دراسات وأبحاث
أخر الأخبار

علم الباراسيكولوجيا: بين تيارات التشكيك ومحاولة إثبات الذات (مغرب التغيير – الدار البيضاء 10 نونبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 10 نونبر 2023

عرّف المعجم المتخصص في المجالات العلمية والظواهر الكونية والطبيعية والإنسانية “الجانبية” Para، التي تُثار حولها الشكوك (Skeptic’s Dictionnary)، عرّف الباراسيكولوجيا بأنها: تُعنَى بالدراسة العقلانية، المعمَّقة ومتعددة التخصصات، باستعمال وسائل المنهجية التجريبية، من أجل فهم الظواهر الجانبية أو الخارقة للعادة والعصية عن التفسير، والتي تُلفت انتباه الباحثين والدارسين إلى النفس الإنسانية في علاقتها مع محيطها، وفي تفاعلها مع هذا المحيط. ويتعلق الأمر هنا بالظواهر المسمّاة “نفسعقلية” Psi.

La parapsychologie est l’étude rationnelle, approfondie, et pluridisciplinaire des faits semblant inexplicables en l’état actuel de nos connaissances scientifiques, et mettant en jeu le psychisme et son interaction avec l’environnement

أما مؤسس هذا المجال العلمي فهو عالم البيولوجيا “جوزيف بانكس راين” Joseph Banks Rhine (أستاذ بجامعة “ديوك” بكارولينا الشمالية وأول مَن أنجز دراسات حول الاستبصار Claire voyance وظاهرة تحريك الأشياء عن بُعد Psychokinésie) والألماني د. “ماكس ديسوار”          Maks Dessuer (فيلسوف، طبيب ومؤرخ للفن الألماني).

يُسجَّل هنا أن هذا التأسيس جاء على أيدي علماء في نفس الحقول العلمية التجريبية التي ينتمي إليها المتشككون.

وكان بعض العلماء من تخصصات ذات علاقة بالنفس الإنسانية والسلوك، وبمختلِف أشكال تفاعل الإنسان مع محيطه، يرى في بداية الأمر أن الباراسيكولوجيا ليس علماً بالفعل، ولكنه بالأحرى “شبه علم” Pseudoscience، أو يستعير انتماءه للعلمية، وأنه جاء ليأخذ مكان “ما وراء علم النفس” أو “علم النفس الماورائي”، والمُسَمَّى أيضًا “ميتابسيكولوجيا” métapsychologie. وهو العلم الذي كان يركز في مناهجه وأبحاثه على ظاهرتيْن بالذات: المشي أثناء النوم somnambulisme؛ والوِسيطية Médiumnité. وقد أخذ العلماء التجريبيون على هذا العلم الناشئ كونَه لا يُفسح الفرصة لتقديم “فرضيات” Hypothèses كباقي العلوم.

انطلاقا منه، حرصت الباراسيكولوجيا مضطرَّةً في بداياتها الأولى على دراسة الظواهر المخالفة للطبيعة في إطار أفق بسيكولوجي، سوسيولوجي وإثنولوجي… دون الإشارة أو الرجوع إلى اصطلاح “الظاهرة النفسعقلية” Le phénomène Psi اجتنابا للمزيد من الاصطدامات مع الدوائر العلمية المتشككة، التي كانت في زمن نشوء هذا العلم تهيمن على الساحة العلمية في أوروبا وباقي بلدان المعمور.

يُسجَّل هنا أيضًا، أن العلم الحديث ورواده المشاهير تنازلوا نسبيًا عن شكوكهم إزاء “علمية” الباراسيكولوجيا بعد أن اطمأنّوا إلى أن التجارب التي تتم في إطاره المعرفي، إنما يجريها علماء منتمون إلى نفس تخصصاتهم العلمية داخل المختبرات العلمية باعتماد وسائل العلم الحديث، وتحت مراقبة صارمة من لدن العلماء التجريبيين المنضمّين إلى فرق البحث.

ومنذ بداية ظهور الباراسيكولوجيا، عمل هذا الوافد الجديد على إثبات الظواهر “النفسعقلية” Psi مُركّزًا على نوعين من الموضوعات أو الظواهر:

– التلقّي فوق الحسي (الاستبصار والتنبّؤ والتخاطر أو التيليباثي)؛

– البسيكوكينيزيا أو تحريك الأشياء والكائنات عن بُعد.

عرفت الباراسيكولوجيا أولَ ظهورٍ رسميٍّ لها في أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدًا في سنة 1882، بـ”ترينيتي كوليدج” التابع لجامعة كمبريدج البريطانية على يد البروفيسور “هنري زيدويك” وزميله “فريدريك ويليام”، بعد أن وجد هذان الأستاذان الشهيران نفسيْهما بإزاء ظواهر نفسية/عقلية يستحيل إنكار وجودها رغم صعوبة إيجاد أدلة علمية على صحتها، في ذلك العهد، مثل التخاطر (التيليباثي)، وتحريك الأشياء عن بُعد (البسيكوكينيزيا)، ومثل الآثار التي تتركها على طبقات رقيقة من البودرة الناعمة “أجسامٌ غيرُ مرئية” لأشخاص هالكين أو نيامٍ في حالة حُلم، والتي كان علماء الفيزياء الحاضرون لهذا النوع من التجارب يحرصون على تضييق الخناق حول ممارسيها لجعلها أبعد ما تكون عن أي محاولة للشعوذة، أو الاستغفال، أو لممارسة أي شكل من أشكال التنويم المغناطيسي الإيحائي على المراقبين الحاضرين.

وككل فرع علمي جديد وناشئ، صادف هذا المجال العلمي معارضة قوية من لدن بعض العلماء التجريبيين، وكذا علماء النفس والتحليل النفسي، الذين كانوا ينسبون كل أنشطة العقل إلى الدماغ دون غيره، بالرغم من عجزهم، وكذا أخلافهم إلى غاية الوقت الراهن، عن الإحاطة بالقدرات العقلية لآلة الدماغ هذه، التي يكتفون راهنًا بالقول إن الإنسان لا يستثمر منها إلاّ عُشُرها (10%) مما زاد في توسيع المساحات التي يحتلها مجال الباراسيكولوجيا كلما تَفاقَمَ عجزُ هؤلاء عن إثبات عدم واقعيته، وكلما خانتهم القدرة على إرجاعه بشكل قطعيّ إلى الأوهام والتخيلات والهلوسات، كما كان يذهب إلى ذلك عدد منهم غيرُ قليل، خصوصًا عندما يجد هؤلاء أنفسهم أمام ظواهر نفسعقلية وطبيعية لا يستسيغون مجرد التفكير في محاولة إثبات وجودها، ولكنهم بموازاة ذلك لا يملكون الوسيلة إلى إنكارها إنكارًا باتًّا وإثبات بُطلانها بوسائل العلم التجريبية الموجودة رهن إشارتهم.

مثال ذلك، إثبات التجربة بالوسائل الإلكترونية البسيطة والمتاحة آنئذٍ لوجود أشخاص يتبادلون فعلاً معلومات ومعطيات وصُوَر عن بُعد، وتوثيق ذلك تجريبيًا في مختبرات متطوِّرة، وفي نطاق ضيّق من الضوابط والاحتياطات التجريبية بالغة الصرامة.

وتجدر الإشارة إلى أنه في إحدى التجارب المخبرية التي أخضَعَ لها بعضُ العلماء التجريبيين حالة معينة تتعلق بالمَلَكات النفسعقلية لأحد الوسطاء (Médiums) اكتشف هؤلاء أن هذا الأخير كان يراوغهم ويحاول التدجيل عليهم، فكان ذلك سببا في إعلان أب الباراسيكولوجيا، العالم البيولوجي “ج.ب.راين” (J.B. Rhine) وزوجته وزميلته لويزا (Louisa) عن القطع مع المقاربات السابقة، واعتماد مقاربة جديدة وجذرية في دراسة الظواهر النفسعقلية تضع خطا فاصلا بين التجارب الباراسيكولوجية من جهة، وفئة الوسطاء وجلساتهم المخصصة لتحضير الأرواح، بالذات، والتي كانت جد منتشرة في ذلك العهد من جهة ثانية. وأصرّا على أن الباراسيكولوجيا “إذا أرادت أن يُعترف بها كونيًا فعليها من الآن فصاعدًا أن تعود إلى العلم، وتلتحق بمجاله المخبَري التجريبي والإحصائي“… وهكذا كان بالفعل.

وبالرغم من المعارضة الشديدة التي صادفتها الباراسيكولوجيا في بداية نشأتها، فقد استطاعت بعد بضعة عقود أن تستأثر بصفتيْن علميتيْن ساهمتا كثيرًا في إيجاد موقع لها في أرقى الجامعات، وبين مختلف العلوم ذات الصلة بالإنسان الفرد والمجتمع.

الصفة الأولى: تسميتُها بـ”الباراسيكولوجيا العلمية” (Parapsychologie Scientifique) تمييزًا لها عن مختلف المجالات المتخصّصة في دراسة وتوثيق أفعال السحرة والحواة والمشعوذين المدّعين لتحضير الأرواح، وإلزامًا لها بالتالي بالخضوع للمقاييس العلمية وضوابطها الصارمة؛

والصفة الثانية: تسميتُها بـ”الباراسيكولوجيا التجريبية” (Parapsychologie Expérimentale)  زيادة في إخضاعها لمعايير العلوم التجريبية، من أجل الانتقال بها من أحاديث المجالس المخملية والصالونات الباذخة، إلى المختبرات ووسائلها في الفحص والسبر والإحصاء، فتولّد عن هذا بالذات، انضمام أخصائيين من شُعب علمية تجريبية مختلفة إلى تجارب الباراسيكولوجيا حاملين معهم في الآن ذاته صرامتهم ووسائلهم وأدواتهم في الفحص والسبر.

من الطرائف التي صاحبت ظهور الباراسيكولوجيا داخل الأوساط الجامعية المعنية، إعلان الحاوي الأمريكي Prestidigitateur “دجيمس راندي”، والبروفيسور الفرنسي في البيوفزياء “هنري بروش” (أحد رواد “مختبر جامعة نيس صوفيا أنتيبوليس”)، والساحر Magicien “جيرار ماياكس” عن تخصيصهم جائزة بمليون دولار لكل من يستطيع إثبات ظاهرة من الظواهر الجانبية (Para) مخبريًا. ولكن الأمر بقي في ذلك العهد على ذلك النحو دون أن يجرؤ أحد على رفع هذا التحدّي.

وقد اتضح لاحقًا أن السبب في ذلك العجز ليس علميًا موضوعيًا، بل كان يعود إلى محاولة إثبات وجود تلك الظواهر بوسائل مخبرية لم تكن بَعدُ مبتكَرَة ومصنوعة ومؤهلة لمواكبة ذلك النوع من الفحص والتحليل المخبرييْن.

والجميع يعلم الآن أن هذا الفراغ قد أمكن تَدارُكُهُ وسَدُّهُ بعد أن تطورت وسائل البحث العلمي وأدواتُه وصار في الإمكان ضبط وتصوير تجليات “فوق بَصَرية” لأجسام يصعب تبيُّنُها بالعين المجرّدة، خاصة أن ذلك يتم ضبطُهُ على أيدي فيزيائيين وبيولوجيين ومهندسي طاقة وكهربة موثوق بهم في الأوساط العلمية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى