دراسات وأبحاث
أخر الأخبار

الإسلام: ثلاث فرضيات تستوجبها دراسة التراث الفكري لدى المسلمين (مغرب التغيير – الدار البيضاء 3 نونبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 3 نونبر 2023

في كل مرة يتبادر فيها إلى ذهن الباحث أو الدارس أو المتلقّي مُسَمَّى “الإسلام”، إلاّ ويجد هذا نفسه متجهاً بفكره، تلقائياً وبلا أدنى تردّد، صوب أمة تتشكّل من شعوب يقارب تعدادُها مليارَيْ نسمة، تأوي إلى خريطة جغرافية يبلغ مجموع مساحتها اثنيْن وثلاثين مليونَ كيلومترٍ مربع، يتوزع على امتدادها سبعٌ وخمسون بلداً منتمياً بالعقيدة إلى دائرة يُطلِق عليها عُمومُ أهل الأرض اسمَ “البلدان الإسلامية”، أو “العالم الإسلامي”،  وتنتمي في حكم القانون الدولي إلى “منظمة التعاون الإسلامي”، تتميّز بتعدّد واختلاف أنظمتها السياسية، ودساتيرها، وتضم في الآن ذاته “الجنس العربي” (أبناء إسماعيل، الابن البكر لنبي الله إبراهيم أو أبراهام) ، الذي يعتبر افـتراضاً بمثابة الجنس المكلَّف “مبدئياً” بنشر رسالة “الإسلام”، عن طريق الدعوة “بالحِكمة والموعظة الحسنة”، ويُقصَد بها الرسالة القرآنية أو المحمدية الخاتم، التي أَوْصَدَتْ بابَ الوحي الإلهي، ووضعتْ حدًّا نهائياً لبِعْثات الأنبياء، وأنهتْ نزولَ الرسالاتِ السماويةِ وتَعَاقُبَها.

يُضاف إلى هذا الإحصاء الديموغرافي أيضاً، عشراتٌ وربما مئاتٌ طفيفة من الملايين من الأقليات المسلمة، المنبثّة في كثير من بلدان العالم غير المسلم على امتداد القارات الخمس، كالهند والصين وروسيا وغيرها.

المرسال (العالم المسلم بالأخضر)

ورغم أن هذا التوصيف الأوّلي قد يبدو سَلِساً وبلا عثرات، إلاّ أنه يختزن في مَكامِنِه وعلى مستوى الديانات والعقائد تحديداً، مسألةً جدليةً أثارت الكثير من الخلافات، حتى أن بعضها أسفر على مر التاريخ العَقَدي عن صراعاتٍ فكريةٍ لا تنتهي، ولا يزال المسلمون يشكون من تبعاتها وتداعياتها إلى غاية العصر الراهن، داخل البلدان والكيانات “المسلمة” وخارجها على السواء.

هذه المسألة يمكن اختزالُها في سؤال مزدوِجٍ بسيط ولكنه في آن واحد حارقٌ وشائك: “ما هو الإسلام أساساً ومن هم المسلمون حقاً؟“.

إننا حين نقول من جهة أولى، إن هذا السؤال يتّصف بالبساطة، فلأن أهل الأرض في معظمهم، كما سبق القول، سيُجيبون تلقائياً، وانطلاقاً من معارف تقليدية، بأن “الإسلامَ ليس إلاّ مضمونَ الرسالة المحمدية، وبأن المسلمين هم أتباعُ النبيّ محمد تحديداً، وأنّ القرآن هو كتابهم المقدس”.

وحين نقول من جهة ثانية، إن السؤالَ حارقٌ وشائكٌ في الوقت ذاته، فلأنّ التعرّف على المفهوم الشمولي للإسلام أثار لدى بعض المسلمين أنفسهم كثيراً من الاختلاف في الرأي والفهم. ويتطلب مِمّن يروم الإجابة على هذا السؤال أن يتحلّى بالمرونة وأن يبدأ بتوجيه دفة بحثه إلى القرآن أوّلاً، بوصفه آخرَ الرسالات المنزّلة و”ناسِخَها بالجملة والتفصيل”، ثمّ يسأل بعد القرآن مَن يُسَمُّون أنفسهم ويُسَمِّيهم أغيارُهم بـ”المسلمين”، لأن هذه التسمية تشكّل أساس الخلاف الذي يَحُول دون إمساك رأس خيط الحقيقة الدينية، التي بالرغم من كونها لا تصعب على الفهم بتاتاً، فإنّ النزعات العرقية والعَقَدية والمذهبية هي التي تُعيقُ فهمَ الناس لها بما تُلقيه من الصَّدَأِ على العقول، وتَصُبُّهُ من القار على القلوب التي في الصدور، وتَذُرّه من غبار التعصّب على البصائر.

من هذا المنطلق، بمكن اعتبار البحث في هذا الموضوع، بالذات، مغامرة معرفية تقتضي طرح السؤال: “عن أي إسلام نتحدث”؟

* هل هو “الإسلام القرآني” ذو الأركان الخمسة، الذي تناقله السلف “المسلم” على مدار الأجيال المتلاحقة، والذي يستمد حقيقتَه من “ثوابت الكلِم الإلهي”، الذي لا يأتيه الباطل ولا الوَهَنُ من بين يديْه ولا من خلفِه؟

* هل هو “الإسلام الأساس والمنبع”، الذي يُعَرِّفه القرآنُ بيُسرٍ وسلاسةٍ لا مثيلَ لهما؟

* أم تُراهُ “إسلامُ”، أو بالأحرى “تَدَيُّنُ” المتشيّعين، الذي أوْصَلَنا إلى ما نحن عليه من التفرقة والتّشرذُم، وأصابنا في مَوْجِع، بما أَسَّسَ له من ازدواجية في ذواتنا، وفي نظرتنا للآخر، الذي صار بتحصيلِ حاصلِ فهمِنا وسلوكِنا المتجاوَزَيْن يُبادِلُنا نفورِاً وجفاءً يكثر الخلاف حول نشأتهما واحتدامهما، بدءاً بالمسلمين أنفسهم قبل غيرهم؟!

إن هذه الأسئلة الثلاثة، حول نوعية وطبيعة الإسلام الذي نروم الحديث عه، تُشكّل ثلاث فرضياتٍ مختلفة:

* الفرضية الأولى: الإسلام القرآني

يقوم هذا الإسلام في فهم ونظر علماء السلف وفقهائهم على “خمسة أركان” هي: الشهادتان؛ والصلاة؛ والزكاة؛ والصيام؛ والحج بشرط الاستطاعة.

ويستند القول بهذا التوصيف على حديث نبوي مُجمع على صحته شكّل بلا جدال “مصدراً دينياً تشريعياً”، بكل دلالات الكلمة. فالتشريع الإسلامي يستمد مرجعياته أساساً من القرآن؛ والسنة؛ قبل اللجوء إلى الإجماع والقياس.

والواقع أن هذا التعريف الخماسي للإسلام يستجيب للمنطوق القرآني الذي ينبغي أن نفهم منه أن هناك فصلاً جلياً بين “الإسلام”، الذي هو إسلام الوجه لله الواحد الأحد قبل مجيء الرسالة الخاتم، وهذا قد دعا إليه الأنبياء والرسل منذ خلقة آدم؛ وبين “الإيمان”، الذي يكتسبه المسلم عن طريق إيمانه بالنبي والرسول محمد عليه السلام رسولاً هادياً ونبياً خاتَماً، مستتبعاً ذلك بالتصديق بجميع الأنبياء والرسل بلا أدنى تفريق بينهم، وحائزاً بذلك على “المرتبة الأسمى والأرقى” في “الهرم الإسلامي” الذي اكتمل بناؤه بالأركان الخمسة سالفة الإشارة، وهي التي تصير بناءً على هذا الفهم “أركاناً للإيمان التّام المكتمل”، الذي ابتغاه الحق عز وجل “للناس كافة”.

وحين نقول إن هناك مسلمين لم يكتمل إسلامهم بالإيمان، فإننا ننطلق في ذلك من قول الله تعالى: “إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ… الآية”. (35 الأحزاب)

فالتمييز “القرآني” واضح إذن بين فئتَيْ “المسلمين” و”المؤمنين”، بالرغم مما يثيره هذا التوجه من الاختلافات في الرأي والفهم، بيد أن إجماع علماء الأمة قد اِلْتأَمَ واستقرّ على أنه لا وجود لأي “إسلام آخر” غير “الإيمان” الذي كَمُلَ به الدين وتمت به نعمة رب العالمين على يد خاتم النبيين.

إن هذه الفرضية إذَنْ، تقتضي التقيّد بكل ما جاء في القرآن من معلومات ومعطيات عن “الإسلام” كما يُعَرِّفه الحق عز وجلّ، وكما جاء في الذكر الحكيم أن الله لا يقبل غيره ديناً مهما كان شأنُه ومصدرُه، على اعتبار أن اكتماله وتمامه تحقّقا بالبعثة المحمدية، التي “جبّت كل ما قبلها”.

انطلاقاً منه، تطرح هذه الفرضية علينا تحدِّياً يستحق أن يحمله الباحث والداعية ويجتهدا في تذليل صعابه وتيسيره للفهم وتوسيع دائرة قَبوله من لدن مختلف المشارب العقَدية والمذهبية، ولكنْ في الوقت ذاته، تيسير فهمه وقَبوله على صعيد الذات والآخر. بمعنى أنْ يتيسّر القَبولُ به من طرف جميع الخائضين في الحوار الحضاري وحوار الثقافات مهما كانت مقدّماتهم الجدلية وانتماءاتهم ومشاربهم الفكرية والمذهبية.

كازابلانكا سيتي

* الفرضية الثانية:إسلام المنبع

يرى البعض أن هذا الإسلام ظهر مع أول ظهور للإنسان العاقل المكَلَّف على الأرض. وقد أدّت هذه الفرضية إلى اعتبار آدم، أب البشرية المنتصبة والعاقلة والمكلَّفة، “أوّلَ الأنبياء”، حتى قال بعض الدارسين إن “الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب بها عليه”، بعد أكله من الشجرة المنهي عنها، هي البدايات الأولى لظهور الإسلام فوق الكوكب الأرضي.

إن هذه الفرضية، بدورها، تضع أمامنا صعوبةً أخرى لا يتيسّرُ تذليلها، وخاصةً عندما نروم التمييز، فيما قبل التاريخ، بين بدايات ظهور العقائد وتَوَارُثِها، والتعرّف على حدود الحقب الجاهلية التي تعاقبت على المجتمعات الإنسانية منذ آدم إلى غاية ظهور أُوَّل نُبوءةٍ موكولة للبشر، وهي نبوءة نوح، التي كانت بدليل “القصص القرآنيّ” مسبوقةً ببعثة النُّذُر، وهم الملائكة، ولذلك قص علينا القرآن أن الأقوام المعاصرة للنبي نوح كانت تطرح في ذلك العهد نفس السؤال المستنكِر لبعثة البشر: “أبشراً رسولاً”؟! لأن أولئك الأقوام اعتادوا على مشاهدة النُّذُر من الملائكة وتلقّي الخطاب الدَّعَويّ منهم حصراً.

وبمناسبة ذكر النبي نوح، فهو أول الرُسُل الذين بعثوا إلى الناس يدعون بأمر ربهم إلى التوحيد الخالص، وينهون عن الشرك والفواحش ما ظهر منها وما بطن. وقد مكث نوح يدعو قومه أَلف سنة إلا خمسين عامًا، يعدهم بالجنة والسعادة في حياتهم إذا آمنوا، وينذرهم بأس الله وانتقامه لمن أشرك به وكذّب رسله، ورغم ذلك لم يؤْمنْ به إِلا قليل. وقد كان نوح من أُولي العزم من الرسل، وكان في زمانه شيوعٌ للكفر بمختلف أشكاله، واشتهر قومه بعبادة الأَوثان، والمبالغة والتمادي في البغي والظلم والعصيان.

الفرضية الثالثة: “إسلام المتشددين”

تطرح هذه الفرضية من تلقاء ذاتها أصعب الحواجز والعقبات بالمقارنة مع سابقتَيْها ومع كل أشكال الطرح “الإسلامي” المعروفة، لكونها تنطلق من فكرة “فِئَوية” تأخذ بمبدأ “الاستئثار بالحقيقة الدينية”، التي يرى أصحابُها أنهم يُمسكون بناصيتها دون غيرهم من باقي “المسلمين”، الذين يُعتبَرون في نظرهم كفّاراً بسبق الإصرار والترصُّد.

إنها، كما سيأتي تفصيله في حينه، أسوأ الفرضيات إطلاقاً، لأنها ساهمت في التأسيس والتنظير لنشوء الجماعات الإسلاموية العنيفة والآخذة بخيار التكفير تجاه كل من لا يرى رأيها وينحو منحاها… مما شكّل أساس النظرة العدائية التي يُكيلُها الغرب عموماً لـ”إسلامٍ” بريءٍ كلَّ البراءة من ذلك الهَوَس الفكري والعَقَدي، الداعي إلى العنف والكراهية، وإلى التكفير وإزهاق الأنفس بلا أسس شرعية مُجْمَعٍ عليها.

انطلاقاً من هذه التصوّرات الثلاثة، يمكن طرح السؤال التالي:

«هل يَسَعُنا أن نَبنيَ تصوُّراً عن الخطاب الإسلامي تجتمعُ حولَه المشاربُ الفكرية والثقافية المختلفة، وتَلِينُ أمامَهُ الشوفينياتُ العَقَديةُ والمذهبيةُ الأكثر تَعَصُّباً، لاشتماله على خيوط ناظمة يمكن أن يجد بينها كلُّ فكرٍ أو مذهَبٍ أو نمطٍ عَقَدِيٍّ رأسَ خيطِهِ الكفيل بتيسير تحقيقه للكمالات التي عبّر عنها القرآن الكريم بالآية: “قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضُنا بعضاً أرباباَ من دون الله”…»؟ (64آل عمران)، إن هذا لهو الجوهر الأساس لـ”رسالة الإسلام الموجَّهة للناس كافة”، وهذه رسالة كونية نبيلة لانطلاقها من مبادئ السلام والأمن والمودّة، المطلوب تَبادُلُها بين الأمم والثقافات قي مشارق الأرض ومغاربها، وخاصة منها الأمم التوحيدية، التي تبدو أكثرَ قُرْباً وقدرة على الإنصات إلى “الدعوة الإسلام الخاتم” واستيعابها ومعانقتها، وتلك مهمة الأمة المحمدية بلا مِراء.

فهل هذه الأمة أهلٌ للقيام بهذا الواجب الإنساني، العالمي والكوني، بالنظر لأحوالها الراهنة الباعثة على الرثاء؟.. ذاك هو السؤال!!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى