتيْن والضروريتيْن، فيبقى أداؤهم ضعيفًا، ولا يخرج أحيانًا عن ضعف أداء النمطيْن الأول والثاني.
هذا الواقع الجمعوي، أو المدني بصورة عامة، يتطلب تعليمًا وتكوينًا وتأهيلاً عارفًا وحاسمًا في مجال الحكامة وفي مجال تنظيم المجتمع المدني وتأهيل هيئاته ومنظماته، بما فيها الأحزاب والنقابات والجمعيات والأندية، عن طريق تخريج شباب حامل للمعارف اللازمة وللمنظور العلمي الحداثي المتعلق بهذا النوع من التنظيم والتدبير. وهذا ينبغي أن يسري أيضًا على الجماعات المحلية والوكالات والهيئات الأخرى الدائرة في فلكها. وسيكون هذا بالغ النفع على مستوى تكريس مشروع الجهوية المتقدمة السائر في طريق التطبيق.
الحاجة إلى إتقان أفضل لسبل استغلال واستثمار الثروات:
سواء المادية أو غير المادية التي تتوفر بالبلاد. فكثيرًا ما نسمع من يقول مثلاً: لو كانت الثروات التي يزخر بها المغرب لدى اليابانيين أو الكوريين لحكمت اليابان أو كوريا العالم برمته. وهذا القول له مرجعياته وجذوره المتغلغلة في تربة الواقع، لأن الثروات المغربية الطبيعية والبشرية تعز أحيانًا عن الوصف، ولا يتسع المقال ولا المقام لإحصائها وعدّها وإن كان ذلك في حكم الممكن والمستطاع. غير أن تعاملنا نحن مع تلك الثروات أو تدبيرنا لها هو سيد المشاكل بلا منازع.
إن هذا يتطلب أن يتضمن البرنامج التعليمي والتكويني تقنيات وفنون تدبير الثروات إحصاءً وجردًا؛ ودراسة وبحثًا؛ وتثمينًا وتقييمًا؛ ثم تخطيطًا لأشكال استثمارها أحسن استثمار وأمثله داخليًا وخارجيًا، وعلى أيدي مستثمرين مغاربة وأجانب، ثم في نهاية المطاف تكريسًا لحسن توزيع مردودياتها ونتائجها حتى لا يبقى أي مغربي إلا وصل إليه بعض من ثمارها قلّ ذلك أو كثُر. وقد ألحت الخطب الملكية الأخيرة على مطلب إعادة توزيع الثروات ومراجعة أشكال توزيعها الراهنة ليصل نفعها إلى كل المغاربة بلا استثناء أو إقصاء. وهذا يدخل في صميم المادة الاقتصادية بكل تأكيد، ومن ثم يتعين أن تشمل هذه المادة هذا النوع من التكوين والتأهيل.
الحاجة إلى جعل جميع مجالات المعرفة
خاضعة للمنطق العلمي التجريبي والإحصائي:
بمعنى أن تكون خاضعة لمنطق هندسي، بالمفهوم الحداثي للهندسة. نحن لدينا سلطة حكومية مكلفة بالإحصاء والتخطيط، ولهذه المؤسسة الحكومية (المندوبية السامية) تقارير مسهَبة ووازنة لا تخلو من أهمية، بل هي بالغة الأهمية بكل تأكيد، ولكن السؤال يبقى مطروحًا باستمرار حول “مَن” يقوم بتدبير تلك الدراسات والإحصائيات، وما هي نسبة الإجادة وبالتالي المصداقية التي يمكن أن تُنسب إلى المكلفين بجمع المعلومات وتحليلها واستخراج خلاصاتها واستنباط التوصيات أو مقترحات القرارات التي ينبغي أن تتوج كل هذا الجهد الجسيم؟
إنّ الواقع يجيب من تلقاء ذاته، من خلال رفض الحكومة لنتائج عمل المندوبية المذكورة كُلاًّ أو بعضاً، وإتيانها في غالب الأحيان بأرقام وخلاصات وتوقعات مناقضة أو مخالفة في أحسن الأحوال.
إن هذا يتطلب تعليمًا وتكوينًا يُنتجان أفواجًا من الإحصائيين والمحللين الاقتصاديين والاجتماعيين يتوفرون على مؤهلات تُكْسِبهم مصداقية علمية يؤكدونها ويزكونها بما يقومون به من العمليات ذاتها، والتي كانت تضطلع بها المندوبية السامية السالف ذكرها باللجوء إلى خدمات مكاتب دراسة أغلبها أجنبي عن الخصوصية المغربية، أو إلى أطر مغربية غير متخصصة، أو تتوفر بالكاد على بعض المعارف والخبرات اليسيرة في هذا المجال العلمي التطبيقي الصعب، والبالغ أقصى درجات الأهمية.
نرنو إذن إلى أن تخرّج منظومتنا التعليمية والتكوينية أطرًا متخصصة في علوم “الإحصاء” و”التحليل الاقتصادي والاجتماعي” ذي الصلة الوثيقة في آن واحد بالديموغرافيا وعلم الإسكان والتنمية.

الحاجة إلى تكريس ثقافة الاستطلاع:
وكذلك استفتاءات الرأي بغية الخروج بخلاصات تلقي الضوء على انشغالات المواطنين وانتظاراتهم في مختلف المجالات المعرفية المذكورة. ذلك، أنّ من المآخذ التي يقر بها الباحثون والدارسون المغاربة أننا في المغرب لا نُقيم وزنًا لاستطلاعات الرأي واستفتاءات وجهات نظر ومواقف الفئات الاجتماعية المختلفة من مختلِف القضايا التي تهم الدولة والمجتمع.
بل إن بعض المسؤولين ما زال يرفض الانصياع للتوجه الدولي الآخذ بهذه الآلية، تحت ذريعة عدم أهلية السواد الأعظم من المواطنين المغاربة لتقديم آراء ووجهات نظر يمكن اتخاذها مرجعًا في صناعة القرار في مختلف مجالات الحياة العامة. ولأن العصر لا يرحم المتخلفين عن رَكْبِه، فإننا مطالَبون بالتعرف جيدًا على آراء ومواقف بعضنا البعض، من أجل اقتراح الصيغ الملائمة لانتظاراتنا، والحلول الناجعة لإشكالياتنا المتعلقة بمختلف مجلات التنمية.
من هذا المنطلق، يتعين أن يشتمل البرنامج التعليمي والتكويني على مواد من شأنها أن تؤهّل خرّيجيها في هذا المضمار، وأن تمكنهم من أحدث التقنيات المبتكَرة في ميادين استطلاع الرأي، وفي استعمال أحدث أساليب تحليل المعطيات والمعلومات والبيانات الناجمة عن هذه الآلية الاستعلامية والاستخبارية، قصد امتلاك القدرة على الإسهام بذلك في تيسير مأمورية صناع القرار على اختلاف اختصاصاتهم وصلاحياتهم ومستويات المسؤولية التي يضطلعون بها سواء في القطاع العمومي أو في نظيره الخاص.
الحاجة إلى الأبواب المفتوحة:
وأن تكون مفتوحة باستمرار، بين المؤسسة التعليمية العليا والمجتمع بكافة مكوناته. إن الباب المفتوح في مجال تلقين العلوم والمعارف لا يعني سوى أمرٍ واحد: وهو مد جسور التلاقي والحوار والتفاهم بين المؤسسة التعليمية ومحيطيْها المباشر وغير المباشر من جهة، وبينها وبين شركائها من مختلف المؤسسات والمقاولات والهيئات والفعاليات الشخصية والمعنوية من جهة ثانية، من أجل أن تبقى المؤسسة منفتحة على محيطها منصتة إلى انشغالاته وانتظاراته وبالتالي قادرة على إقامة تفاعل إيجابي معه، والاجتهاد في استنباط طرق ووسائل الاستجابة لتلك الانشغالات والانتظارات.
وهذا يتطلب أن يشتمل البرنامج التدريسي والتكويني على مواد تدعم آليات الإنصات إلى المحيط وتحليل ما يروج فيه واستنباط طرق الاستجابة له، لأنه يشكل الرئة التي تتنفس بها المؤسسة، وإلا فإنها ستجد نفسها مصابة بالاختناق داخل المحيط ذاته، عندما يكون كل منهما يتنفس هواء غير الذي يتنفسه الآخر. والمادة المعنية بهذا النوع من الدراسات والتحاليل والتقييمات لها ارتباط وثيق بل عضوي بعلم الاجتماع، ولو كان “علم الاجتماع الإعلامي” هو المعنيّ بالخصوص لكان ذلك أفضل وأفْيَد.
هذه إذنْ، مجرد نظرة ذات أفق طَموح ومتّسع، لما يمكن وصفه بآليات التعليم والتكوين الحداثييْن، المتلائميْن مع خصوصيات المجتمع المغربي والثقافة المغربية من جهة، ومع متطلبات التعليم والتكوين الجديرة ببلد يرنو إلى أن يكون اقتصادُهُ صاعداً بكل المعايير المتعارَف عليها عالميا من جهة ثانية. وهذه، كذلك، كرة ساخنة نلقي بها إلى أصحاب الشأن التعليمي والتكويني في مغرب مُقدَّرٌ عليه، في ظرفية عالمية بالغة الدّقّة والتعقيد والخطورة، أن يرفع يومياً أعتى التحديات.
تُرى هل سيكون لهذه الأفكار أدنى صدىً لدى هؤلاء؟.. ذاك هو السؤال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير.