مرة أخرى.. عن الحج وشعائره والمخاطَبين به!! (مغرب التغيير الدار البيضاء 25 نونبر 2024)

مغرب التغيير الدار البيضاء 25 نونبر 2024 ع.ح.ي.
الآراء والأفكار المعبَّر عنها في هذا الباب لا تُلزِمُ هذه الجريدة
اِطّلعتُ بطريق الصدفة على فيديو تَحدَث فيه صاحبُه عن العمرة، فقال إنها لا تجوز للعبد سوى مرة واحدة، وأن التكاليف التي تقع عليه في حالة تكرارها يجدر به أن يوجّهها لأعمال البر والإحسان، ما دامت مداخيلُها تذهب نِسَبٌ كبيرةٌ منها إلى أعداء الأمة، ويُشترَى بها الرصاص الموجَّه لصدور أبنائها… في إشارة إلى الشيكات التي تأخذها الدولة العميقة بالولايات المتحدة الأمريكية من الخزينة السعودية، وإلى الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم بمنطقة الشرق العربي!!
الواقع أن ذلك العبد قال كلاماً فيه الكثير من الصواب، وبالمناسبة، وفي نظري المتواضع، فإن الحج والعمرة يقوم حولهما فوق كل ذلك اختلافٌ كبيرٌ لأنهما في نظر البعض انحرفا عن أساسهما الأول… فكيف ذلك؟!
أولا: لأن القرآن ورد فيه أن “الحج أشهر معلومات”، وما دام الله قد ذكر المدة باصطلاح “الأشهر”، فذلك معناه أنها تكون بين الثلاثة والخمسة. ولو كانت تتجاوز هذا العدد لجاء ذكرها باصطلاح “الشهور” بدلاً من “الأشهر”، وهذا من باب البلاغة القرآنية وتعابيرها فائقة الدقة، والمراد هنا هي “الأشهر الحُرُم” بداهةً، وعددها أربعة كما نعلم، ولكل مسلمة أو مسلم أن يفرض على نفسه الحج في أيام منها معدودة يُقِرُّها بمحض اختياره وإرادته…
بيد أنّ فقهاء السلف جعلوا الحج أسبوعا واحدا من شهر واحد، هو ذو الحجة، وهذا يخالف مراد الله كما دلت عليه آياته البيّنات، التي جاء فيها: “الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ” (البقرة – 197). والدليل القرآني على تعدد أشهر الحج وأيامه ولياليه أن الوقوف بعرفات في العاشر من ذي الحجة وُصِف ب”الحج الأكبر” تمييزا له عن باقي المواقف بعرفات في الأشهر الثلاثة الأخرى… وقد تُرِك الخيار لكل مسلمة ومسلم كي ينتقيا الأيام التي يفرضان فيها الحج على نفسَيْهِما، والتي يُصبحان خلالها ملتزمَيْن بأخلاق الحجيج، “فلا رفث ولا فسوق ولا جدال” لأنهما يصيران في حالة إحرام؛
ثانيا: توجد ضمن شعائر الحج، كما يرى بعض فقهاء العصر الحديث، ممارسات وثنية، منها الدوران حول الكعبة، والسعي المتكرر بين صخرتَيْ الصفا والمروة، والله أمر بالطواف وهو “التردد” وليس “الدوران”. قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ۚ مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ۚ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ۚ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” (النور- 58). فالطواف هنا يعني تردد الأهل على بعضهم البعض داخل البيوت والأُسَر لقضاء مختلِف الأغراض، مما يرفع الكلفة فيما بينهم، ويُرَخِّص لهم بالتالي نوعاً من الاختلاط لا يجوز مع غيرهم من الأجانب والدخلاء؛
ثالثاً: يُفهَم من كل ما ورد في الكتاب الحكيم عن الحج أنّ الله أمر بجعله “مؤتمراً سنوياً للتعارف وتبادل التجارب والخبرات بين الأمم وإطعام الفقراء بلحوم الأنعام”… ولذلك ركّزت الآيات المتطرقة لشعائر الله في الحج على هذين المطلبين الرئيسيين بالذات: التعارف في أوسع مجالاته وأهدافه، ومن هنا قيل “إن الحج عرفات”، ثم الإحسان إلى الفقراء والمساكين من الذين لا يستطيعون أكل لحوم المواشي إلاّ في مناسبة الحج بالذات، والتي تمتد كما سبق القول على أربعة أشهر، مما يجعل هذا الإحسانَ مُتَّسِعَ المدى إلى أبعد نطاق اجتماعي وإنساني ممكن، ولو استطاع منظمو المناسك أن يجعلوا لحوم الذبائح تصل إلى أقاصي الأرض فينال منها فقراء العالم لكان ذلك أفضل وأنفع، خاصةً وأن وسائل التكنولوجيا تُتيحُ ذلك وتُيسّرُه؛
رابعاً: يرى بعض المتنوّرين أنّ فقهاء السلف بادروا اعتماداً على الروايات والعنعنات إلى زيادة طقوس لم يَرِد ذكرها في القرآن، ونسبوها للنبي الكريم، مثل “رمي الجمرات” بمبرر رجم الشيطان (!!!) ويرى ذلك البعض من الفقهاء الحداثيين أن هذا المبرر مثير للسخرية ولا يمكن بالتالي أن يأمر الله به، ولذلك اختلف الفقهاء حوله. وكما يُعلِّمُنا القرآن الحكيم ذلك، فما يأتي “من عند غير الله” لابد أن نجد فيه اختلافاً كثيراً بالبداهة… قال تعالى: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيراً” (النساء-82)؛
خامساً: إنّ مداخيل الحج والعمرة أصبحت تفوق سنوياً 25 مليار دولار، بعضها يذهب فعلا إلى الأعداء بطريقة أو بأخرى. وهذا وحده كافٍ لإعادة النظر في هذه الشعيرة، وذلك “بجعلها تحت إشراف مؤسسة إسلامية تمثل مختلف الأمم المسلمة”، كأن تكون تابعة لـ”منظمة التعاون الإسلامي”، مع مراقبة إنفاق مداخيلها الفلكية حتى يستفيد منها فقراء العالم بلا استثناء؛
سادساً: ورد في آيِ الذكر الحكيم أنّ الحج قد جعله الله للناس كافة. قال تعالى: “أَذِّنْ فِي النَّاسِ للحَجِّ…” (الحج-27) ولم يأمر بمنعه عن الكتابيين ولا عن كل الموحدين من مختلف الملل والنِّحَل، وإنما منع “المسجد الحرام” دون غيره، على المشركين دون غيرهم، قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا” (التوبة-28) وهؤلاء لا يمكن التعرف سوى على الذي أعلن منهم شِرْكَه صراحةً… والحال أننا قد حرّمنا الحج على أمم كثيرة ظلماً وعدواناً، لأننا حوّلناه إلى طقوس إسلامية خاصة بالأمة المحمدية خلافاً لِمُراد الله المبيّن في كتابه الحكيم بكل وضوح، والذي يفتح أبواب المناسك للناس كافة، بحيث يتجه كلٌّ منهم إلى ربه بحسب منهاجِه ومِلّتِه ومَذهبِه!!
خلاصته، يرى كثير من فقهاء هذا العصر أنّ الحج والعمرة أصبحا جزءاً من “دين موازٍ” يختلف كثيراً عمّا بَشّر به الصادق الأمين عليه أزكى الصلاة والسلام، وذلك بسبب ما لحق بهما من التغيير والتحريف ومن الزيادات البدعية التي ما أنزل الله بها من سلطان!!
متى إذَنْ يجد فقهاء هذا العصر الشجاعةَ والجُرأةَ الكافيتَيْن لإعادة هذا الأمر إلى نصابه، بالإقرار بدايةً بأربعة أشهر لأداء مناسك الحج؛ ثم بفتح أبوابه لكل الناس ماعدا مَن يجهر من الزائرين بشِركِه؛ ثم بتطهيره من كل الطقوس الوثنية الدخيلة؛ ثم بتخصيصه للتعارف وتبادل المصالح والتجارب والخبرات بين الأمم كمطلب أول في الأهمية؛ ثم باتخاذ إطعام الفقراء والمحتاجين بمثابة مطلبه الثاني في الأهمية؛ وبطبيعة الحال، أن يتم كل ذلك، كما أمر رب العزة، بموازاةٍ مع ذكر الله والتوجه إليه بالنجوى وبأدعية الاستعانة والاستخارة… والله سبحانه وتعالى أعلم!!!
ــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر صورة الواجهة: موضوع.