مغرب التغيير – الدار البيضاء 24 فبراير 2025
من بين الفقرات التي تشد الانتباه في الكلمة التي ألقاها الرئيس الأول لمحكمة النقض الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، السيد محمد عبد النباوي، أثناء اللقاء التواصلي الذي نظمه المجلس العلمي الأعلى يوم التاسع من فبراير الجاري للتحاور مع القيمين على السلط الثلاث، قوله:
“إنّ الدين هو شريعة الله، وأما الأخلاق فهي قواعد اجتماعية، وقد تتحد القيم الأخلاقية مع مبادئ العقيدة، وقد تختلف، ولكنها جميعها تؤثر في سلوك الناس. ولئن كان دور الدين في تحسين سلوك المجتمع ظاهرا للعيان في البلاد الإسلامية، فإن العديد من البلاد، التي لا تؤمن بدين معين، استطاعت بواسطة أخلاق مدنية أن تحقيق العدل والإنصاف والمساواة“. والحال أن قوله هذا يستحق أعادة قراءته من زوايا مختلفة، فكيف ذلك؟
إنّ هذا الطرح، الصائب والصريح، يحيلنا بلا مغالاة على أحوال الحق والعدالة وحقوق الإنسان في البلدان المتقدمة خاصةً، وغير المَدينة بالإسلام عامةً، والتي جعلت من قوانينها الوضعية ومبادئها الأخلاقية وقيمها الاجتماعية والثقافية ركائزَ ودعاماتٍ لتحقيق ازدهارها الاقتصادي والاجتماعي، وصيانة ثقافاتها الوطنية من مختلِفِ أشكالِ الغزو والاستلاب لكي تبقى قوية وفاعلة، الشيء الذي يجعلنا نستغرب لتطوُّرها المتواصل، وسَبْقِها وغَلَبَتِها رغم ما ينعتها به المتشددون في بلداننا المسلمة من الكفر والشرك والإلحاد، ويجعلنا بتحصيل الحاصل نُسائل أنفسنا عن مدى جدوى التنشئة الاجتماعية التي نأخذ بمناهجها في بلادنا، في شقيْها الديني والأخلاقي، ومدى قدرتها على تمكيننا من تغيير واقعنا وأحوالنا بما يكرّس لدينا، في آن واحد، الوجود المتناغم والمنسجم لمتقاضين نزهاء لا يَسْعَوْن إلاّ إلى نيل حقوقهم المشروعة، ومساعدي قضاءٍ قادرين على تقديم خبراتهم وإجاباتهم الصادقة والشافية على ما يُطرح داخل القضايا المعروضة على أنظار عدالتنا من الأسئلة التقنية بالغة التخصص، وقضاةٍ لا يَقِلّون نزاهةً وتَخَلُّقاً في وُسْعِهم النطقَ بأحكام عادلة انطلاقاً من سلطتهم التقديرية، المستندة بدورها على ثوابتنا الدينية والأخلاقية، فضلاً عن قوانيننا التي نُخضعها بين الوقت والآخر لما تحتاج إليه من التعديل والتغيير والتتميم، كلما دعت إلى ذلك متطلبات التطور الذي يشهده مجتمعنا على مدار السنين؟
إن هذا أيضاً ييسّر لدينا الإجابة على السؤال الذي يطرحه بعض القائلين: “لماذا نجد المجتمعات الغربية المَدينة بالمسيحية واليهودية وغيرها، والآسيوية المعتنقة لعقائد وملل أغلبُها وضعي ومِن صنع البَشَر، لماذا نجدها في الحصيلة وفي الظاهر أكثر إسلاماً منا، نحن المعتنقون لعقيدة الإسلام المكمِّلة للدين والمتمّمة لنعمة رب العالمين مصداقاً لقول الله تعالى: “اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً” (المائدة – 3)؟
إن هذا التساؤل المشروع يجعلنا بالتالي نكتشف مدى ما تؤدّي إليه مبادئ الصدق والنزاهة والشفافية، وكذا الخصال الأخرى التي تُصاحبُها وتُزكّيها في السلوك والمعاملة، من النجاحات والفتوحات في مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، التي نحاول نحن جاهدين أن نكرّسها بواسطة دمج التربية الإسلامية ونظيرتها الوطنية في مناهجنا التربوية والتعليمية من خلال إيجاد ذلك الخيط النّاظم بين تعاليم الإسلام السمحاء من جهة، ومبادئ وقِيَم المواطَنة في مفهومها الحداثي حقوقياً واجتماعياً من جهة ثانية.
لقد عشنا وشاهدنا ولمسنا في ساحة الواقع ظواهر اجتماعية وثقافية لا تبعث على الارتياح، حتى لا نقول إنها تثير الكثير من القلق، سواء على مستوى المتقاضين الذين ترد نزاعاتهم يومياً بالمئات بل بالآلاف على مختلف درجات المحاكم والمراكز القضائية، أو على صعيد بعض الفعاليات المساعِدة للقضاء، الأمر الذي يُلقي بظلاله الملتبسة على أداء القضاة مهما التزم هؤلاء بالصدق والنزاهة والاحترافية، لأن ما يصل إليهم من لدن الفعاليات السالف ذكرها يشوبه في أحيان غير قليلة الكثير من العَوَر، والاعوجاج، وسوء النية، بسبب وجود متقاضين يترامون على حقوق بعضهم البعض، فيمارسون مختلف أشكال الكذب والبهتان من أجل تحقيق مكاسب غير مستحَقّة؛ ووجود شهود زور محترفين يدلون بشهاداتهم الكاذبة مقابل أجر ماليٍّ أو عينيٍّ، ضدّاً على كل المبادئ والقِيَم بما فيها الدينية والأخلاقية؛ ووجود سماسرة ينشطون على هوامش المحاكم وفي محيطَيْها المباشر وغير المباشر للتقريب بين زبائن الزور وتُجّاره، فيما يشبه أوراشاً هامشيةً يتم فيها تداول شهادات الزور، والشهادات الطبية المحددة لآماد العجز البدني حسب الطلب، وغيرها من الأدوات والأكسيسوارات اللازمة لإنتاج ملفات وقضايا تنتفي فيها شروط المحاكمة العادلة!!
وبطبيعة الحال، فإن القضاة، في مختلف درجات التقاضي، مهما التزموا بالعدل والحياد والشفافية والتقيد بالقوانين والمساطر الجاري بها العمل، فأنهم بسبب ما يُعرض عليهم من الشهادات المزوّرة، والوثائق والمعطيات المحرّفة، والمستندات المصابة بمختلف أنواع الغش، يقعون هم الآخرون ضحايا كل تلك الممارسات المنحرفة كلما استعملوا سلطاتهم التقديرية في النطق بالأحكام، ما داموا يستندون على كل ما يضعه المتقاضون والخبراء والوكلاء بين أيديهم، ويُعمِلون في فحصه ودراسته والقول فيه ما لديهم من النصوص القانونية الخاضعة لمختلف أشكال التعديل والتغيير والتتميم، وبالتالي لا يكون لهم في أغلب الحالات يدٌ فيما يقع في بعض المحاكمات من خروج عن مقتضى العدل والصواب، إذا نحن سلّمنا بأن قضاة الوقوف والجلوس، وموظفي النيابات العامة وكتابات الضبط وباقي العاملين في ردهات المحاكم، لا يطالهم النقص ولا السهو ولا الانحراف بمختلف أشكاله، وكذلك السلطات الأخرى المساعدة، كالأمن والدرك وفئتَيْ المحامين والخبراء.
خلاصته، أنّ الجهود التي يبذلها المربّون والمرشدون الدينيون وقضاة المحاكم ومساعدو القضاء وكل العاملين في هذه المجالات مجتمعةً، يظل تأثيرها الإيجابي المنشود رهيناً بالعمل بجد على إصلاح مناهجنا التربوية في شقّيْها الديني والثقافي، وتصحيح مفاهيمنا حول العدل والحرية والمواطَنة، وإعادة مراجعة أسباب التنسيق بين مختلف السلط، وبين كل مجالات التفكير والتخطيط والتطبيق، حتى يتسنى لنا أن نجمع في آن واحد، بين تنمية اقتصادية واجتماعية نرنو إليها جميعاً، وعدالة متوازنة وعارفة، وبالتالي سليمة وعادلة، بعيداً عن كل المنغّصات والهنّات السالف حصرها أعلاه… كيف السبيل إلى كل ذلك؟.. ذاك هو السؤال!!!
ـــــــــــــــــــــــــــ
مصدر صورة الواجهة: تليغراف المغربية.