الاقتداء: فيماذا يَحِقّ فيُصلِح.. وفيماذا يَبطـُل فيُفسِد؟! ‘مغرب التغيير – الدار البيضاء 23 فبراير 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 23 فبراير 2024 ع.ح.ي.
كلما سألتُ صديقاً .. أو بالأحرى جاراً من “المتأسلمين” الذي يجمعني به نفسُ الزقاق بالمدينة العتيقة.. وهو جار أتقاسم معه ذكرى زمالة عمّرت خلال فتراتِ طفولةٍ عفا عنها الزمن وسنواتِ دراسةٍ ابتدائية لم تتخطّ الأولى ثانوي… كلما سألته متصنِّعاً دهشةً كاذبة:
– ما هذه الأفاعيل التي تفعلها بنفسك ووجهك ولباسك؟!
إلا وأجابني في كل مرة بإصرار ظاهر:
– إنها السُّنة يا أخي… سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم…
ثم يضيف مستدركاًا
– ما زلتُ أدعو الله أن يهديك للانضمام إلينا (يقصد ما يسميهم “أهل السُّنّة والجماعة”) عسى أن تتوقف عن طرح أسئلتك الغبيّة!!
كما يبدو.. فطرح ذلك السؤال عليه كان وحده كافيا لإخراجي من خانة “أهل السنة والجماعة”.. التي جاء في حديثٍ نبوي موضوعٍ ومختلَفٍ عليه أنّ النجاةَ مقصورة عليها دون فِرَقٍ سُنّيةٍ أخرى أحصاها ذاتُ الحديث ثلاثاً وسبعين فرقة.. فما بالنا بمئات الفرق الأخرى إن لم تكن أكثر من ذلك خارج هذا المذهب؟! العجيب أن كلام الرجل بدا من نبرة الأسف التي صاحبته كأنه يدعوني إلى الإسلام(!!!)
كعادتي.. وكما في كل مرة.. كنت أعقّب عليه بكلمة أو اثنتين أحَمِّلُهُما كثيراً من السخرية.. ولكنها سخرية مهذّبة التزمتُ بها إزاءه بعد أن أتعبتني محاولات إقناعه بأن الاقتداء بالنبي والسلف لا يمكن ولا يُعقَل أن نَختزِلَه في تكحيل العينين.. وحلق الشارب مع “تربية” اللحية.. وتربية ما قد يسكن فيها من الكائنات الدقيقة (!!!) وفي جعل عود يُقال له “الأرَك” يتدلى من الفم كما تتدلُى أعقاب السجائر بين شِفاهِ المدخّنين المُزْرَوْرَقَةِ من فرط الإدمان.. وفي لبس عباءة فضفاضة.. ووَضْعِ معطفٍ أو “فيستة” فوقها.. كما يفعل الأفغان.. ومجاهدو طالبان تحديداً… دون إغفال سُبْحة صغيرة مُدَلاّة من معصم يَدٍ تتحسّسُ أصابعُها حبّاتِ السُّبحة بين الحين والآخر فيما يعتبرونه تسبيحاً لرب العزة.. وكأنّ التسبيح محضُ كلماتٍ ينطق بها اللسان وتُحصيها الأصابع بواسطة حبّات السُّبحة وليس أكثر!!!
باختصار.. “حالة والسلام”.. ولكنها حالة في أمسّ الحاجة لدراسة مُعمَّعة. فأين هم أخصائيو علم الاجتماع المغاربة؟!
يُحيلُني هذا الفهم الغريب والمنحرف لمطلب القدوة والاقتداء.. على الفكر السلفي عموماً.. من حيثُ قيامُه على اتّباع السلف فيما أَوْرَثونا إيّاه من تراث هجين.. بمعنى الأخذ بمبدأ “الآبائية”.. التي جَرَّمَها القرآن ونَبَذَها بصريح الآيات لكونها لا تستند على أسس قطعية وإنما على الظن فحسب.. كما تدل على ذلك الآية الحكيمة: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ” (البقرة-170).
يذكّرني هذا النهج السلفي أيضاً.. بأضحوكة “القبض على أصبع الإشارة بدلاً من القبض على اللص المُشار إليه”!!
ذلك.. أنّ الذين يدّعون الاقتداء بالسلف إنما يتمسكون بمفاهيم السلف وأحكامهم وتأويلاتهم التي هي نتاج رصيدهم من العلوم والمعارف.. أو بالأحرى مخزونهم الضئيل من العلوم والمعارف.. ورصيدهم الثقيل من الحفظ والنقل عن بعضهم البعض.. ومن السائد في مجتمعاتهم وأزمنتهم وثقافاتهم.. التي تجمّدت في عقول أتباعهم ومُتَّبعيهم وتخشّبت حتى أنها لم تعد تربطها بأزمنتنا ومجتمعاتنا إلاً خيوطٌ دقيقةٌ أوهن من بيوت العناكب… فما الذي كان على السلفيين أن يتخذوه موضوعا للاقتداء والتأسّي إذا لم يكن ما أنتجه السلف من المفاهيم والفتاوي والأحكام المتجاوَزة؟
دعونا نتعرّف على ذلك السلف قبل الخوض في نتاجه الفكري والعقدي:
إن أوّل ما يُلفتُ.. أو بالأحرى.. يجب ان يُلفِت انتباهنا.. لَهُوَ أنّ ذلك السلف كان مثالاً لحُسْنِ الخُلُق.. وصِدْقِ النية.. ونقاءِ السريرة.. وقوّة الإيمان.. وطهارة النفس.. وعُلُوّ الهِمّة.. والجرأة والشجاعة المثاليتيْن… بيد أن هذه المحاسن والمناقب لا يَسَعُها أن تُغَطّيَ على هَوان أرصدتِهم من العلوم والمعارف.. التي بالغ السلفيون في تقديرها إلى درجة التقديس.. حتى جعلوا منها قِوامَ “الدين” وما هي بالدين وإنما مجرد نمط من “التَدَيُّنٍ” وليس أكثر…
إن تلك الأرصدة بمعايير زماننا وعصرنا.. إذا نحن اختبرنا مبلغهم من العلم الحق.. مع القيام أيضاً بواجب إبستيمولوجي يقتضي فصل العلم عما دونه باستبعاد أرصدتهم من المحفوظات عن ظهر قلب.. ومن النصوص الفقهية الموروثة عن آبائهم الأوائل وشيوخهم ومعلّميهم.. فإننا سنجد رصيدهم العلمي لا يتعدى في أحسن الأحوال ما لدى تلاميذ أطوارنا الثانوية.. علما بأن كل ما كان لديهم من المحفوظات إنما تناقلوها فيما بينهم أباً عن جد.. بكل حذافيرها.. حتى إننا نجدها منسوخة عند كل تلميذ منهم عن شيخه بنفس الصيغ التعبيرية وبنفس الكلمات.. عملاً بما يشبه مبدأ العنعنة.. الذي اجترحوا لنا به “دينا موازيا” قائما على الروايات الآحادية لا يُشبه في جُلِّ تعاليمه ما جاء به الصادق الأمين عليه أزكى السلام من عند ربه عز وجل!!!
أما العلماء الأفذاذ الذي لمع نجمهم في زمن السلف فقد تعرضوا للقتل والصَّلب والحرق.. وكذلك كتبهم ومخطوطاتهم!!!
إنّ تلك الضحالة العلمية هي التي جعلتهم عاجزين عن استنباط قوانين كونية يستدلّون بها مثلاً على كروية الأرض.. ودورانها حول نفسها وحول الشمس.. ويكتشفون على ضوئها أن الجبال تمر الآن مر السحاب بفعل ذلك الدوران بالذات.. وليس كما قالوا بحدوث ذلك في الدار الآخرة أو عند مجيء الساعة.. ويعجزون أيضا عن تعديل تفاسير سابقيهم بناء على تدبر القرآن امتثالا لأمر الله عز وجل.. بدلا من نقل تفاسير الآباء والأجداد بدون استعمالٍ لملكات العقل.. لأن الرصيد العلمي الذي كان ينبغي أن يستند العقل عليه كان غايةً في المحدودية.
وهناك حقائق أرضية وسماوية وكونية أخرى لم يستطيعوا الانفتاح عليها لذات السبب.. علما بأن القرآن الحكيم قدم لهم ولنا وللناس مفاتيحَ للولوج إلى تلك المعقولات والحقائق العلمية الخالصة بشيء من التدبر والتفكّر المدعوميْن بالبحث العلمي… ولكنهم معذورون.. وعذرهم مقبول بكل دلالات الكلمة لنفس السبب.. وهو ضعفُ الرصيد العلمي وهَوانُه… ففي أي شيء يجب أن نقتدي بالسلف؟
نحن هنا أمام حقيقتيْن مختلفتين لذلك السلف:
الحقيقة الأولى: وهي المطلوبة بالاقتداء.. وبالتالي فهي عينُ ما ذكرناه من قوةِ الإيمان وصدقِ النية ونقاءِ السريرة وعُلُوّ الهِمّة.. ومن الغيرةِ على الدين والديّان.. وعلى الحق.. الذي كانوا يصدحون به ولا يخافون في ذلك لومةَ لائم …
والحقيقة الثانية: رصيدُهم من العلم والمعرفة.. وهذه رهينة بمجتمعهم وزمانهم ومبلغهم من التطوّر والتحضّر.. وما نتج عن ذلك من المفاهيم والقواعد الفقهية والأحكام… وكل هذه لا تلزمنا في شيء إلا ما وافق منها ظروفنا وقضايانا من الحِكَم والعِبَر… أما الباقي فإنه لا يَخُصُّنا.. وبالتالي يتعيّن تطويرُه أو تغييرُه ليوافق عصرنا المختلف عن عصورهم كل الاختلاف.. والمخالِف لها تمام المخالَفة.
السلف أيضاً.. لا يحق لنا أن نقتدي بما كانوا يستعملونه من وسائل في مباشرة حياتهم اليومية وفي القيام بواجب العناية بمعيشِهم وبأبدانهم وهندامهم.. وفي اختيار وسائل حَلِّهم وترحالهم…
من هذا المنطلق.. يُعاب على ذلك الجار الصديق استعمالُه للكحل بدلاً من كل أنواع المحاليل وما أكثرها.. الموجَّهة لوقاية أو علاج العينين من مختلف الآفات.. واستعمال عود الأرك بدلا من معاجين الأسنان وما أوفرها هي الأخرى.. واستخدام عباءات صحراوية بدوية ثمّ وضع معاطف عصرية فوقها.. منمّين بذلك عن ازدواجية مَرَضية هي أقرب إلى السكيزوفرينيا أو ازدواج الشخصية منها إلى أي وصف آخر… لذلك كنت دائما أنصح ذلك الجار الصديق مادام مصرا على اعتبار الانحراف عن عصره محضَ اقتداء برسول الهداية وبالسلف “الصالح”.. أن يترك الهاتف الذكي المركون في جيب معطفه.. وأن يركب الحمير والبغال والخيل والجمال إن وجدها.. ويترك ساعة اليد.. ونظارات الوقاية من أشعة الشمس.. ثم أن يستقي أخبار الأهل والأقارب وأخبار الدنيا والعالم من حوله بالتنقل عبر الأمصار.. وطرح الأسئلة على قوافل التجار.. واقتفاء حركة الزمن بالتطلع إلى الكواكب والأقمار!!!
نهايته.. إذا كنا نموت حُبّاً في السلف فعلينا أن نقتدي بما كانت عليه طبائعُهم وسرائرُهم وأخلاقُهم… لا أن نأخذ عنهم مطلقا أنماطَ فهمِهم ومفاهيمَهم ووسائلَ عيشهم وحَرَكاتِهم وسَكَناتِهم… لأننا لا يحقّ لنا بأي حال من الأحوال أن نكون نقّالين وحُفّاظاً مثلَ ذلك السلف.. ومثلَ كلِّ مُقَدِّسيه وعُبّادِه من السلفية المدمنين على النقل بلا عقل.. فنخالف بذلك سُنّةً إلهيةً في الخلق تقتضي الجعل والتطوّر والتحوّل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!!!
بالمناسبة.. رأيتُ وسمعتُ ذات مرة سلفياً كَثَّ اللحية عريضَ المَنْكِبَيْن منتفخَ الصدر والبطن والأوداج يصرخ أمام الكاميرا قائلاً: “عقلك أيها المؤمن بغل.. نعم بغل.. وعليك أن تلجمه وتركبه حتى لا يركبك”…
يا إلهي.. هل بَعد هذا الخَرَفِ خَرَف.. وهل بعد هذا التّخَلُّفِ تَخَلُّف ؟!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير.