آراء ومواقف

حوالي 90 في المائة من تديُّننا زائد عن الحاجة؟!! (مغرب التغيير – 13 نونبر 2024)

مغرب التغيير – 13 نونبر 2024          ع.ح.ي.

الآراء والأفكار المعبَّر عنها في هذا الباب لا تُلزِم هذه الجريدة

عندما نقرأ الكتاب الحكيم، الذي فصّل الله فيه كل شيء تفصيلاً بشهادته سبحانه، وهو خير الشاهدين، نستطيع أن نستنتج مباشرةً وبدون وسائط أن الدين، الذي هو عند الله “الإسلام”، ينبني على ثلاثة أسس ليس لها رابع، وهي الإيمان بالله الواحد الأحد؛ والإيمان باليوم الآخر؛ والاستعداد لذلك اليوم من خلال القيام بصالح الأعمال بقدر المستطاع (62 سورة البقرة)…

ولو بحثنا ملياً فيما جاء به الأنبياء والرسل، الذين قصّهم القرآن علينا، بعيداً عن الإسرائيليات وعن كتب التراث السابقة على البعثة المحمدية واللاحقة عليها، لوجدنا أنهم أجمعوا على التبشير بنفس الثلاثية الأساس، وأنهم كذلك، دعوا بالإجماع إلى ما نسميه “الوصايا العشر”، التي وردت في الرسالة الخاتم تحت العنوان الجامع: “قل تعالوا أتلُ ما حرم ربكم عليكم”، وقد سمّاها الله “صراطاً مستقيماً”…

إنّ هذه المحرمات ليس من الصدفة أن يأخذ بها كل المجتمعات والأمم، وكل الدساتير، لأن كل الأمم والمجتمعات تنهل قوانينُها وأعرافُها من مشكاة النبوة، مصداقاً لقول الحكيم الخبير: “وإن من أمة إلاّ خلا فيها نذير” (فاطر-24)، بما يؤكد بالشهادة الإلهية أن الأمم والمجتمعات الإنسانية بلا أدنى استثناء، تأخذ في قوانينها وأعرافها بنفس الوصايا، حتى الأمم التي نَصِفُها نحن بناءً على الظن بكونها أمماً كافرة، ونرسلها من تلقاء جهلنا وبَغْيِنا إلى نار جهنم، وكأنّ رب العزة اصطفانا للقيام بهذه المهمة، الظالمة بكل المعايير!!

سأنتظر الآن أن يرد عليّ بعض المتلقّين لقولي هذا: بأن الله جعلنا “خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر”، حسب ما ترمي إليه الآية  110 من سورة آل عمران، دون أن يدرك صاحب هذا الرد من معاني “المعروف” و”المنكر” إلا ما أورثه لنا “السلف الصالح” من تفاسير منقولة عن بعضها البعض، ومأخوذة في أصولها عن ابن عباس وكعب الأحبار والطبري، أي بنكهة إسرائيلية غير خفية، وهذه التفاسير تَعتبِر المعروفَ أعمالا للخيرات والحسنات، والمنكر أعمالاً فاسدة، بالمفهوم الديني للخير والفساد، بينما حقيقة المعروف في الكتاب الحكيم “ما تعارف عليه المجتمع وارتضاه وقَبِل به”؛ والمنكر “ما أنكره المجتمع ورفضه واستقبحه”… فالمعيار مجتمعي ثقافي ومتغيّر بكل المقاييس، لأن رب العزة ترك للمجتمعات أن تسنّ قوانينَها وأعرافَها فتُبيِّن فيها “ما يصلح” و”ما لا يصلح”، وليس “ما هو حلال” و”ما هو حرام”، لأن التحليل والتحريم ليسا إلاّ لله عز وجل وحده دون سواه، وقد بيّن سبحانه ذلك بصريح القول في الآية الأولى من سورة التحريم، بقوله تعالى لنبيه الكريم مُعاتِباً: “يا أيها النبي لِمَ تُحرّم ما أحلّ الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم”… فكيف يحظر الله على نبيه ممارسة التحريم الذاتي ويسمح له بالتحريم على عباد الله؟ أليس ذلك قمة في التناقض (حاشى رب العزة)؟!!

نفهم من هذا، بكل بساطة ويُسر، أن الله عز وجل بعث الأنبياء والرسل لكي يعبده الناس دون سواه ويمتثلوا لأوامره ونواهيه، ولكي يتعاملوا فيما بينهم بالمودة والحُسنى، ثم لكي يُفيدَ بعضهم بعضا إفادةً تتطور بها مَعايِشُهم من سيّئٍ إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن، في حركة تَحَوُّلٍ وتَطَوُّرٍ مُستديمَيْن، لا يتوقفان إلاّ ساعةَ يرث الله الأرض ومَن عليها!!

إنّ أيَّ امرئٍ إذا فهم الإسلام واعتنقه من خلال هذه الأسس الثلاثة فإنه يكون مسلماً وجهَه لله مهما كان باقي قناعاته ومفاهيمه ذات الصلة بحياته الدنيا… فما الذي زاده بعض الفقهاء من “السلف الصالح” على هذه الأسس الثلاثة فأفسدوا به تَدَيُّنَنا وأساءوا به إلى سمعة ديننا، حتى لو سلّمنا أنهم فعلوا ذلك بحسن نية؟!

لقد أمطرَنا السلفُ من خلال كتب التراث بقواعد غزيرة، ما هي في حقيقتها بالقواعد، حوّلتنا إلى سجناء فهمهم الملتبس لتفاصيلَ ما أنزل الله بها من سلطان، وسأسوق هنا بعضَها على سبيل الاستئناس بينما يتخطى عددها في واقع أحوالنا عشرات الآلاف من القواعد أطلقوا عليها أسماء مثل: فرائض، ومستحبات، ومكروهات، ونواقض، ومحرمات، وسنن نبوية، وعادات شركية أو إلحادية… بينما الأمر لا يتعدى، على سبيل المثال أيضاً، كيفية التوضؤ، وكيفية الدخول إلى البيت والخروج منه، والدخول إلى الحمام أو دورة المياه والخروج منها، والدخول إلى المسجد والخروج منه، والصعود إلى سرير الزوجية والنزول منه، والجلوس للأكل والشروع فيه والانتهاء منه، والاستبراء وطريقته وشروطه، وكذلك الاستنجاء، وإطلاق اللحية أو تركها، وإسدال الخُمُر على أوجه النسوة… حتى أنهم ألّفوا عشرات الكتب في الوضوء وحده، بينما الله سبحانه بيّنه وفصّله في أربع حركات وليس أكثر… وكل هذا لا يُمت إلى الإسلام بأيّ صلة، وإنما هي حركات وأحوال اجتماعية وثقافية، فردية وجماعية، يستحيل أن يُحصيها علينا ربُّ العزة وملائكتُه، أو أن يجعلوها من بين ما يدونونه علينا من الحسنات والسيئات، فالله أكبر وأعظم من أن يعاملنا بهذه المعاملة الشبيهة بأشغال السجّانين ومُراقبي الإصلاحيات، وملائكتُه الكرام أرقى من الانشغال بمثل هذه التفاهات، التي نحن الذين صنعناها بما نطرحه على فقهائنا من أسئلة في غاية الغباء والبلادة، وللأسف الشديد، فبدلاً من أن يَرُدَّنا فقهاؤنا عن هذا الانحدار في الفهم والسلوك، نجدهم يُعمّقون ذلك فينا، ويُرسّخونه، لأن ذلك يُؤَمِّنُ لهم مكانةً اجتماعيةً، وظيفيةً وماليةً، يخافون عليها بعد ذلك من الضياع!!

تحضرني في هذا الموضع بالذات، فتوى لأحد فقهاء السلفية، وهو من الملَسَّنين المحتلين لأبرز المواقع في الفضائيات وفي وسائل التواصل الاجتماعي وعبر النت، وهو يقول لأحد السائلين الأغبياء الذين يسألون عن أي شيء وعن لاشيء، قال له: “إنك إذا استنشقت الماء في وضوئك فلم يصل الماء من فتحتَيْ أنفك إلى حلقك فإنك ستُكتَب مع المنافقين” (يا إلهي!!!)… انظروا معي كيف أن عبداً مؤمناً لم يتسلل الماء إلى حلقومه عند استنشاقه له في معرض وضوئه ولم يؤدّ ذلك إلى اختناقه أو إدماع عينيه، فإنه يكون في فتوى هذا الشيخ المعتوه من المنافقين، والشيخ ذاتُه يعلم “أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار”… فكيف ينزل عبد مؤمن متوضئ ومصلٍّ يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا إلى الدرك الأسفل من النار لمجرد استنشاقه للماء بطريقة لم تَرُقْ لذلك المفتي، الذي أعتبِرُه مترامياً على الإفتاء بغير علم، رغم إمساكه لشهادة عليا من جامع الأزهر (يا حسرة على الأزهر الشريف) هذا مجرد مثال يسير!!

لقد بيّن الله تعالى لنا في كتابه الحكيم ما حرّمه علينا في نحو أربعة عشر أو خمسة عشر محرّماً، فرفع فقهاؤنا هذا العدد إلى أكثر من ألف من المحرمات، رغم تلاوتهم لقوله تعالى: “وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ” (النحل-116)؛ ورغم علمهم بأن الله حرّم على نبيه تحريم أي شيء ولو على نفسه، كما ورد في الآية الأولى من سورة التحريم، المذكورة أعلاه؛ وكذلك رغم تيقّنهم بأن الله لم يأذن لغيره بالتحريم مطلقاً لقوله تعالى لرسوله الكريم: “قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم”… إذِ التحريم لرب العباد، وليس لأي أحد من العباد، ولو كان نبياً مُرسَلاً…

فكيف أجاز شيوخ الأمة المسلمة من السلف والخلف تحريم ما لم يحرّمه الله، حتى أنهم حكموا بنسخ السنة والحديث للقرآن وإلغائهما لأحكامه لكي يُجيزوا لأنفسهم ذلك الفعل السَّيِّئ باعتماد روايات مخالفة لِآيِ الذكر الحكيم، من تلقاء ذواتهم، أو بأمر وإيعاز من أولياء أمورهم أو شيوخهم لغاية في نفوس هؤلاء قَضَوْها؟!!

لقد أضاف الفقهاء من عند أنفسهم إلى الدّين أموراً وأشياء ما أنزل الله بها من سلطان، ونسبوا بعض ذلك للنبي بقصد إجازته وتمريره على البسطاء، الذين يكفي أن تقول لهم “قال رسول الله” ليَتْبَعوك ويتّبِعوك بلا أدنى تردد أو إعادة نظر، لأنهم لا يقرأون كتاب الله الذي بين أيديهم، وإن قرأوه فإنهم لا يفهمون مقاصده ومعانيه، وإن فَهِموها فإنهم لا يأخذونها إلاّ بما فَهِمه وفسّره فقهاؤُهم، الذين يغلب الظن أنهم، هم الآخرون، لم يقرأوا كتاب الله حق قراءته، وإن فعلوا ذلك فقد أفسدت عليهم شياطينُهم لذة الفهم الصائب والإدراك الصحيح والسليم!!

قال أحد الفقهاء من أهل عصرنا، في إحدى فتاويه، إن المصلي يوشك أن يدخل نار جهنم إذا حرك أصبعه أثناء التشهد بهذه الطريقة، وقام بأداء حركة توضيحية بسبّابته، وكأنّ خازن النار أخبره بذلك شخصياً!!

وقال فقيه آخر أُفَضّل عدم ذكر اسمه، لأنّ فتواه كافية للدلالة عليه، قال “إن تارك الصلاة تَكاسُلاً أو رفضاً يُستتاب ثلاثة أيام ثم يُقتل”  (!!!)

وقال فقيه آخر من الهالكين أطلق عليه عُبّادُهُ لقبَ “شيخ الإسلام”، وأقسِم أنه لا يستحق ذلك اللقب، بل أُلَقِّبُه شخصياً “دراكولا” أو مصّاص دماء… قال: “إن المصلي إذا جهر بنية الصلاة فإنه يُقتل”، كلاماً واحداً بلا استتابة ولا توبة!!

وأقول لجميع هؤلاء المشايخ مع الاحترام الواجب لأشخاصهم:  إنكم محض أدعياء، ومحضُ جَهَلَة، ومُترامون على الفقه والمشيخة وعلى دين الله أساساً، وعلى الإفتاء… وإلا لكانت أحوال تابعيكم ومَن تبعهم مِن الملايين، على امتداد تاريخنا العَقَدي المُحزِن والمُخزي، أحسنَ حالاً مما هم عليه في زمان الناس هذا بسبب فتاويكم الغريبة… نسأل الله في تديُّننا السلامة وحُسن العاقبة!!!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصدر صورة الواجهة: بصائر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى