آراء ومواقف
أخر الأخبار

قراءة في متاعب المنظومة التربوية والتعليمية: الحكامة وغياب أطراف الإصلاح (مغرب التغيير – الدار البيضاء 19 يوليوز 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 19 يوليوز 2024        ع.ح.ي.

الآراء والأفكار المعبَّر عنها في هذا الباب لا تُلزِمُ هذه الجريدة

لقد سجلت الدراسات التي تم إنجازها، سواء في إطار أشغال المجلس الأعلى للتعليم، أو على مستوى لجان وزارة التربية الوطنية، ضُعفًا وازنًا وغيرَ مبرَّر لدى بعض أطراف الجهد التربوي، نخص منه بالذكر:

  • أطر القيادة التربوية وأعضاء هيأة التدريس؛
  • الجماعات المحلية؛
  • جمعيات الآباء.

أطر القيادة والتدريس:

إن أوّل ما استرعى انتباهنا، في هذا الجانب بالذات، هو أن قيادات القطاع، بدءًا بالمصالح المركزية، ومرورًا بالأكاديميات الجهوية، وبالنيابات الإقليمية، وانتهاءً بالإدارات التربوية بالمؤسسات التعليمية، تضطلع بمسؤولياتها من منظور إداري ومالي ومحاسبي وتقني محض، بينما يظلُّ المنظورُ التربويُّ مُغَيَّبًا أو باهِتَ الحضور إلى إشعارٍ آخَر.

إن قراءةً فاحصةً لتقارير المجالس الإدارية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، أو التقارير التي تنجزها لجان التفتيش لدى زياراتها للمؤسسات التعليمية، من شأنها أن تؤكِّد هذا الأمر، حيث يكون المرور مُسْرِعًا باتجاه فحص الأوضاع بالاعتماد على الإحصاءات والأرقام، كحساب الموارد والاعتمادات والنفقات، وجرد التجهيزات والوسائل وبيان طرق استغلالها، حتى أن هذا الشُّقَّ غالبًا ما يشكِّل الحجر الأساس في التقارير المذكورة، بينما لا يكون الحديث عن المسائل التربوية البحت إلاّ كتوطئةٍ سريعةٍ لتلك المعطيات.

ولا يقف هذا عند حدود مجالس الأكاديميات الجهوية، بل نجده يشكِّل الجانب الأعظم من الانشغالات اليومية لرؤساء المؤسسات التعليمية: الاهتمام بالمنشآت، والسكنيات، والتجهيزات، والتنافس حول هذه كلِّها بقوّة وحماسَةٍ مشهودتيْن؛ والانشغال بالوضعية أو الوضعيات الإدارية والمادية والمالية، والانشغال بالحركات الانتقالية ونتائجها، وحركات الترقية، والاهتمام بالصورة الظاهرية للمؤسسة، وهذه صورة مادية ملموسة بامتياز… ثم يُخصَّصُ ما فَضُلَ من الوقت والجهد بعد ذلك للمسألة التربوية في بُعدها المعرِفيِّ الخالص.

إن إحصاءً سريعًا للمراسلات والوثائق المتبادَلة بيْن الإدارات التربوية من جهة، وبيْن النيابات الإقليمية والأكاديميات والوزارة من جهة ثانية، من شأنه أن يؤكِّد هذا الأمر المؤْسِف والمُحْزِن.

هل نقول إذَنْ إن ذلك مَرَدُّهُ إلى أسلوب اختيارِنا للمسؤولين على جميع الأصعدة المذكورة؟ أم نقول إنه راجِعٌ إلى اختلال عام في التدبير الإداري والوظيفي للقطاع؟ أم نكتفي، كما كنا نفعل دائمًا، بإعزاء ذلك إلى فشل تجاربنا الإصلاحية الماضية، والتي يكاد يبدو في الساعة الراهنة كما لو أنها لم تكن تهدف إلى أيِّ إصلاحٍ حقيقيّ بالمعنى الصادق والنبيل لهذه الكلمة؟ أم ماذا؟

إن فحصًا، سريعًا هو الآخَر، لنوعيات المسؤولين في المصالح المركزية، وكذا الجهوية والإقليمية، ثم على صعيد المحلّي أو المدرسيّ، يقدّمُ لنا فئتيْن اثنتيْن سائدتيْن: فئة المعلِّمين القُدامى؛ وفئة رجال الإدارة، بالمفهوم الإداري الصِّرْف لهذه التسمية. ولعل هذا بالذات، هو الذي في وسعه أن يُفسِّرَ لنا ما لاحظْناه أعلاه من سيطرةٍ للشأن الإداري والمالي على الشأن التربوي في أداء هؤلاء المسؤولين.

إننا هنا بصدد دعوةٍ واضحةٍ إلى جعل مراكزنا ومعاهدنا للتكوين والتأهيل في مجال التربية، ومدارسنا العليا في المضمار ذاته، قادرةً على تخريج أطر قيادية منشغلة بالهم التربوي بالدرجة الأولى، ومؤهَّلةً لجعل كفاءاتها الإدارية والمالية والتقنية في خدمة التربية بشكل أساسيّ، وليس عكس ذلك بتاتًا؛ وتخريج الأساتذة والمكوِّنين بدورهم في إطار شقّ دراسي وتكويني مختلِف.

إنّ هذا وحده، في نظرنا، هو الكفيل بتزويد الإدارة التعليمية بمسؤولين إداريين ولكنهم تربويّون في العُمق، ومنشغلون بالتالي بالطفل ومقرره الدراسي وكفاياته، وبوضعه الاجتماعي وأحواله النفسية قبل الانشغال بأي همٍّ آخر، بل جاعلون كل انشغالاتهم ونشاطاتهم في خدمة هذا الانشغال بالذات.

الجماعات المحلية:

نأتي الآن إلى ظاهرة أخرى لم نعِرْها في تجاربنا الماضية والحالية ما تستحقُّه من الأولوية. إنها الغياب الكبير والوازن لجماعاتنا المحلية عن الهم التربوي.

إنّ هذا الغياب يمكن لمسُهُ جيِّدًا من خلال سلبية دور هذه الجماعات في مجالس تدبير المؤسسات، التي تُعتبَرُ برلماناتٍ مدرسية بامتياز، والتي تتحدَّدُ في مداولاتها النشاطاتُ والمشاريعُ المخطَّطةُ لكل سنة دراسية.

غير أن هذا الغياب يتّضح أكثر في بقاء معظم مدارسنا مفتقرةً إلى دعم ممثلي محيطها الاجتماعي هؤلاء، سواء على صعيد إنشاء ودعم المكتبات، والمُختبرات، والمسارح المدرسية، أو على مستوى تقوية منشآتها الرياضية، أو أيضًا، على صعيد العناية بفضاءاتها ومحيطها البيئي والطبيعي، فضلاً عن غيابها عن كل ما له صلة باختيار البرامج الدراسية والكتب المدرسية.

وهناك مجالٌ آخر لا يقِلُّ أهميةً وأولويةً تغيب عنه هذه الجماعات، وهو المجال الذي تكون فيه تدخُّلاتُها ضروريةً لفَرْضِ احترام الخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجهة أو الإقليم أو المنطقة المعنية، في المناهج والبرامج الدراسية والكتب المدرسية التزامًا بروح الميثاق. وبعد هذا وذاك، هناك الغياب الكبير أيضًا عن أداء دور الرقيب العتيد على ما تقوم به السلطة التعليمية فوق تراب الجماعة، نظرًا لارتباط ذلك بأطفال هذه الأخيرة وأجيالها الصاعدة.

ومن نافلة القول، أن ندعو جماعاتِنا المحليةَ، بعد هذه المؤاخذة، إلى أنْ تخصِّص نصيبًا غير يسيرٍ من وقتها وجهدها ومالها، وإمكانياتها الأخرى المادية والأدبية والبشرية، لدعم المجال التربوي بكل الأوْجُه الممكنة والمتاحة. ولعلّنا في غير ما حاجةٍ إلى إيجاد علاقة بيْن هذه الدعوة وبيْن “مطلب الحكامة الجيِّدة”، الذي من البديهي أن تساهم هذه الجماعات في تكريسه وتدبير وسائل تحقيقه في مداراتها الترابية بدءًا بالمهام والأدوار المذكورة.

إنّ على الجماعات المحلية، إذَنْ، أن تتحمل مسؤولياتها حتى لا تظل في موقف المتملِّص من الشأن التربوي، كما يبدو موقفها حاليًا ومن ذي قبل. هذا، مع العلم بأن الشأن بالذات، ينبغي أن يستأثر بكل الأولويات في كل مجالات الحياة العامة.

وينبغي ألاّ نغفل هنا، أننا مطالَبون جميعًا بالاجتهاد من أجل جعل هذه الجماعات أحسن حالاً وأعلى مستوىً، لأنها لن تستطيع أداء دورها هذا كاملاً وجلُّ أعضائها، إلاّ مَنْ رحم ربُّك، ما بيْن أمّيٍّ جاهل، وخادِمٍ لمصالحه الشخصية، وفاسدٍ يرعى الفساد على جميع الأصعدة، وناهِبٍ يتصيَّدُ الفُرَص للترامي على المال العام بدون وجهٍ حق…

إنه ليكفي قراءة الصحف اليومية للوقوف على مدى هيمنة هذه الفصائل بممارساتِها الفاضحة على القطاع الجماعي من ألِفِه إلى يائه. ولذلك، فمن البديهي أن دعوتنا هذه لا تخاطب هذه النوعيات بالذات، وإنما تتوجَّه إلى الثُّلّة القليلة التي تحمل فوق عاتقها الهم الجماعي برمَّته، والهم التعليمي منه بشكل خاص، كما تتوجه إلى الناخبين الذين لا تزال هذه الفئة قادرةً على استمالتهم واستغبائهم.

جمعيات الآباء والأولياء:

إن هذه الجمعيات تمارس نوعًا من الغياب يختلِف عن نظيره المُسَجَّلِ لدى الجماعات المحلية. ذلك أن ممثّلي جمعيات الآباء يسجّلون حضورهم في المؤسسات التعليمية، ولدى أشغال مجالس هذه المؤسسات، ولكن ذلك يتم في أحيانٍ كثيرةٍ بصورة غير سليمة، وغير مُجدية، لسببيْن اثنيْن رئيسييْن:

  • عدم تحيين المكاتب المسيِّرة لأعداد وفيرة من هذه الجمعيات، مما يجعل مشاركاتها فاقدة للمشروعية، ويجعلها بالتالي عائقًا في طريق شرعنة القرارات والتوصيات الصادرة عن مجالس المؤسسات، التي تُعتبَر الجمعيات المذكورة من أبرز أعضائها. ومن نافلة القول، التأكيد على أن هذا الواقع ينعكس سلبيًا على تلامذة المؤسسات المعنية، ما في ذلك أدنى شك؛
  • وجود أعداد كثيرة، أيضًا، من جمعيات الآباء تحت السيطرة المطلقة أو النسبية لرؤساء المؤسسات التعليمية التي تنتمي إليها، وذلك لسببيْن اثنيْن أيضًا، هما: هيمنة الأطر العاملة بالمؤسسة على مكاتب الجمعيات المعنية بهذه الظاهرة، بصفتهم أعضاء في مكاتبها المسيرة وبوصفهم آباء لبعض التلاميذ؛ وظهور ضعف كبير لدى بعض المكاتب المُسَيِّرَة لتلك الجمعيات، مما يجعلها أداةً طيِّعةً في أيدي رؤساء المؤسسات بكل معنى الكلمة.

وكما نعلم، فإن هاتيْن الحالتيْن معًا، تؤدِّيان إلى عجز الجمعيات المعنية عن القيام بدورها المطلوب كشريك فاعلٍ ومؤثِّرٍ بجانب كلٍّ من الإدارة التربوية والسلطة التعليمية، وتجعلان وجود هذه الجمعيات بلا أدنى منفعة، أو تحوِّلانها إلى عائق آخر، من عوائق الإصلاح والتطوير والتحديث.

هكذا نكون قد وقفنا، في هذا الحيِّز الرئيسي الأول من المناقشة، على واقعٍ لأطفالنا المتمدرسين لا يرقى إلى المطلب الأساسي الذي نحن هنا بصدده، والمتمثل في “جعل الطفل في صميم الجهد التربوي” بكل ما يحمله هذا التعبير من دلالات.

لقد وقفنا، في المقالات السابقة إذنْ، على قصور مجهود تعميم التمدرُس عن تحقيق غاياته القصوى، بسبب هدرٍ مدرسيٍّ وانقطاع عن الدراسة لا يزالان يُضَيِّعان علينا الكثير من الجهد والمال والوقت، ولا يزالان يَحُولان دون بلورة جانب غير يسيرٍ من الإصلاحات المُسطَّرة؛

وعايَنَّا منهاجاً تعليميًا لا يحظى بالثقة اللازمة من لَدُن القيِّمين على تنفيذه؛ وبرنامجًا دراسيًا ثقيلاً يتعدّى طاقة الأطفال، ويتحدّى قدراتهم الفطرية البسيطة؛ وزمنًا مدرسيًا هو الأطول من نوعه بالمقارنة مع المعايير المعمول بها عالميًا؛

ولمسنا الطبيعة العادية لبرنامج قيل إنه استعجاليٌّ، وإنه قاطِعٌ مع التجارب السابقة، فإذا به يكاد يُشكِّلُ امتدادًا لهذه الأخيرة لِعدم قدرته على حلّ معضلاتها، التي لا تزال قائمةً، كالاكتظاظ؛ والهدر؛ وتفاقُم الأمية لدا الصغار؛ وكالكتاب المدرسي الذي لم تطرأ عليه التغييرات المُبَشَّر بها منذ بداية العشرية الوطنية للتربية والتكوين، وفي طليعتها: التعدُّدُ والتميُّزُ على صعيد الخصوصيات الجهوية والإقليمية، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛

ولمسنا، في نهاية هذا المطاف من النقاش، ذلك الغياب الوازن لعدد من أطراف الجهد التربويّ، إمّا لضعف قائم، كما هو الشأن بالنسبة لأطر القيادة والتدريس؛ وإمّا بسبب الإعراض عن المشاركة أو التملص من المسؤولية، كما لدى الجماعات المحلية، التي ينبغي أن نبذل جهودًا متوالية من أجل إصلاح أحوالها السَّقيمة، وتقويم اعوجاجاتها، وتأهيلها بالتالي لتقوم بدور طليعي في الإصلاح لا تزال إلى الآنَ غير ممتلكةٍ لوسائله وأدواته؛ أو بسبب الهوان وغياب المشروعية، كما هو الحال عند عدد غير قليل من جمعيات الآباء وأولياء الأمر.

إن هذا يدفعنا إلى تخصيص مقالات لاحقة، من نقاشنا الهادئ هذا، للوصفات العلاجية التي نراها مناسبة، والتي نودّ أن نقدمها كمساهمة في الحوار الدائر، وكتكريس للنداء الذي ضمّناه هذه المجموعة من المقالات المتطرقة لمتاعب المنظومة التعليمية، بجعل شعار “الطفل أوّلاً” كلمةَ السِّرِّ والمفتاح الأساس للإصلاح المنشود.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير / مصدر صورة الواجهة: هسبريس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى