المتاعب المستديمة للمنظومة التعليمية.. وآفة مزمنة اسمها: “التشخيص لذاته”!! (مغرب التغيير – الدار البيضاء 8 يوليوز 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 8 يوليوز 2024 ع.ح.ي.
الآٍراء والمواقف المعبَّر عنها في هذا الباب لا تُلزِم هذه الجريدة
عندما انفرد أحد وزراء التربية الوطنية السابقين، أعتقد أنه رشيد بلمختار، بإنجاز لم يسبقه إليه أي وزير سابق للتربية الوطنية، يتمثل في قولته الشهيرة: “كم نحن فاشلون”، مُرجِعًا هذا “الاكتشاف الكبير” إلى الخلاصة التي خرج بها من المؤشرات والتقارير العالمية التي صنفت المغرب، في عهده غير الزاهر، في ذيل الترتيب العالمي من حيث جودةُ التعليم، لم يتّهمه أحد آنئذ بالمزايدة ولا بالعدمية والتيئيس، لأنه لم يكشف سوى حقيقة واقعة يستحيل أن تخطئها الأعين والبصائر، مع أن العادة التي درج عليها المسؤولون القيّمون على الشأن التعليمي هي رمي كل منتقد لسوء تدبيرهم لهذا القطاع بالعدمية، والتيئيس، ونحو ذلك من الأوصاف القدحية التي لا تفعل سوى أنها تُفسِدُ لودّ الحوار الوطني قضيتَهُ، وتنقل النقاش الدائر إلى مجالٍ عبثيٍّ ليس وراءه أيُّ طائل، مما يزيد في تعميق الأزمة التي تعيشها منظومة صار مختلِفُ أطرافها والفاعلين فيها شِيَعًا وقبائل شتّى!!
لستُ شخصيًا راغبًا في استحضار “إنجازات” ذلك المسؤول الحكومي، الذي عرفت المنظومة التربوية على يده وباعترافه بعظْمة لسانه تراجعًا لم يسبق له مثيل، وكيف لا، وقد كان يفتخر بكونه لا يتكلم العربية، كما صرّح بذلك ذات يوم، وبلا أدنى حرج، لإحدى الصحافيات لمّا طلبت منه أن يدلي لها بتصريح باللغة الرسمية للوطن بعد أن تحدث إليها بلغة موليير… كنتُ أقول إنني لا أحبّذ العودة إلى ذلك المسؤول مطلقًا، ولكنها الحالة المستديمة لمنظومة تبدو آفاتُها وأمراضُها عصية على العلاج بالرغم من الأخذ في إصلاحها بحكمة “الحلاق الذي يتعلم الحلاقة في رؤوس اليتامى”، وقد اضطرتني إلى هذه العودة رغبتي في اختزال الطريق إلى ظاهرة أصبحت من المسلّمات في الساحة العمومية، ألا وهي “الإدمان على تشخيص الأمراض والاختلالات من أجل التشخيص لا غير”، دون تقديم أي علاج شافٍ، وتِلْكُمْ من أبرز المتاعب التي عاشتها المنظومة التعليمية منذ الاستقلال إلى زمن الله هذا!!
صحيح أن القيّمين على الشأن التعليمي كانوا في كل مرة، وبعد كل “تشخيص جديد”، يقدمون ما يسمونه خططاً وإستراتيجياتٍ للإصلاح، مع العلم بأن القول بخطط الإصلاح وإستراتيجياته ينم في حد ذاته عن إقرار صريح بفشل كل ما سبقه من الخطط والبرامج الإصلاحية، ولكنهم كانوا في كل مرة يلتزمون “أخلاقيًا” بنقيصتيْن اثنتيْن في غاية البؤس والغرابة:
الأولى: عدم امتلاك الشجاعة، ولا الرغبة الصادقة أصلاً، لتقييم التجربة أو التجارب السابقة، لسابقيهم، تقييمًا موضوعيًا ونزيهًا يحترم مبادئ الموضوعية، ويعتمد وسائل البحث العلمي، من عمليات إحصائية؛ واستطلاعات رأي؛ ومن عرضٍ للأمور تخطيطاً وتنفيذاً على خِبْرات وطنية ودولية عارفة تلتزم هي الأخرى بشروط النزاهة ومعاييرها الكونية؛
والثانية: وكامتداد للنقيصة السابقة، عدم عرض المسؤولين عن فشل التخطيطات وأساليب التنفيذ السابقة على موازين المساءلة والمحاسبة إعمالاً لمبدأ دستوري معمولٍ به عالميًا، خصوصًا بعد أن صار أحدَ المرتكزات القانونية في الدستور المغربي، ألا وهو “مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة”. هذا المبدأ، الذي يكاد يكون ميّتًا قبل الولادة، لأنه لم يجد إلى غاية يومه مَن يُخرجه من رحِم المَتْنِ الدستوريِّ إلى صميم الواقع الملموس، اللهم إلا في حالات تبقى معدودة ومحتشمة.
لقد أدمن القيّمون المتعاقبون على تدبير الشأن التربوي والتكويني على مخدّر “التشخيص من أجل التشخيص”، بدلا من السير على نهج كل المشخّصين من الأطباء والوزراء والمسؤولين الآخرين في جميع أقطار المعمور، الّذين يحرصون على جعل كل عملية تشخيص متبوعةً بوصفات دقيقة ومفصَّلة للعلاج، ولا يكتفون، كما نفعل نحن دائمًا، بصناعة عناوين عامة فضفاضة لا وزن لها على أرض الواقع، مثل التنصيص في خطط الإصلاح على “النهوض بمستوى التعلمات”، أو “الرفع من مستوى الكفايات” أو أيضًا “تكريس مبدأ تعميم التعليم”… الخ، وكلها مجرد عناوين عريضة لا تفتح أعين أطر التربية والتكوين، الإداريين والتربويين والتقنيين، على ما ينبغي عمله في ساحة العمل اليومي لتأمين تطبيق سليم لتلك العناوين، مما يجعلها مجردَ شعارات مرحلية ليس إلاّ، والتجارب “الإصلاحية” السابقة والمتوالية تثبت ذلك على أرض الواقع.
والأغرب من كل ذلك أيضًا، أن الأطر الذين تطالبهم الخطط الإصلاحية المتوالية بـ”الانخراط الفعلي في جهود الإصلاح”، وقد نص الميثاق الوطني للتربية والتكوين على مطلب “الانخراط” هذا بكل إلحاح، نجدهم يقفون بدورهم حيارى وحائرين، إناثاً وذكوراً، أمام العناوين الفضفاضة ذاتها، ويجدون أنفسهم عاجزين حتى عن فهمها خارج مَتْنِها التنظيري، فبالأحرى أن يتبنَّوْها وينهمكوا بالحرارة والصدق المطلوبيْن في تطبيقها داخل الحُرُم المدرسية التي يُزاولون بها.
مثال ذلك التنافر بين النظري والعملي: الاستجابة الاعتباطية والمتسرِّعة لمطلب تعميم التمدرس، الذي أنتج المزيد من الاكتظاظ، وبالتالي المزيد من الهدر والانقطاع عن الدراسة، مما يجعل ذلك المطلب مبعَثًا للضرر وليس المنفعة.
والأمثلة على هذا البون الشاسع بين الشق النظري لخطط الإصلاح وشقها التطبيقي كثيرة وعصية عن العدّ والإحصاء.
والنتيجة؟ هذا الذي ما زلنا نشهده ونسمعه في كل مناسبة جديدة، ولدى كل تغيير أو تعديل حكومي يطال حقيبة القطاع التعليمي، عن خطة أو إستراتيجية أو رؤية جديدة، لا تُقيم أدنى وزن ولا اهتمام لما سبقها من الخطط والتجارب والرُّؤَى ولو على سبيل استخلاص الدروس والعِبَر.
ويكفي أن نلاحظ مثلاً أننا قضينا سنوات طوال لم نُسائلْ فيها ذواتِنا عن شيء إسمه “العشرية الوطنية للتربية والتكوين”، ولم يمتدَّ تساؤلُنا المفترَضُ هذا ليطال المسؤولين السابقين، الذي سبقت لهم مغبّةُ إفشالِ تلك العشرية إن كانت قد فشلت فعلاً، أو مَكْرُمةُ إنجاحها إن كانت فعلاً قد حققت ولو بعض أهدافها، التي يبدو من خلال الخطب السياسية التي سادتْ بعد انتهاء تلك العشرية أنها أحيلت فعلاً على دائرة النسيان، وكذلك الشأن بالنسبة لما سُمّيَ في إبّانه بـ”البرنامج الاستعجالي” الذي يُقال، والعهدةُ على الرواة، أنه شهد إحدى أكبر عمليات التبذير السفيه للمال العام، والأرقام التي يتحدث عنها أولئك الرُّواةُ تصيب بالدَّوار!!
خلاصتُه، أننا عند كل تجربة إصلاحية جديدة مضطرّون إلى العودة إلى ذلك الإقرار الصريح الذي جاء بمنتهى الفصاحة على لسان ذلك الزير الأسبق: “كم نحن فاشلون“، ليس لنجتهد في الخروج من كمّاشة الفشل، وإنما لنبدأ من جديد في “تشخيص جديد“ لحالة هذه المنظومة، تحت إشراف حلاّق جديد سيأتي ليتعلم الحلاقة كسابقيه في رؤوس يتامى هذا القطاع… وككل مرةٍ لِشديد الأسف!!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير / صورة الواجهة: هسبريس.