آراء ومواقف
على هامش أحداث العنف الأخيرة: الوضع سيّئ.. ولكن المعالجة كانت أسوأ!! (ذ/ إدريس الطاعي)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 4 أكتوبر 2025
ذ/ إدريــس الطـــاعي*
الأحداث المؤسفة، التي عاشها المغرب في الأيام القليلة الماضية، ينبغي أن تَستوقِفَنا لنسجل جملةً من الملاحظات، من شأنها أن تُسائلَنا جميعاً، إدارةً ومواطنين، حتى لا نظل نتقاذف المسؤولية فيما بيننا، كل طرف يسعى لتعليقها على كاهل الآخر.
* الملاحظة الأولى: التي تسترعي الانتباه وتثير الكثير من الشكوك، تلك السرعة القياسية التي تحوّلت فيها احتجاجاتٌ قيل في بدايتها إنها سلمية ومشروعة، إلى أعمال هدمٍ وتخريبٍ للممتلكات العمومية والخاصة، وإلى عنف دمويّ مبالَغ فيه انتهى إلى إحراقٍ للأخضر واليابس في بلد يصفه إعلامه الرسمي بـ”البلد الصاعد”، دون إعارة أدنى اهتمام لما يشكّله ذلك في نظر القانون، في دولة تسعى إلى أن تكون “دولة حق وقانون!!”
ذلك، أنّ تخريب الممتلكات تنهض معه مسؤولية جنائية يبدو أن وسائل الإعلام لم تكلف نفقسها عناء توعية السواد الأعظم من المواطنين وخاصةً الشباب واليافعين منهم بِتَبِعاتِها، وكذلك مؤسساتنا التربوية، التي نسيت السلطةُ التعليميةُ عند صياغةِ مناهجها وبرامجها الدراسية أن تمنح المكانة اللائقة لواجب الحفاظ على المال العام في شقّيْه المالي والعيني، وكذا واجب اجتناب التقاطع والتصادم مع القانون، ولذلك شاهدنا صغارنا ويافعينا يخرّبون ويكسرون ويحرقون دون أدنى وازع يصدهم عن ذلك، فضلاً عن كون قيمنا الدينية والأخلاقية ترفض رفضاً باتّاً أن يكون أبناؤنا مَعَاوِلَ هدمٍ لمكتسبات أفنت الدولةُ والأمّةُ عقوداً طويلة لتحقيقها رغم قلتها وتواضُعِها، وما زال المغاربة ينتظرون بمختلف شرائحهم أن ترتقي تلك المكتسباتُ إلى مستوى انتظاراتهم في مختلف الميادين والقطاعات. فهل بهذه الهمجية واللامسؤولية تُحقَّقُ المكتسباتُ وتُلبَّى الانتظارات؟!

* الملاحظة الثانية: وبمناسبة ذكر وسائل الإعلام، نجد أن الساحة الإعلامية وقع احتلالُها عنوةً من لدن مواقع وصفحات إلكترونية قدّم أصحابها أنفسهم كصحافيين وإعلاميين، وإن هم إلاّ منتحلون لهذه الصفة، لأنهم بدلاً من السعي إلى تهدئة الأوضاع وطَمْأَنَةِ النفوس، طَفِقوا يَختارون أطفالاً ويافعين وشباباً يهدّدون ويتوعّدون، حتى أنّ أحد هؤلاء اليافعين وجّه كلامه للسلطة العمومية قائلاً: “إذا أخذتم واحداً منا فسنأخذ نحن منكم عشرة” (!!!)، وبذلك أفلح هذا النوع من “الصحافيين المزوَّرين” في صب المزيد من الزيت على نار الفتنة والفوضى، لأنهم بدلاً من اختيار الأصوات الحكيمة والرزينة تهدئةً للنفوس والأوضاع فضّلوا، بدافع الإثارة وجلب المزيد من الزوار والمشاهدين، توجيه ميكروفوناتهم وكاميراتهم إلى عيّنةٍ من الهائجين، ظهر مِن بينهم أطفالٌ لا يتعدَّى عمرهم الثامنة أو العاشرة يضعون الألثمةَ على وجوههم تَشَبُّهاً بأعضاء حركات التحرير أو عصابات التهريب والتخريب… فهل بهذا الأسلوب ينبغي للصحافة والإعلام أن يُغطِّيا أحداثاً عنيفةً وداميةً من هذا القَبيل؟!
الملاحظة الثالثة: أن الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع للاحتجاج، بغض النظر عن المآلات المؤسفة وغير السَّوِيّة التي انتهت إليها احتجاجاتهم، كانوا يصدحون بشعارات تفضح فساداً في الإدارة العمومية لا يستطيع أن يُنكِرَهُ عاقل، في تنفيذ المشاريع، وتدبير الصفقات، وفي إنفاق المال العام، وكذا في التكاسل والتباطُؤ بقصد الارتشاء، في قضاء حاجات المواطنين وطالبي الخدمة والاستجابة لانتظاراتهم… وبتعبير أوضح، فإن هؤلاء المحتجين كانوا “يبلّغون بوضوحٍ وصراحةٍ عن جرائم فساد في تدبير شؤون المواطنين وتبديد المال العام يُعاقب عليها القانون“، وأمام مثل هذه الاتهامات الصريحة، والمعلَنَة على الملأ، والتي من المرجّح ألاّ تكون كلها خاليةً مِن أيِّ أساس ومِن أيِّ أثرٍ دالٍّ عليها، كان ينبغي للنيابة العامة أن تتدخل في إطار مسؤولياتها الدستورية، موازاةً مع الضرب على أيدي المخرِّبين، وهو ما يستوجب التقدير والثناء، بأن تأمر بفتح تحقيق معمّق لاستجلاء حقائق ما يروج في تلك الاحتجاجات والتبليغات، وللوقوف على مَظاهرِ الفساد المفتَرَض ومَكامِنِه، علماً بأنها تتوفر على خلية مختصة بمحاربة الفساد والتلاعب بالأموال العمومية، فضلاً عن مسؤوليتها على إنفاذ القانون وصيانة حقوق المواطنين، ثم تعرض نتائج ذلك كله على القضاء ليقول فيه كلمته الفصل، في إطار محاكمات عادلة شعارُها أنْ “لا أحد يعلو على القانون”، و”أنّ المغاربة جميعهم سواسيةٌ أمام أحكام القانون ومقتضياته”.

الملاحظة الرابعة: أن السلطات العمومية بمختلِفِ مكوّناتها وعناصرها، من شرطة، ودرك ملكي، وقوات مساعِدة، سمح بعضُها بوقوع بعض التجاوزات التي زادت في تأجيج الوضع، وجعلت معالجته الرزينة والحكيمة صعبة المنال، علماً بأن هذه العناصر تتمتع بحِسٍّ مهنيّ واحترافيّ ينبغي ألاّ تُزعزِعُه تحرّشاتُ المتظاهرين واستفزازاتُهم مهما كثُرت وتعاظمت، ومهما علا ضجيجُها وصَخَبُها، حتى لا تتساوى أطراف عملية الضبط الأمني في العنف والعنف المضاد، لأن هذه العناصر الأمنية، التي ينبغي الوقوف احتراماً لها وتقديراً لتضحياتها الوازنة، تمتلك من الوسائل الردعية ما يجعلها في حِلٍّ من الوقوع في براثن الهرج والصخب اللذين يُثيرهما المتظاهرون، سواء المُسالِمون منهم أو المتمرّدون والمُخَرِّبون.
ملاحظة أخيرة جامعة: إن المطالب التي صدحت بها حناجر المتظاهرين والمحتجين، رغم تجاوزاتهم وسلوكاتهم العنيفة، المرفوضة قانوناً وعقلاً وخُلُقاً، تُشكِّل دخاناً لا يمكن أن يكون بدون نار تُثيرُه وتَدفع به إلى أعلى… فكيف ذلك؟
1- إن قطاعنا الصحيّ يشكو فعلاً من آفاتٍ تراكمت على مدار السنين حتى صار علاجها صعب المنال، ليس بسبب قلة المؤسسات الاستشفائية، وإنما وبالدرجة الأولى، بسبب ممارسات مُشينة يرتكبها أطر الإدارة والأطر الصحية والأطباء، بعد أن أسلمت السلطة المختصة زمام الأمر للمستشفيات والعيادات الخصوصية، وفتحت المجال على مصراعيْه لأصحاب الشكارة ليتحكموا في هذا القطاع الحيوي والمصيري، حتى صار المرضى مُلقى بهم خارج المستشفيات العمومية إما لعدم توفر أسرّة، أو لعدم وجود الأدوية والعلاجات اللازمة، أو بسبب تَعطُّل أجهزة الفحص المختلفة، تعطُّلاً يُقال إنه يكون مقصوداً في أغلب الحالات، للإلقاء بالمرضى إلى كمّاشة العيادات والمستشفيات الخصوصية، التي تفرض عليهم قهراً وقَسْراً تقديمَ شيكات مُسبَقة باهظة القيمة “على سبيل الضمان“، وهذا إجراءٌ غيرُ مشروع ومُعاقَبٌ عليه بمقتضى القانون، ولكن أصحاب العيادات والمصحّات الخصوصية لا يفتأون يرتكبون هذه الجنحة في وضح النهار، وبِعِلْمٍ وصمتٍ من السلطة المعنية من جهة، ونظيرتها المكلفة بإنفاذ القانون من جهة أخرى!!
2- إن تعليمنا يعيش نفس الحالة المتردّية سالفة الإشارة؛ فبعد تخلّي السلطة التعليمية عن مئات بل آلاف المدارس على امتداد التراب الوطني، ببيعها أو تحويلها إلى أنشطة أخرى لا صلة لها بأدوارها الأساسية التي شُيِّدَتْ من أجل الاضطلاع بها، وبعد تسليمها هي الأخرى مقاليدَ الشأن التعليمي لمؤسسات التعليم والتكوين الخصوصية، أصبح أطفال المغرب منقسمين إلى فئتين تسيران بسرعتيْن مختلفتيْن، فئة تلاميذ المؤسسات العمومية، التي شكت وما زالت تشكو من مناهج وبرامج تعجز عن فتح أيِّ آفاقٍ واعدة أمام تلاميذها؛ وفئةٌ يدفع من أجلها الآباءُ أرصدةَ عمرهِمْ، بين أيدي حيتان كبيرة تلتهم كل مدّخراتهم، عسى أن ينعم فلذاتُ أكبادهم بتعليم لائق ييسّر لهم الولوج إلى الأطوار والأسلاك الجامعية والعليا بلا عثرات أو صعوبات، ويمكّنهم بالتالي من الولوج بعد ذلك إلى أسواق الشغل.

وبهذا، تُسهم السلطة التعليمية في تكريس الوجود الفعلي والملموس لمغربَيْن، يسير أحدهما بسرعة عصره، ويتحرك الثاني بوتيرة السلاحف وإناث الحلزون، فضلاً عن اضطرار مئات الآلاف من هذه الفئة سنوياً إلى الوقوع ضحايا الهدر المدرسي، والتحوّل إلى أبناء شوارع، وإلى أمّيين إضافيين لا أمل لهم ولا مستقبل!!
3- إن ما سلف قوله عن الصحة والتعليم، يكاد لا يختلف في شيء عمّا يتعيّن قولُه عن السكنى والإعمار، اللذين استأثر بالتلاعب فيهما منتخبون من مختلف المجالس، جهوياً وإقليمياً ومحلياً، سارت بذكر فضائحهم الرُّكبان؛ منتخبون يبيعون ويشترُون فيما لا يقبل البيع والشراء، ويرخّصون ما لا يَصِحُّ فيه الترخيص، فأثْرَوْا واستغنَوْا على حساب الفئتين الوُسطى والصغرى، فساهموا بذلك في نشر البناء العشوائي، وأفسدوا تصاميم الحواضر والبوادي على السواء، وأسسوا لثقافة جديدة وغير مسبوقة، تقوم على “الترخيص بإقامة مساكن تهدمها السلطة بعد حين بقرارات إدارية”، فعمّقوا بذلك معاناة هذه الفئات، وما زالوا على هذا النهج سائرين!!
خُلاصتُه، إن هناك الكثيرَ، والكثيرَ جدّاً، مما ينبغي إعادةُ النظر فيه من الاختلالات البنيوية والهيكلية، والإسراع في معالجته قبل أن يزداد استفحالاً، وتزداد الاحتجاجات حوله احتداداً واحتداماً؛ وإن السياسة الحكومية الراهنة في تدبير الشأن العام ينبغي أن تُعاد صياغتُها هي الأخرى بما يتطلبه الوضع من السرعة والجدّية والفاعلية، وذلك في جميع القطاعات بلا استثناء، إذْ ما المجالات الثلاثةُ السالفُ ذكرها، من صحةٍ وتعليمٍ وسَكَنٍ، سوى نماذجَ لتقريب الفهم ولفت الانتباه، عسى ألاّ نشاهد مرة أخرى مثل ما عاينّاه خلال الأيام القليلة الماضية من فوضى، ومِن عنفٍ متبادَلٍ وغيرِ مبَرَّرٍ، وكذا من ممارساتٍ غيرِ سليمةٍ على مختلف الأصعدة والمستويات.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* المدير الناشر.
صورة الواجهة: شبكة دال