دراسات وأبحاث
أخر الأخبار

التمييز بين “الإسلامي” و”المسلم” وبين “الثابت” و”المتغــيّر” (مغرب التغيير – الدار البيضاء 20 أبريل 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 20 أبريل 2024

من المفيد بلا ريب، أن نطرح السؤالَ حول هذا التمييز، علماً بأن هذا الموضوع اكتنفتْهُ مصاعبُ نشأت من جرّاء الفهم الملتبس لدى بعض المتكلمين حول أن يكون الإنسان أو الشيء “إسلامياً” بروحه وجوهره، أو يكون “منتميا للإسلام” اعتقاداً وممارسةً فحسب، وحول الحدود التي لا يجوز لـ”المتغيّر” أن يتخطاها في تفاعله مع “الثابت”.

  1. الإسلامي والمسلم:

يرى بعض الدارسين أنّ الشيء أو الأمر لكي يكون “إسلاميا”، ينبغي أن يكون بكُلّيته مستمَدّاً من “الدين/الإسلام” في فحواه وجوهره.[1]

مثال ذلك: أنّ القرآنَ خطابٌ “إسلاميٌّ” بلا جدال، لأنّ مضمونَه بالكامل منبثقٌ من الدين الذي هو عند الله “الإسلام” ولا دينَ غيرُه. فالقرآن ليست فيه مطلقاً أيُّ وجهة نظر أو رأي أو موقف صادر عن أيّ إنسان إلاّ على سبيل الحكي والسرد في القصص القرآني، إذ المتكلِّم دائماً هو الله عز وجل ولا أحد غيرُه. فهو الذي يقول وقولُهُ الحق، وهو الذي يقصّ وقَصَصُه الحق، وهو الذي يُحِلُّ ويُحرِّمُ دون سواه وحُكمُهُ الحق.

ولكي يكون الأمر أو الشيء “إسلامياً” ينبغي بتحصيل حاصل ما سبق قوله أن يكون مستمِدّاً وجودَه ونُظُمَهُ من الدين عيْنِه وليس من أي مصدَر آخَر غيرِه، وينتج عن هذا أن الاختلاف حوله يكون منتفياً عند معتنقيه في شقه العقدي، وإن جاز التعدد والاختلاف حوله في شقه الفقهي والمفاهيمي.

هذا القول، يعارضه الشيخ علي الجفري بمائة وثمانين درجة، إذ يقول في تعليقه على الإمام الأشعري، الذي هو من معتنقي مذهبه الكلامي، إن المسلم أسمى من الإسلامي، إذ “الإسلامي وصف لعلاقة طرفية بين الصفة والموصوف، بينما المسلم نعت لعلاقة أصيلة بين النعت والمنعوت”.[2]

مثال ذلك أيضاً: أنه يمكننا، بلا أدنى حرج، أن نطلق على دولة الإسلام الأولى، التي أسّسها النبيّ محمدٌ عليه السلام وصفَ الدولة “الإسلامية”، لأن مؤسِّسَها جعل القرآن دستورَها وقانونَها الأسمى، ولم يَسُنَّ من الأحكام والقوانين لتنظيم شؤون تلك الدولة إلاّ ما جاء في الكتاب من القواعد والنُّظُم في العبادات والأخلاق والمعاملات، وفي تدبير العلاقات فيما بين المسلمين من جهة، وبينهم وبين أغيارهم من جهة ثانية، في فترات السلم والحرب على السواء.[3] في هذا قالت أم المؤمنين عائشة إن الرسول “كان خُلُقُهُ القرآن”، وأنه بتعبير آخر: “كان قرآناً يمشي على الأرض”.[4] وقد انعكس ذلك على سمات الدولة “الإسلامية” الأولى اسماً ومُسمّى. فما الذي يمكن أن تُوصَفَ به غيرُ دولة الإسلام هذه؟

انطلاقاً من هذا التخصيص، فإنّ كلَّ الدول والبلدان والأنظمة التي نشأت وظهرت بعد وفاة النبي القائد ورئيس “الدولة الإسلامية الأساس”، لا يستقيم وصفُها أو تسميتُها إلاّ بـ”المسلمة”، لأنها رغم اعتناقها الإسلام وممارستها له كنظام مرجعي للدولة، زادت على ذلك أنظمةً وقواعدَ وقوانينَ وضعية، منها ما يُزكّيه الإسلامُ الأصيل، ومنها ما قد يتناسب مع تعاليمه بشيء من الاعتدال، ولكنّ منها أيضاً ما قد يخالف الأساس الأوّل الذي قامت عليه دولة النبي القائد محمد ابن عبد الله، بسبب تطوّر المجتمعات وتلاقحها، وبسبب تغيُّر المفاهيم والأحوال والقضايا، التي لم تعد تشبه في شيءٍ ما كان سائداً في المجتمعَ “الإسلاميَّ” الأوّلَ وأحوالَه وقضاياه، ثم بسبب اجتراح معاهدات دولية وضعية لا علاقة لها بأي عقيدة.[5]

يمكن أن نَخلُصَ من هذا، إلى أن كل الدول والبلدان والأمم والشعوب التي تدين بالإسلام فيما تلا وفاة رئيس الدولة “الإسلامية” الأولى وخلفائه الراشدين من بعده، ليست إلاّ دولاً وأنظمةً وبلداناً وأمماً وشعوباً “مسلمة”، وهذا لا يُرادُ به أيُّ انتقاصٍ من شأن هذه الكيانات من الناحية العَقَدِيّة أو الأخلاقية، ولا حتى من الناحية الدينية الصِّرْف، فلها ما لها، وعليها ما عليها، شأنُها في ذلك كشأن باقي الدول والشعوب والأمم بلا أدنى استثناء، وإن كانت تتميز عن كلّ هذه الأخيرة بكونها حاملة للرسالة الخاتم ومكلفة بالدعوة إليها، وبتبليغها للناس كافة، تامّةً مكتملةً.

  1. الثابت والمتغيّر:

قال ابن القيم: «الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة، ولا الأمكنة، ولا باجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرَّمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك؛ فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وُضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا، كمقادير التّعْزيراتِ، وأجناسها، وصفاتها؛ فإن الشارع يُنوِّعُ فيها بحَسْبِ المصلحة. وأما التغيّر بحسب الناظر فهو المجتهد المؤهل الناظر في النصوص، فيختلف اجتهاده في المسألة الواحدة بحسب ما جَدَّ له من نصوص وقرائن فيتغير اجتهاده».[6]

و”يوازن الإسلام بين الثابت والمتغير، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، فلا يتحول الثبات إلى جمود، ولا يتحول التغيير إلى انفلات، ويجعل الإسلام الثابت هو الأساس، لأنه يضع القواعد الثابتة، ويجعل التغيّر تابعًا لهذه القواعد ومحكومًا بها، ويظهر هذا في العديد من آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي عليه السلام”.[7]

يدفعنا إلى هذا النوع من التمييز، أننا يتعيّن علينا أن نلتزم بالتفريق بين ما هو نص دينيّ تشريعي “ثابت” ومُحكم، لا يستطيع إنسان ولا جان أن يغيّر من أمره قيدَ شعرة؛ وبين ما هو متشابه وقابل لتعدّد المفاهيم القائمة حوله، وتَغيُّر الاستنباطات المنبثقة عن قراءته في كل زمان ومكان، ويكون فهمه والتعامل معه قابليْن بالتالي للتعدد والاختلاف وللتعديل والتطوير.

وكمثال على النصوص المحكمة والثابتة، الآيات المشَكِّلةُ لصُلب “الرسالة المحمدية”، وهي الآيات الفاصلة بين الحلال والحرام، إذ الحلال بيّن والحرام بيّن ولا يجوز لأيّ كائنٍ، أن يزيد فيها أو ينقص أو يغيّر فهمَها ومدلولَها مهما تعاقبت الأزمنة وتغيّرت الأحوال كما قال ابن القيم الجوزية.

وكمثال على النص المتشابه، الآيات المشكّلة لـ”النبوّة المحمدية”، المتعلقة بقوانين الخلق، والفضاء الكوني، وحركاته وبداياته ونهاياته، وكذا المتعلقة بالقصص القرآني، وكل هذه يمكن أن يختلف المسلمون وغيرهم في فهمها، ويطوّروا قراءاتهم لها تبعاً لتغيّر قضاياهم وتطوّر وسائل العلم والبحث والفهم لديهم.

بيد أن الذي ينبغي الانتباه إليه في تناولنا للثوابت والمتغيِّرات، أننا أحيانا نُلفي أنفسنا أمام مفارقة في غاية الدقة، وربما في غاية الخطورة أيضاً، وذلك عندما يصر بعضُنا على إسباغ صفة الثبات على شيء أو فهم أو فكرٍ من صنع بشر، علماً بأن الثبات لله وكلامه فحسب، وبهذا يكون ذلك البعض في مقام هو أقرب للشرك مع الله، لأنه يجعل كلام البشر ثابتاً وبالتالي على قدم المساواة مع الكلام الإلهي. المصيبة أن كثيرين لا ينتبهون لهذا المنزلق فيسقطون فيه عن قصد أو عن غير قصد… وذاك موضوع آخر يحتاج لوقفة خاصة!!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  “الإسلام كما هو”، د. محمد عزيز الوكيلي… 

[2]  علي زين العابدين الجفري (1391 هـ/ 1971 م) داعية إسلامي ورئيس مؤسسة طابة للدراسات الإسلامية. حائز على إجازات في العلوم الإسلامية، ويسعى إلى اتخاذ منهج وسطي بعدم تكفير الآخرين. ومع وجوده الإعلامي أصبح محط أنظار الكثيرين بينهم مؤيدون لتوجهاته أو معجبون بأسلوبه وآخرون معارضون، إلا أنه أصبح يهتم بتوجيه خطابه إلى الطوائف غير المسلمة علّه يساهم في تحسين صورة الإسلام ككل، فهو يرى أن عدم توافق التيارات الإسلامية من الداخل يرجع إلى وجود دور ما لبعض الدوائر السياسية والإعلامية في توجيه الخطاب الإسلامي ولعلها تكون لحظات انتظار لمعطيات قادمة تعطي للتوافق الداخلي للتيارات الإسلامية فرصة حقيقية للوجود (المصادر: صحيفة المصري اليوم : حوار مع الداعية الحبيب علي الجفري، نسخة محفوظة 25 نوفمبر 2009).

[3]  أنظر “أسس بناء الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة”، د. عبد الحق بن المجدوب الحسني (ركز الكاتب على ثلاثة أسس في نشأة هذه الدولة على يد النبي محمد عليه الصلاة والسلام. الأساس الأول: بناء المسجد وترسيخ دوره في الإسلام، كفضاء للهداية والتربية ونشر القيم الإسلامية؛ الأساس الثاني: تكييف المؤمنين مع تعاليم الدين الحنيف، الجديدة عليهم، وإرساء أسس التآخي والتساكن بين مهاجريهم وأنصارهم؛ والأساس الثالث: صياغة الوثيقة المنظِّمة للعلاقات داخل المجتمع الإسلامي، وبينه وبين غيره من المقيمين معه بالمدينة المنورة عامة، واليهود منهم خاصة). 

[4]  سُئِلَتْ عائِشةُ عن خُلُقِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَتْ: “كان خُلُقُه القُرآنَ”.

الراوي : عائشة أم المؤمنين، المحدث : شعيب الأرناؤوط، المصدر : تخريج المسند لشعيب، الصفحة أو الرقم 25813، خلاصة حكم المحدث : صحيح، أخرجه أحمد (25813) واللفظ له، وأبو يعلى (4862)، والطحاوي في “شرح مشكل الآثار” (4435).

[5]  أنظر: “دولة الإسلام أم دولة المسلمين”، إبراهيم غرايبة (باحث أردني) صحيفة “إسلاميات”، مجلة “الوسط” الإلكترونية، http://www.alwasatnews.com/news/160788.html 31 مايو 2008.

[6]  “إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان”، ابن القيم الجوزية: (570/1).

[7]  “ميزان الثابت المتغير في منهج الإسلام”، د. عبد الله عطا عمر، تاريخ وحضارة، مقالات إسلام ويب، 19/02/2015.

(المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير / مصدر صورة الواجهة: موضوع).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى