دراسات وأبحاث
أخر الأخبار

التصوف: الحمولة الفكرية ومصادر الاعتقاد لدى مختلف المدارس (مغرب التغيير – الدار البيضاء 18 نونبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 18 نونبر 2023

يرى الصوفية المسلمون أن عالم الباطن هو “عالم الحقيقة”، ولذلك يربطون الدخول إلى هذا العالم بشعائر دينية، وبتطبيقات ونوافل وأذكار، وبرياضات جسدية عقلية، منها الصوم للجسد عن طريق الأربعينية أو غيرها بحسب المذهب المعتمَد؛ والتدبر والتأمل عن طريق أشكال من التركيز العقلي أشبه ما تكون باليوغا لدى المتصوفة الهنود، أو الزن والطاو لدى نُسّاك المعابد الأسيوية في الصين والتيبت وغيرهما…

ومن هؤلاء من يربط ذلك الولوج بترتيبات أخرى لا يجد المؤمن ذكرًا لها في الكتاب والسنة، وإنما هي مما أدخله معتنقو الإسلام من الأعاجم من طقوس ورثوها عن عقائدهم ومللهم السابقة، مثل الجذبة، والدوران الجسدي المؤدي إلى الدوخة وإلى الخروج من عالم الواقع، كما لدى بعض الطرائق الصوفية التركية… الخ.

ويكيبديا

ولأن الصوفية يعتبرون عالم الباطن عالمًا للحقيقة، فإنهم ربطوا اكتساب القدرة على الدخول إليه بالتقوى والورع والزهد والتفكّر والإعراض عن ملذات الحياة الدنيا، والعيش فيما يشبه رهبنة النسّاك والزهّاد الطالبين للقرب من سدرة المنتهى، والحالمين بلقاء الله ولمّا يزالوا أحياء يُرزَقون، حتى أن منهم مَن قال في شطحاته بتحقيق ذلك اللقاء المستحيل، بل ذهب نفر منهم إلى رفع الكلفة فيما اعتبروه حديثًا مباشرًا مع الحق، سبحانه وتعالى عما يصفون. مثال ذلك، نموذج شطحات أبي يزيد البسطامي، الذي ذكره التوحيدي في مؤلَّفه “الإشارات الإلهية” وأورده عبد الرحمن بدوي في كتابه “شطحات الصوفية”.[1]

وهذا التخصيص والإقصار على الصوفية المسلمين يخالفان واقع الأشياء، لأن الصوفية من غير المسلمين استطاعوا هم أيضًا الدخول إلى عوالم غير ظاهرية، معظمها ليس باطنيًا وإنما خياليًا أو باطنًا ظلماتيًا.

غير أن بعضًا آخر من العوالم التي يدلف إليها صوفيون غيرُ مسلمين يمكن أن يكون عتبة من عتبات عالم الباطن، ومثاله الدال عليه حكاية تُروَى عن جمال الدين الأفغاني أيام كان متصوفًا،[2] أنه كان يحلّق في الأعالي في إحدى حالات الكشف التي كانت تغشاه في خلواته، فإذا به يلتقي ناسكًا بوذيًا فتعجب لوجوده في ذلك المقام من الكشف فسأله: كيف فعلت حتى بلغت إلى هذه المرتبة؟ (يقصد التحليق في الأعالي) فقال له البوذي: كل ما فعلتُه أنني أداوم على معاكسة نفسي فأمنع عنها كل ما تميل إليه من الملذات والشهوات، وأجبرها على القيام بكل ما ترفضه من المشاق والأعباء. فقال له الأفغاني بنوع من المكر مستدرِجًا إيّاه: فهل عرضتَ على نفسك الإسلام؟ فقال الناسك: لا لم أفعل. فقال الأفغاني: اعرضه عليها لترى ما ستقوله. فأطرق الناسك برهة ثم قال: لقد عرضته عليها فرفضته وأبت اعتناقه. فقال الأفغاني: فما جوابك على ذلك؟ فقال الناسك البوذي: جوابي هو: “أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله”… أي أنه دخل الإسلام ضدًا ونكايةً في نفسه الرافضة لذاك الخيار. وعلّق الأفغاني على ذلك بقوله: “لو لم ينطقهما لسقط على الأرض وهلك”. بمعنى أن ذلك الناسك وهو في عليائه لو لم ينطق الشهادتيْن ضدا على رفض نفسه للإسلام، لسقط من تلك العلياء ولرجع مجرد بهيمة تأكل وتشرب وتنكح وتنام مثل عامة البشر، وذاك هو الهلاك في نظر الصوفية المسلمين (أنظر كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي حول الهوام البشرية).

موقع عليم

معنى هذا، أن الباطن لدى الصوفية تقف دون الدخول إليه، أو بالأحرى، دون الخروج إلى فسحته وآفاقه الشاسعة، حُجُبٌ لا تُفتضُّ بكارتُها إلا بالتقوى والعمل الصالح وكثرة النوافل، ولذلك اعتبر الصوفية علم الباطن أشرف العلوم إطلاقًا، وربطوه بالتقرب من الحق جل وعلا، وهم في ذلك على درجة من الصواب، لأن الدخول إلى عالم الباطن أو عوالمه لا يتحقق إلا بوسيلة من الوسائل الدينية، وما دون ذلك ليس إلا دخولاً بوسائل غير دينية إلى عوالم الخيال والباطن الظلماتي الشيطاني، الذي يشكل منذ بداية الخِلقة الإنسانية، وتحديدًا منذ جريمة القاتل من ابنيْ آدم، مرتعًا لشياطين الجن والإنس يركزون فيه قوى من ظلمات كثيرًا ما ينجذب إليها السالك المطبق لطقوس مختلفة (عكس الشعائر الدينية) فيحسب نفسه في باطن حقيقي، وما هو إلا في مرآة ذلك الباطن.

إنّ هذا شبيه بما يحدث للرائي وهو يتبين صورته في المرآة أمامه، معتقدًا أن ما يراه هو عين الواقع بينما هو مجرد صورة مقلوبة لذلك الواقع، يمينُها في محل يسارها والعكس. وبالمناسبة، فما نراه في المرآة أمامنا ليست صورتنا الواقعية، وبالتالي فهي ليست عين الصورة التي يرانا عليها كل مَن ينظرون إلينا مباشرة، بل هي مقلوبة ولا تُشبهنا في شيء مطلقًا، اللهم إلا على مستوى الظاهر الكاذب والخادع.[3]

لقد عرّف البعض الباطن بأنه أصلٌ للعالم الظاهر، ولولاه لما كان هناك أي وجود للظاهر، بل لما كانت هناك أيُّ حاجة إليه. معنى هذا بعبارة أخرى أن الحياة الدنيا، الأرضية، الكثيفة، التي نعيشها الآن، ما كانت لتوجد لو لم يهبط آدم وزوجه من الجنة، التي هي عين العالم الأصلي أو الوجود الأصلي لهذا الوجود الدنيوي، الأرضي، وهذه السقطة لا يمكن وصفها إلاّ من خلال الحقيقة القرآنية الخالصة، التي لا تحتاج إلى كثير إطناب في الشرح والتأويل.

نريد بهذا القول، ليس الاستدلال فحسب، على لزوم وجود العالم الباطني بالنسبة للعالم الظاهري، بل على لزوم ذلك حتى على مستوى الخلقة الإنسانية، ولذلك جاءت هذه الخِلقة مزدوجة ومستوفية لشروط وجود الكائنيْن معًا، الباطني والظاهري، ودليل وجودهما الجسد الفيزيقي الكثيف ووظائفه وقدراته المرتبطة بالحواس من جهة؛ والجسم الأثيري أو ما نسميه نفسًا، وكذلك العقل والروح من جهة ثانية.

فكأنّ الإنسان بهذه الخلقة المزدوجة (الظاهرة والباطنة) يعيش في آن واحد في العالمين أو الكونيْن معًا، الظاهر والباطن، كل منهما بما هو أهل له من مكوّنات الخلقة الإنسانية.

Bafageh

يُفهم من هذا ببساطة، أن المكونات الخفية المذكورة في الخلقة الإنسانية، من نفس وعقل وروح، إنما هي موجودة للاتصال بما يلائمها ويناسبها في هذا الوجود، وهو الجانب الباطني منه، أو جانب القوة والطاقة في الكون. ولو لم يكن الباطن موجودًا بالقوة لما احتاج الإنسان إلى تلك التركيبة الرباعية في خلقته وكيانه الفريديْن: جسد، نفس، عقل، روح.

ولو سأل سائل لماذا هذه التركيبة الرباعية بالذات، وليست ثلاثية أو ثنائية فحسب؟ لكان الجواب: لأن الجسد الأرضي الكثيف والثقيل يحتاج إلى الروح وهي قوة ربانية تؤدي دور القوة العارفة التي تشد النفس والعقل إلى ذلك الجسد، ولأن النفس يحتاج إليها العقل ليتعرف بها على ذاته أولاً، وليتنقل ثانيًا بواسطتها بين العوالم، لأنه وحده لن يكون سوى قيمة مجردة قد لا يتيسّر لها أن تقول “أنا“، وأن تعي ما معنى هذه الكلمة، ولولاها لذاب العقل البشري في بوثقة العقل الكلّي، أو ما يسمى بالعقل الكوني L’Esprit Cosmique ولأصبح بالتالي بلا “أنا“، أي أنه يصير مثلما كان قبل نزوله إلى صلب الرجل الذي سيصبح أباه في الحياة الدنيا، ولكان أيضاً بلا أدنى هُوِية تؤهله للتكليف بحمل الأمانة، ثم للمحاسبة والمساءلة أثناء الوجود اللاحق (البعث). إذن، فالتركيبة الرباعية المذكورة لازمة، ومكوناتُها متلازمة بالفعل والقوة معًا.

والحال أن ما ذكرناه بخصوص فهم الصوفية لمسألة الوجود الباطن، إنما يسري على كل الطرائق الصوفية بلا استثناء، سواء كانت لدى المسلمين أو لدى غيرهم من أتباع العقائد الأخرى، لأن ذلك يشكِّلُ نتاجَ جهد جسدي وعقلي معمول به في كل تلك الطرائق مع بعض الفوارق والاختلافات اليسيرة، والتي تكون ناتجة عن وسائل الاتصال الباطني المختلفة التي يمارسها السالكون بحسب اختلاف منطلقاتهم العقدية والفكرية، كنوعية الصلاة، والتلاوة التي يُمارسها المصلي أثناء صلاته، والقصد الذي يسعى إليه من كل ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير.

[1] “شطحات الصوفية”، عبد الرحمن بدوي، سلسلة دراسات إسلامية، الجزء الأول، ص 28 وما يليها، نشر وكالة المطبوعات، الكويت 1987.

[2] بدأ الأفغاني متصوفا ثم تحول إلى مذاهب وملل مختلفة وانتهى به الأمر على ما يقال ماسونيا بريطانيا، ثم ماسونيا بالمحافل الفرنسية.

[3] “ماهية الاتصال الباطني” د. محمد عزيز الوكيلي، مخطوطة قيد الطبع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى