من كل الآفاق

برمجةُ اللاوعي… كم منا استطاع الإفلات منها؟! (مغرب التغيير – الدار البيضاء 27 نونبر 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 27 نونبر 2024         ع.ج.ي.

كانت البدايات الأولى مواكِبة لظهور أولى النبوءات والرسالات السماوية، وكانت المقاصد والأهداف ساميةً، نورانيةً، طاهرةً ومخاطِبةً للفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، كل الناس بلا استثناء، ولذلك كانت ثمار هذا النوع الأساسي من برمجة اللاوعي الإنساني حميدةً وإيجابيةً ومتصفةً بكل أوصاف الصلاح والمنفعة والتطوّر نحو الأفضل… ولأجل ذلك، جاءت بعثات الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين ولكن أيضاً، معلّمين وملقّنين لألف باء مكارم الأخلاق والحكمة!!

ثم جاءت الثورة الصناعية فيما بين الحربين الكونيتين، فظهر شكل جديد من أشكال التدخل في لاوعي الكائن البشري تحت مُسمّيات الإعلان، والدعاية، والترويج، فبدأ السعي إلى إقناع المتلقي بمزايا سلعة من السلع موضوع الإعلان، ثم تحوّل إلى محاولة خلق الحاجة لدى المتلقي إلى السلعة المقترَحة، ثم إلى دفعه دفعاً مبرحاً إلى اقتنائها في إطار تسهيلات خيالية، وقروض مُيَسَّرة بشروط مُغرية، ولكن بناء على عقود اقتناء لا يستطيع المتلقي في أغلب الأحوال قراءتها بالكامل لفرط طولها، ولصعوبة فهم اصطلاحاتها القانونية المعقدة، فيُمضي عليها بثقة زائدة عن اللزوم، فتكون النتيجة أن يضع المتلقي نفسه طواعيةً داخل شِباك بالغ التعقيد لا يخدم سوى مصلحة البائع ومؤسسات الإعلان والدعاية المُرَوِّجة له، والتي تطورت طبيعتُها وهياكلُها هي الأخرى فصارت هي التي توظف كلاًّ من البائع والزبون وتفرض شروطها عليهما معاً في إطار علاقات تعاقدية بلغت بدورها أقصى درجات التعقيد!!

إد عربية

بيد أن هذا النوع من البرمجة لم يقف عند هذا الحد، بل تجاوز كل الحدود بالانتقال إلى مخاطبة لاوعي الأجيال المتعاقبة منذ ولادتها، فصارت  للمتلقي، وهو بعد في سنوات طفولته الأولى، تفضيلات وميول إلى منتجات معينة تخص طفولته، وأخرى تخص فتراته العمرية المقبلة، دون أن يعي ذلك هو، ولا أبواه وأولياء أمره، حتى صار الواحد منا يفضّل أشياءً على أخرى ويعتقد أن ذلك من بنات فكره بينما هو نتاج برمجة معمَّقة استهدفته منذ نعومة أظافره، وما زالت تستهدفه بالدفع به إلى حيث يريد مهندسوها، وعلى امتداد سنوات عمره المتتالية، وبلا هوادة!!

هل يعني هذا اننا صِرنا ضحايا توجيهات مركَّزة مقصودة ومُعَدَّة بإحكام لجعلنا نعتقد بحرية اختياراتنا، بينما هي اختيارات مُملاة على لاوعينا منذ ظهورنا فوق هذا الكوكب؟.. هو ذاك بكل تأكيد!!

أنك حين تستيقظ في الصباح الباكر على نغمات موسيقى معينة تداعب سمعك وهي تتسلل إلى أذنيك من المطبخ مصحوبة برائحة قهوتك المفضلة، وبأصوات كائنات هي أحب إليك من ذاتك، فاعلم أن تلك النغمات تم اختيارها بعناية من لدن مهندسين في مجالات “الأَكوستيك” خِصّيصاً لمخاطبة لاوعيك في تلك اللحظات الأولى من يوم جديد توشك أن تنخرط في تفاصيله بكل قواك وطاقاتك، دون أن تدرك أن ذلك يعمق في عقلك الباطن حبّك للقوة ذاتها، ولكل ما يصاحبها يومياً من مكملات لا ينتابك أدنى شك في كونها هي الأخرى نتاج نفس الإيحاءات المدروسة والمقصودة والمنتقاة بعناية فائقة، ولا تدرك في نهاية المطاف أنك منذ لحظة استيقاظك لست سوى زبون وفيٍّ لشركات الإنتاج التي تملأ سلعُها عالمَك الصباحيّ، والتي تستقبلك بحفاوة، على لسان زوجتك، وزقزقات صغارك، لتُسَلِّمك بعد حين من الوقت لإيحاءات أخرى تبدأ هي الأخرى قصتها معك بمجرد وضعك قدمَك داخل سيارتك أو داخل الباص، أو بعد ذلك داخل مكتبك، أو دكانك، أو معملك، أو داخل أي فضاء آخر تقضي فيه سحابة نهارك!!

ربما لا تنتبه لذلك في أوانه، ولكنك ستشعر بغيابه وبفراغ ثقيل من جراء ذلك بمجرد مغادرتك لعالمك اليومي في سفر يحملك بعيداً، أو في مهمة تأخذك خارج موطنك، وعندئذ ستنتبه رغماً عنك إلى أن أشياء كثيرة تنقصك، ولكنك لن تفطن إلى أن من بين تلك الأشياء قهوتك المفضلة، ونوع الجبنة التي تبدأ بها فطورك، ورائحة المربى أو العسل أو غيرهما مما تعوّدت عليه في كل صباحاتك… وكل ذلك، إنما وقع حفره في لاوعيك بوصلات إعلانية وإشهارية تكاد لا تفطن إلى وجودها في عالمك لأنها صارت هي ذاتُها بعضاً من عالمك!!

هل يعني هذا أننا أصبحنا مُستَلَبين حتى النخاع، وأنه ليس لدينا إلى الفكاك من سبيل؟.. ذاك هو السؤال!!!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصدر صورة الواجهة: المصدر ميديا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى