دراسات وأبحاث
أخر الأخبار

قراءة بأثر رجعي/ الانتخابات السابقة بين دروس الواقع ودفاتر التاريخ: عودة حليمة إلى عادتها القديمة!!! (مغرب التغيير – الدار البيضاء 29 أكتوبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 29 أكتوبر 2023

من اليسير على المرء أن يجيب على أسئلة التاريخ في علاقته بواقع الأحداث، بالقول مثلاً إن التاريخ يسجل الواقع، أو أحداث الواقع، وبالتالي فالصلة بينهما جدلية وحتمية، فلا وجود لتاريخ بدون واقع، ولا وجود لواقع إذا لم تحتفظ به ذاكرة التاريخ، أو بعبارة أخرى، إن الواقع يموت في مهده إذا لم تتداركه عناية التاريخ بالتدوين والحفظ.

كلام يسير وبسيط ويكاد يكون بديهيا، لولا أن الواقع يلعب أحيانا أدوارا مستترة وراء ظهر التاريخ، الذي لا يسجل إلا ما تلتقطه ومَسابرُه ومِجَساتُه الخاضعةُ في غالب الأحيان لشتى التأويلات… فكيف ذلك؟

شأن كم

سوف نأخذ مثالا حيا على هذه الفرضية، غير الخادمة لصدقية التاريخ، في عودة يسيرةٍ إلى الوراء، نعيد فيها قراءة نتائج انتخابات 8 شتنبر 2021، باعتبارها آخر استحقاقات كبرى شهدتها البلاد، وتحديدا مما وقع في تلك الاستحقاقات لحزب العدالة والتنمية، الذي يكاد المتتبعون والمحللون والمعلقون يجمعون على كونه تعرض لـ”تصويت شعبي عقابي” على ما فعله وعلى ما لم يفعله أيضا، طوال ولايتين عمّرتا عقداً من الزمن.

في الواقع، ليس هناك أي عقاب أو نحوه، بل هناك محضُ فسخٍ فحسب، لتعاقد ضمني بين فئات معينة من المواطنين وحزب البيجيدي. تعاقدٌ وقع إبرامه، افتراضياً فقط، عشية اندلاع أحداث الربيع المغربي، التي ظهر فيها للملأ مدى ضيق الذرع الشعبي بأحزاب وطنية ظلت تتناوب وحدها، وتتنافس وحدها، وتتواطأ وحدها أحيانا، على إفساد تدبير الشأن العام منذ السنوات الأولى للاستقلال.

يستطيع المرءُ أن يُسَمّيَ هنا بكل تأكيد أحزاب الاستقلال، والاتحاد الاشتراكي، والتجمع الوطني للأحرار، والحركة الشعبية، مع التحاق متأخر نسبيا لحزب الأصالة والمعاصرة. وبطبيعة الحال، يدخل في هذه الخانة، التي ضاق المواطنون بها ذرعاً، أحزب الاتحاد الدستوري، والديمقراطي، و… و… الخ.

ذلك، أن الغاضبين من هذه الأحزاب، من مناضليها ومن عامة المواطنين والناخبين، هم الذين شكّلوا الطرف المتعاقد افتراضياً مع البيحيدي، من أجل خوض تجربة أولى بدت ساعتئذٍ غير مسبوقة، “لعل وعسى” أن تتمخض عن نتائج تُنسيهم أو تعوّضهم عن إخفاقات التجارب السابقة، التي كانت منسوخة عن بعضها، شَمالُها كجنوبِها، ويمينُها كيسارِها، إلى درجة التطابق في الرداءة بطبيعة الحال!!!

ومن الطبيعي، والحالة تلك، أن يقوم نوع ضمني من التحالف الصامت وغير المعلَن بين كل أولئك الغاضبين من أحزابهم، فيما بينهم من جهة، ثمّ بينهم وحزب العدالة والتنمية من جهة ثانية.

وكان ذلك، بشكل تلقائي، تحالفاً مبنياً على فرضية أنّ هذا الأخير ما زال نقي اليد، وأقرب ما يكون إلى الفئات الهشة بفضل أنشطته الاجتماعية المتغلغلة بين صفوف هذه الفئات، التي ستتحول أعداد غير قليلة منها إلى قوى ناخبة، بعد أن ظلت طوال الاستحقاقات السابقة مركونة إرادياً أو لا إرادياً على الهامش.

خلاصتُه، أن الذي وقع في تلك الاستحقاقات الأخيرة ولم يلتقطه المحللون والمعلقون القائلون بـ”فرضية التصويت العقابي”، هو أن مناضلي الأحزاب الأخرى الغاضبين صدمتهم ممارسات أغلب وزراء ونواب ومستشاري حزب العدالة والتنمية ومنتخَبيه الجهويين والجماعيين والمحليين، التي لم تعد تختلف عن ممارسات منتخبي أحزابهم الأم، التي أثارت غضبهم في السابق، وبررت بالتالي عزوفهم وتمردهم على تلك الأحزاب، فما كان منهم إلا أن تراجعوا، وأعادوا التفكير في مواقفهم بعد أن تبين لهم تحت وطأة الدهشة والخيبة معاً بأنها كانت مواقفَ متسرِّعة، وبأن البيجيدي لا يختلف في شيء عن الأحزاب الأخرى، وبأن الأوان قد حان للعودة إلى المنزل الأول تماهياً مع قول الشاعر:

نقّل فؤادَك حيثُ شئتَ من الهوى*** ما الحبُّ إلاّ للحبيب الأوّلِ
كم منزلاً في الأرض يعشقه الفتى *** وحنينُه أبداً لأوّلِ منزلِ

الصحافة الإلكترونية

إنها النتيجة الحتمية لخيبةِ أملٍ غير متوقَّعة استمر تراكمُها لفترة عشر سنوات بالتمام والكمال، وليست عقابا كما قيل، لأن ذلك العقاب لو وقع حقيقةً فإنه يُفترَض أن يصدر عن مناضلي الحزب المستهدَف بالعقوبة أنفسِهم، وليس من ناخبين لا ينتمون إليه منذ البداية وإنما استعملوه بخلاف ذلك لمعاقبة أحزابهم الأصلية.

ها نحن نرى أن التاريخ سجّل واقعاً تم تأويلُه كـ”تصويت عقابي” في حق حزب العدالة والتنمية، بينما حقيقة ذلك الواقع، بخلاف ظاهِرِه، أنه مجرد مراجعة وتصويب لموقف متسرع لناخبين من مختلف الأحزاب، ومن اللامنتمين، اتخذوه في فَوْرَةِ أحداث 20  فبراير وليس أكثر.

لقد عادت “حليمةُ الناخبين الغاضبين” إذَنْ إلى بيتها، فقط لا غير، بعد انقلابٍ عليه اتّضح الآن أنه كان مُتَسرِّعاً، ولكنه تمطّط وامتدّ لعشر سنوات من عمر الوطن وأبنائه فشكّل تجربة أخرى، صحيح أنّها كانت جديدة، ولكنها في فشلها قديمة بامتياز.

وهكذا، وكما يستنتج المرء من درس الواقع والتاريخ هذا، عادت حليمة إلى عاداتها القديمة التي كانت سببا في تلك الغضبة وفي ذلك الانقلاب المتسرِّع، بمعنى، أن الأحزاب السياسية المغربية، المكلفة دستوريا بتأطير المواطنين والدفاع عن مصالحهم (يا حسرة!!!) ظلّت على نفس الوتيرة من الضحالة والكُساح والانسلاخ عن الواقع… وتلك إحدى مصائب هذا الوطن المكلوم في أحزابه!!!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى