آراء ومواقف

متى يُرَد الاعتبار لمنهجية الجدل والمناظرة بعيداً عن التعصب والتشنّج؟! (مغرب التغيير – الدار البيضاء 10 غشت 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 10 غشت 2024          ع.ح.ي.

الآراء والأفكار المعبَّر عنها في هذا الباب لا تُلزِم هذه الجريدة

الدافع على إنجاز هذا المقال، ما يلمسه الباحث والدارس من الجهل غير المبرَّر لدى شريحة عريضة من المثقفين حول موضوع من الموضوعات “العارضة” أو “الجانبية” Para كالباراسيكولوجيا، يلامس في آن واحد حدود الواقع واللاواقع، أو بالأحرى، حدود الواقع في شُقَّيْه المنظور وغير المنظور.

وحين نقول اللاواقع، أو الواقع غير المنظور، فإننا لا نعني به بتاتًا الوهم والخيال والهوس… وإنما نقصد به الظواهر التي توجد فعلاً، ولها في الواقع آثارُها وأصداؤها المحسوسة فعلاً، ولكنها لا تلتقطها حواسنا وإنما تلتقط نتائجَها وآثارَها فحسب، ولا تخضع بالتالي للسبر والفحص بواسطة وسائل وأدوات مخبرية صُنعت أساسًا للبحث في الأشياء والظواهر المادية الوجودية الخاضعة لسلطة الحواس، كشؤون المعيش اليومي ومختلف صنوف المعاملات الأفقية “الظاهرية” بين الأفراد والمجتمعات والثقافات، وكالأمراض العضوية ومسبباتها من الجراثيم والفيروسات… إلى غير ذلك من الأمور التي يمكن أن تلتقطها آليات الاستشعار الخمس، أو الحواس، المتوفرة لدينا بالغريزة.

في هذا السياق ذاته، ينبغي الكلام عن هذا النقص غير المبرر في الإحاطة بالجوانب الخفية أو المحتجبة من حياة الإنسان والكون والطبيعة، عسى أن ندفع بذلك عددًا من المثقفين إلى البحث في هذه الجوانب من باب توسيع المَدارك والآفاق المعرفية ليس إلاّ.

غالبا ما يُثير في النفس مشاعرَ الأسف، ما نراه ونلمسه في تعاليق وتعقيبات غير عارفة لبعض المتدخلين هنا وهناك، من المثقفين بالذات، كلما ألْفَوْا أنفسهم أمام موضوعات تحمل أفكارًا لا تناسب قناعاتهم الشخصية، أو بالأحرى، تتخطّى بالقليل أو الكثير ما لديهم من النصيب العلمي والمعرفي، فيستكثرون على غيرهم الخوض في تلك الموضوعات أو إبداء أي إشارة إليها، فينبرون لتسفيه صاحب البحث موضوع انتقاداتهم شخصيًا، ويختارون نعته بأقذع الأوصاف وأدناها، بدلاً من مقارعة أفكاره بعيّنات من بنات أفكارهم واجتهاداتهم، أو مقارعتها على الأقل، بأفكار مضادة ينقلونها عن مصادرهم ومراجعهم في مختلف مجالات العلم والمعرفة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، لأن النتيجة ستكون عندئذٍ إثراءً للموضوع المطروق، وتيسيرًا لتعميم الفائدة المرجوة على قرّائه ومتصفّحيه.

صدى البلد

غير أن الأمر يتعلق في أحايين غير قليلة بأناس يعتقدون أنفسهم علمانيين، أو هكذا يخيّل إليهم، فيُفرطون في تقمص هذا الدور، فيجعلون أنفسهم في موقف ذاك الذي ينعته المثل الشائع بمقولة “ملكي أكثر من الملك”، فيتخذون مواقف “مُعَلْمَنَة” تنازل عنها رواد العلمانية أنفسهم بعد أن اكتشفوا زيفها أو ضعف حُجَجِها وأدلتها، التي ربما كانت تبدو في السابق علمية ومفحِمة، كما حدث على سبيل المثال، لمن لا يزالون إلى يومنا هذا يدافعون عن نظرية داروين للنشوء والارتقاء ويدرّسونها لتلامذتهم، حتى بعد التأكّد بفضل تحاليل الحامض النووي لبقايا هياكل مختلف أنواع القردة العليا Gibbons وبشَر العصور السحيقة، “الأوموسابيان” و”النيودرتال”، بأنّه لا يوجد أيُّ انتماء لـ”بني آدم”، الإنسان الحديث، إلى أيّ فصيلة من تلك الفصائل الحيوانية و”قبل البشرية”، فتأكد بذلك أن الخلقة الآدمية الإنسانية، المستوية والذكية والمكلَّفة (بالنصب) تتميز بانفرادها عن كل ما سبقها من أشكال “البشر” الأوائل، فبالأحرى عن القردة العليا.

والمصيبة أن إخواننا المدّعين للعلمانية يتخذ نفر منهم موقفا عدائيًا من مصادر الدين الإسلامي تحديدًا، وربما نجد لديهم ما يبرّر فعلاً هذا الموقف بسبب هوان أحوال مسلمي وأئمة وفقهاء هذا الزمن الرديء، لولا أنّهم يتخطون ذلك إلى القدح في القرآن الكريم، واعتبار ما جاء به من الحقائق العلمية الخالصة مجرد خرافات وهلوسات وأوهام، تماماً كما كان جاهليو الأزمنة الماضية يصفونها بأساطير الأوّلين.

ولأنهم تنقصهم الشجاعة للإعلان عن مواقفهم من الدّين ومن القرآن صراحة، نجدهم يوجّهون مَدافع نقدهم اللاذع لكل باحث أو مؤلِّف يعتمد في بعض طروحاته على آيات من الكتاب المبين، فيصفونه بالرجعية والشعوذة والوهم رغم إيقانهم بأنه لم يفعل سوى أنه جاء بكلام ربّاني ليدعم مقولاته وتأويلاته.

قال تعالى في الآية 4 من سورة البقرة في وصف المتقين: «الذين يؤمنون بالغيب ومما رزقناهم ينفقون…» فربط بين الإيمان بالغيب والأعمال الصالحات.

والسؤال الذي توحي به هذه الآية والذي يطرح نفسه في هذا الموقف بداهةً: “هل يؤمن أشباه العلمانيين هؤلاء بالغيب”؟

لا نتجاسر هنا على الإجابة بالنفي خشيةَ تكفير هذا أو ذاك، إذ لا حق لنا في ذلك بتاتًا، وعلى الإطلاق، وإنما نحاول فهم فكر وسلوك هؤلاء، الذين يدّعون العلمانية دون أن يمتلكوا من وسائلها في البحث والفهم ومنهجية المناظرة والمجادلة، ولا مما تقتضيه من الجرأة والموضوعية وحرية التعبير عن الرأي قيد شعرة!! وحتى حينما يعتمد أحدهم أسلوب الحوار العلمي، كما يتخيّل إليه ذلك، فإنه يلجأ إلى منحيين اثنين:

الأول: منحى الإقصاء، عن طريق تجريد صاحب العمل موضوع النقد، بالقول وليس بالأدلة والحجج، من أي علاقة بالعلم والمنهجية العلمية انطلاقا من فهمهم الخاص للعلم ومنهجيته، ثم القول بمخالفته للمنهج العلمي؛

الثاني: منحى التحجج والاستشهاد برصيد علماء غربيين وبنظريات لهؤلاء أصاب الكثير منها الصدأ وصارت متجاوزة من منظور روادها أنفسهم، ومثال مصير نظرية داروين سالفة الذكر غني عن الإطناب، وهناك “نظريات علمية” أخرى غير قليلة تَغَيَّر مجراها أو تفسيرها علميًا بناءً على حقائق قرآنية بشهادة أصحابها والمنافحين عنها قبل غيرهم!!

الأدهى من هذا السلوك الاستلابي، أن هؤلاء المنتقدين لا يتورّعون عن وضع أنفسهم في موقف بالغ الغرابة والعبث:

فمن جهة، يتّهمون صاحب العمل موضوع النقد “بالتقيد بالنقل في مواجهة العقل”، حتى لو كان يستند إلى آيات القرآن وفق تفسير حداثي/اجتهادي يأخذ تطور مجلات الفكر والعلوم والمعارف بعين الاعتبار، ورغم أنّه لم يعتمد على ما تركه السلف من التفاسير التي صار بعض غير يسير منها متجاوَزًا حتى يَصْدُقُ اتهامُهُ بالنقل؛

ومن جهة أخرى، يكتفون بالاسترشاد بكتب مفكرين غربيين قدامى ومُحْدَثين، في عملية لا تقل نقلا وتقليدا عما يدّعون رفضه وإدانته تحت مُسَمَّى النقل والتقليد!!

ثم إنهم يمارسون الانتقاء كذلك، حين لا يُلقون في الوقت ذاته أيَّ بال إلى كبار العلماء والمفكرين الغربيين الذين أعلنوا تصديقهم بما جاء به القرآن من حقائق يستحيل أن يدركها العقل الإنساني في زمن نزول القرآن، حتى أن منهم من أعلن إسلامه من جراء بلوغه إلى اكتشاف السبق القرآني في مجال تَخَصُّصه العلمي التجريبي والبحت، بفضل أبحاث علمية تجريبية يصعب الطعن فيها، جعلته يوقن بأن القرآن ليس بالمطلق صنعة إنسانية.

بقيت مشكلة أخرى عصية على الحل، وهي مشكلة جمهور من الفقهاء ممن يفهمون الإسلام فهما مغلوطا فيؤوّلون آيات الكتاب بناء على فهمهم غير المبني على أساس علمي موثوق به، فيؤدي ذلك إلى تفريخ أجيال من المتطرفين المتعصّبين من ضعاف النفوس وضئيلي المعرفة العلمية والدينية، فيُعطون للأغيار بذلك أسوء صورة عن دين بريء من جهلهم وبُطلان فهمهم ودعاويهم.

والأدهى في هذا الأمر، أن تطور وسائل الاتصال زاد في انتشار صدى هؤلاء على أوسع نطاق، ومعظمهم سلفيّ، حتى رأينا من بينهم أنفارا يمارسون الإفتاء هنا وهناك دونما أدنى أهلية للقيام بهذا “الدور/الرسالة”… والبقية يعرفها الجميع.

هؤلاء المتطفلون، على التفسير والتأويل والإفتاء، هم الذين جعلوا مَن يدّعون العلمانية ينظرون إلى الدين نظرتهم إلى ذلك النوع من الفقهاء، فينبرون لنقد وتجريح كل ما له صلة بالدين دون أن يجدوا الجرأة لإعلان أحد موقفين شجاعين:

– إما الجهر برفضهم لدين الحق وإعلان إلحادهم أو كفرهم أو انتمائهم إلى إحدى الطرائق اللقيطة كـ”البهائية”[1]، والظاهر أنهم لا يستطيعون ذلك؛

– وإما الالتزام بالنزاهة العلمية والحرص بالتالي على وضع خط عريض فاصلٍ بين “الدين” وحمولاته العلمية والشرعية، الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية من جهة، وأفكار وسلوكات “المتديّنين” أو الفقهاء المشار إليهم وتابعيهم من جهة ثانية، حتى يظلّ كلامُ الله منزهًا عن مواقفهم الهجينة، وحتى لا يُؤاخَذ الدّينُ بما يأتي به هؤلاء المحشورون على مجالات الفقه والتأويل والإفتاء.

ويبقى الغائب الأكبر في تصرفات نُقّاد آخر الزمان هؤلاء، هو مقارعة الفكرة بالفكرة والمقولة بضدها، لإعادة الاعتبار لشيء أسمه الجدل، والمناظرة، والحوار البنّاء… بدلا من القفز على أصحاب الفكر المخالف باستعمال السب والقذف والتشهير والإقصاء… وهلمّ بَغْيًا وسفسطةً!!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] نسبة إلى مؤسسها بهاء، الذي ابتدعها بمعية فريق من مريديه بوصفها ديانة توحيدية مستقلة، تؤمن بالأنبياء أصحاب الرسالات الأربع، الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن، ولكنها تقدم نفسها كرسالة خامسة ومعقبة للبعثة المحمدية، وبذلك فإنها تعمل على تعطيل الآية القرآنية: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا”، فضلاً عن تعاونها جهرًا مع الدولة الصهيونية واعتراف أقطابها بتبادل التعاون والدعم مع هذه الأخيرة. وقد درج متكلموها على تسفيه الدين الإسلامي مستغلين في ذلك أفكار وأحوال ضعاف الفقهاء والأئمة المسلمين وميل أنفار غير قليلين منهم إلى زرع بذور التطرف. وقد كفّرتها كل الفرق المسلمة لكونها، على الأقل، لا تؤمن بكون الرسالة المحمدية بمثابة “الرسالة الخاتم”.

– (مصدر صورة الواجهة: بلادي).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى