المهام الدستورية للأحزاب المغربية.. هل ستظل حبراً على ورق بعد تجارب ماضية شبه مقبولة؟! (مغرب التغيير – الدار البيضاء 22 يوليوز 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 22 يوليوز 2024 ع.ح.ي.
الآراء والمواقف المعبَّر عنها في هذا الباب لا تُلزِم هذه الجريدة
مُنِيَتْ بلادُنا، منذ بداية تجربة التناوب التوافقي، سنة 1998، بأداء حزبي سياسي واجتماعي وثقافي في غاية الضعف والتراجع قبل أن يطالَ الدَّرَكَ الأسفلَ من الدونية والانهيار، مقابل ارتقاء متواصل لأداء المؤسسة الملكية إلى أعلى من المتوقع.
لا نقول هذا تشفِّيًا، وإنما إقرارًا بوباء نال من أحزابنا جميعها بلا أدنى استثناء. ولا نقولُه قياسًا إلى أداء أحزاب أوروبية أو أمريكية أو غيرها من “الأحزاب حقًّا”، بل بالمقارنة المتواضعة مع سلوك الأحزاب ذاتِها في غضون السِّتينات والسبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، قبل أن تنقلِبَ على نفسِها، وتتنكّر لتاريخها، والأكثر من ذلك، أن تتنكر لقاعداتها المُواطِنة التي “تَشابَه عليها البقر” فلم تعُد تميِّز بيْن الغثّ والسمين، والصالح والطالح، والصادق والكاذب… بعد أن هجرتها النُّخَبُ المتخلّيةُ عن رسالتها، والمنشغِلةُ بالتدافع على الكراسي والمناصب. ولم يسلم من هذه الآفة أيُّ تنظيم منها، حتى بات الأمر موضوع تَنَدُّرٍ وتَفَكُّه وسخرية، وحتى أنّ ملكَ البلاد وجد نفسَه مضطرًّا إلى تضمين بعضِ خُطَبِه إشاراتٍ إلى ضعف الأداءِ الحزبيّ، لم يلتقطها بالمُروءة اللازمة إلى غاية اللحظة الراهنة إلا القليلون النوادر.
إن هذا الكلام لا يخص الأحزاب دون سواها، بل هو سارٍ بحذافيره على تنظيماتها النقابية وأجهزتها الأخرى المختلِفة، باستثناء شبيباتها التي يظلّ بَعضُها، القليلُ جدّاً، رافضًا بطبيعته ومُعَرَّضًا بالتالي لنِقمة قياداته السياسية قبل غيرها.
سوف لن تُعْوِزُنا الأمثلة الحيّة للتأكيد على صَواب هذا الحكم، وعلى خُلُوِّه من أيِّ نيّةٍ للتحامل على هذه الهيأة السياسية أو تلك. وسنقدّم بعضًا منها على سبيل الاستئناس، أو بالأحرى، على سبيل الإمعان في التنكيل الذاتي كما يفعل “الماسوشيون” لأن الظاهرة أصابتْ منّا مَوْجِعًا يعلم الله مدى تأثيره السّلبيِّ، البالغ في واقعنا حدودًا لا تُقاس.
علينا أن نُقِرَّ هنا بأننا، قبل أن يستفحِلَ أمْرُ “مُؤَطِّرينا” ويتدنَّى مستواهُم فِكرًا وفهمًا وقَوْلاً وسلوكًا، كُنّا نتقمّص دور “الأميرة السَّجينة” ونحلم بتحوّلاتٍ وتغييراتٍ اعتقدْنا بكل سذاجة، أو بلاهةٍ، أنّ أحزابَنا أو بعضَها سيؤدّي فيها دور الفارس المنقِذ، أو فارس الأحلام، الذي كانتْ حَكَايا طفولتنا المأسوفِ عليها تَضَعُهُ فوق حصان أبيض، وتُسبِغ عليه كل صفات المُروءة والغَيْرية والإيثار!!
قد يقول قائل: إن أحزابنا لم تَضْعُفْ من تلقاء ذاتها، وإنما سعتْ إلى إضعافها جملة ٌمن العوامل الخارجة عن الطَّوْعِ والإرادة، منها ممارسات “المخزن” كما يقول بعض تلك الأحزاب… إلى غير ذلك من المبرِّرات.
والحال أن هذا القول حقٌّ ما في ذلك أدنى ريب، ولكنه حقٌّ يُراد به باطل… فكيف ذلك؟
إن الأحزاب التي كانت أكثر مُعاناةً من الخنق والتضييق والقمع، أثناء ما سمّته هي نفسُها بسنواتٍ للرصاص أو الجَمْر، لم يكن ذلك يزيدها إلاّ قوّة وإصرارًا، وانتشارًا على الصعيد الجماهيري.
من هذا المنظور بالذات، كانت تلك التنظيمات تبدو على الدوام في موقع المنتصر والفائز في أغلب المعارك والاستحقاقات. وكان ذلك يبوِّئُها أيضًا مكانة رفيعة، ليس لدى مناضليها والمتعاطفين معها فحسب، بل أيضًا، لدى الإدارة التي كانت تناهضها وتضَيِّق عليها. ولا أدلّ على ذلك مِن لجوء المغفور له الملك الحسن الثاني إليها عندما بلغ سَيْلُ إخفاقاتِنا الاقتصادية الزُّبى، وصار المغرب قاب قوسيْن أو أدنى من الإفلاس، الذي لا يعني سوى تقويض ما بقي من دعامات السلم الاجتماعي، وإدخال البلاد لا قدّر الله بتحصيل الحاصل في دوامة من الفوضى والعنف لم يسبق لها مثيل.
معنى هذا أنّ ممارسات الإدارة في الماضي ضد الأحزاب التي طالها القمعُ والتضييق، لم تكن تُضعِفُها بأي شكل من الأشكال، اللهم إلاّ إذا قصدنا بالإضعاف وسائلَ عملها فحسب. وحتى في هذه الحالة، فقد كانت الحيلة لا تُعْوِزُها للحفاظ على صِلاتِ الوَصْل مع قواعدها من أدنى نقطة في البلاد إلى أقصاها. وكان ذلك شديد الوضوح في تظاهراتها وتجمُّعاتها ومسيراتها الصاخبة… ولولا ذلك بالذات، لما كان للجوء إلى إشراكها في تدبير الشأن العام ما يُبرِّرُه، ولَما كان لها دِلْوٌ تُدلي به في إنقاذ البلاد من “السكتة القلبية” كما سماها الملك الحسن الثاني والتي كانت موشكة، ولَما وقع الإقرار من لدن معظم مكونات الدولة والأمّة بضرورة إتاحة الفرصةِ لها للقيام بدور “المنقِذ”.
فمتى إذنْ أُصيبت تلك الأحزاب بكل ما نُعايِنُه الآن عليها من الوهن والخنوع؟ الجواب بسيط ويسير، وواضح وضوح الشمس في الظهيرة كما تقول أدبياتُنا.
إن مَنشأ ذلك التقهقر والاستضعاف الذاتي مردُّه إلى نسيان تلك الأحزاب لتاريخها، وتناسيها لما جاءت إلى سدّة السلطة التنفيذية لأجله، وانغماسها منذ الوهلة الأولى في أخطاء قاتلة بكل المقاييس.
من بين هذه الأخطاء على سبيل المثال:
توزيع مناصب الدواوين الوزارية على الإخوة والأخوات من مناضليها، دونما اعتبار لكونها لم تزلْ ناشئة ومبتدِئة في مجال الإدارة والتسيير والتدبير، وبحاجة بالتالي إلى أطر إدارية محنّكة تسد بها ثغرات الدواوين المتحزِّبة، فنجم عن ذلك ما نسمّيه “استنجادَ جاهلٍ بجاهل”، أو “استقواءَ ضعيفٍ بأضعفَ منه”، ونتج عنه بتحصيل الحاصل تفكُّك خطير في البنية الحَكامية للقطاعات التي استأثرت تلك الأحزاب بتسيير شؤونها، وصِرْنا نرى وزراء لا يعلمون، يُساعدُهم جيش عَرَمْرَمٌ مِنْ المُقَرَّبينَ لا يقلّ جهلاً بالمسؤوليات المنوطة به، ونرى باقي مرافق تلك القطاعات مستمرٌّ في مساره المتراجع، والذي دأب عليه أيام الحكومات السابقة، وكأن شيئًا لم يتغيَّر باستثناء أسماء الوزراء وانتماءاتهم.
لقد كان، أيضًا، من نتائج ذلك التوجه الخاطئ، أن رأينا الوزير الأول مثلاً، ذ. اليوسفي، وهو يُصدر المنشور تلو الآخر لإعادة تنظيم شأن من الشؤون، فلا يجد آذانًا صاغيةً، ولا إراداتٍ منخرطةً في ذلك الجهد، حتى بيْن وزراء ينتمون إلى حزبه ويُفتَرَضُ أنهم مؤتمِرُونَ بأوامره داخل الحكومة وخارجها. والسبب في ذلك أن الوزراء لم يتسنّ لهم طيلة فترة ولاياتهم الحكومية أن يتحكّموا فعليًّا في دفّة الأشياء بالقطاعات التي يشرفون عليها، إذ كانت الأمور في أيدي كتاب عامين ومدراء ورؤساء أقسام بادلوهم الخصومةَ منذ أوّل وهلة.
لقد سمعنا آنئذٍ عن تنقيلات كثيرة، وعمليات عزل أكثر عددًا، وعمليات تعيين وتعيين مضادّ لا تنتهي، وبدا أن الحكومة في سوادها الأعظم كانت منشَغِلةً بأشياء لا علاقة لها بتاتًا بما جاءت لأجل تدبيره. زد على ذلك، انكباب وزراءَ منها وموظفين سامين ينتمون إلى أغلبيتها المهَلْهَلَة بتشكيل ثرواتهم الخاصة، عملاً بمبدأ “هم السابقون ونحن اللاحقون” فتشابهوا في ذلك وفي التكالب على المناصب مع “من سبقوهم بغير إحسان”… وهلُمَّ فسادًا وعبثًا.
الأدهى من هذا كله، أن بعض وزراء حكومة الإنقاذ تلك، تغيَّروا بـ 180 درجة بمجرد استقرارهم فوق كراسيهم، كما حدث مثلاً لوزير المالية، الذي كان لا يجد غضاضةً في كَسْر منضدات منابر مجلس النواب، يومَ كان نائبًا برلمانيًا، وهو يَشْجُبُ “عمليات البيْع الممنهجة لمؤسسات الدولة”، كما كان يُسمِّيها آنئذ، ثم وهو يبيع بعد ذلك بطِيب خاطرٍ ما تبقى من تلك المؤسسات والشركات والامتيازات لسدّ الثغرات المالية، ليس في الميزانية العامة للدولة، أو في صناديق العمل الاجتماعي والرعاية الاجتماعية، أو صناديق الدعم، بل من أجل إنقاذ ماء وجه مؤسسات تَصَرَّفَ مسؤولوها في أموالها العمومية بمنتهى السَّفَه، مثل القرض الفلاحي، والقناة الثانية (دوزيم)، والخطوط الملكية المغربية، والقرض العقاري والسياحي، والصندوق المغربي للتقاعد… وغيرها من المؤسسات، التي كانت مثالاً في جودة الأداء وارتفاع حجم المردودية، قبل أن يطالها مُحترِفو النهب الممنهج. بل رأينا مسؤولين عن بعض تلك المؤسسات، ينتمون إلى أحزاب تُصَنَّفُ في خانة التقدّمية والحداثة، وهم يُساقون إلى المحاكم للاستنطاق حول ملفات فسادٍ تَزْكُمُ روائحُها الأنوف.
نقول هذا، في حق الأحزاب التي يتفنّن البعض في الادّعاء بتعرُّضها لمُسَبِّبات تراجُعها وضُعفها على يد “المخزن”. ولكننا، ونحن نُؤَمِّن على هذا الادعاء بإقرارنا بأنها تعرّضت فعلاً لذلك الحيف، نرى أن هذا الأخير لا يُشكِّل زُبْدَ مبرِّراتِ ذلك التقهقر. وقد وضَّحنا، بما فيه الكفاية، أبرز أسباب نزولها الفعليّ إلى الدّرَك الأسفل في الأداء السياسي، بحصيلة تزداد تواضعًا وتراجُعًا بيْن كل استحقاق وآخر، منذ تقلُّدِها مناصبَ المسؤولية لأوّل مرّة. ونؤكد أن ذلك قد تكبَّدَتْهُ من جرّاء قيادات لاصقة لم يعد بينها وفنون السياسة وقواعدها المتغيِّرة والمتطورة وأخلاقياتها إلاّ “الخير والإحسان”، فضلاً عن تحوّلها إلى مجرد دكاكين انتخابية تقفل أبوابها بعد كل استحقاق انتخابي فلا تعود إلى فتحها إلا عند اقتراب الاستحقاق المُوالي.
- واحد يفتخر بتحوُّله إلى أول رئيس للحكومة دون أن يُفعِّل اختصاصًا واحدًا من اختصاصات الرئاسة، وكان قد نجح في تنويم أكابر حزبه مغناطيسيًا ليظفر بولاية ثالثة، والظاهر أنه كان يريد أن يفعّلها مرة أخرى، في مستقبل كان قريباً، لفائدة صهرٍ أو قريب يُورِثُه الزعامة؛
- وآخر يجتهد في الحصول على منصب شرفي عالمي على أمل أن يؤمّن له الاحتفاظ بقيادة الحزب ومجلس النواب، دون أن يقنع بصفة “أقدم برلماني في العالم” (1963 – 2018 )؛
- وثالث يتذبذب بيْن الحلفاء والخصوم واضعًا قدمًا في كل خندق استعدادًا لاعتناق مبدأ “الله ينصر من أصبح”. وقد ارتكب بدوره جنحة التلوّن والتقمّص، بمجرَّد إعلان نتائج انتخابات 25 نونبر 2011، وما تلاها من خطوات تشكيل حكومة الرئاسة الأولى!!
وكل هذه “النَّرجسيات” السّافرة، تتجلّى لدى هؤلاء دون أن يتنازل أحدهم قيد أنملة عن القول بنصرة الحق والعدل والديمقراطيا والحداثة، وبخدمة المصلحة الوطنية دون كل المصالح!!
هذا فيما يتعلق بأحزاب كان المغاربة يعقدون عليها عريضَ الآمال. فما بالُنا بالأحزاب الأخرى، التي سُمِّيَت إداريةً، ومطبوخةً، ومفصَّلةً على مقاس أشخاص بعينهم، وليس بناءً على جدلية فكرية وسياسية جادّة ومعقلنة؟.. ذاك سؤال يحتاج لوقفة منفصلة!!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير / صورة الواجهة: Banassa.