بحث علمي: نحو ممارسة سلطة غير مسبوقة على الدماغ (مغرب التغيير – الدار البيضاء 7 نونبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 7 نونبر 2023
إن العنصر الأكثر إثارة ًوغرابة ًوغموضاً في هذا الكون، ليس بالتأكيد رقعة غابوية أو جبلية نائية لم يتسنّ بعدُ استكشافـُها، ولا نقطة مكنونة في عمق بحر أو محيط لم يغـُصْ إليها أحدٌ بعد، ولا حتى كوكباً من الكواكب المجهولة في امتداد الفضاء الكونيّ اللاّمتناهي… وإنما العنصر الأكثر إثارةً وغرابةً في الوجود هي تلك المضغة الدسمة الكائنة فينا، المتوِّجة لهاماتنا، والتي لا يتعدّى وزنها كيلوغراماً ونصف، أو يزيد أو ينقص قليلاً، والمشكّـِلة لمركز أعصابنا، والكامنة وراء جميع ما يصدر عنا من حركات وسكنات فيزيقية ظاهرة، وأخرى عقلية فكرية جوّانية باطنة، والتي نسميها في المُتَدَاوَل بـ”المخّ” أو “الـدّماغ”.

إن هذه المضغة، الدهنية الجيلاتينية اللزجة، تشهد منذ الربع الأخير من القرن الماضي ما يجوز أن نسمِّيَه انفجاراً مدوِّياً في حقل الدراسات النفسية والسلوكية، حيث يتظاهر على البحث في متاهات الدماغ أخصّائيون في علم النفس، وبيولوجيون، وكيميائيون، وأخصّائيون في الجراحات الدماغية والعصبية، فضلاً عن مهندسي الفيزياء التمهيدية (Pionnière) وفيزياء الكهرباء والطاقـة، ليقدموا لنا في نهاية المطاف معطيات علمية من شأنها أن تغيِّر الكثير من واقع البشرية ومآلها… فكيف ذلك؟
إن المعطيات، التي أمكن استخلاصُها من الأبحاث والفحوص والتحاليل والمتابعات اللصيقة والدقيقة، والتي خضع لها الدماغ على أيدي هؤلاء، تقول لنا ما إننا سنكتسب القدرة مستقبَلاً على استعمال دماغنا بصورة أكثر فاعلية ًوحسماً، وعلى التحكّم في موجاتنا الدماغية والعصبية، وعلى تحسين قدرات ذاكرتنا، ثمّ على تكييف وتكوين أدمغة صغارنا عن طريق تكثيف أو خفض أو محو مختلِف المشاعر والانفعالات المتكوِّنة لديهم، وكذلك الشأن بالنسبة لنا نحن الكبار.
بيد أننا، بالرغم من هذه التوقعات ـ العلمية بكلّ تأكيد ـ لا نملك إلاّ أن نسوق ها هنا مجرّد فرضيات حول ما سيكون عليه هذا الشأن العلمي التطبيقيّ، مع العلم بأن ما انتهى إليه بعض تلك الأبحاث يجعل تحقيق ما سلف قوله مجرّد مسألة وقت لا غير.

لنبدأ من البدايات الأولى، ولننـظر قليلاً إلى الوراء:
كانت أولى الدراسات التي أجريت حول الدماغ قد انطلقت منذ نحو قرن من الزمن على الأقل، وكان الدماغ متحصّناً كعادته داخل قوقعته العظميّة شديدةِ القوّة والصلابة، متحدّياً كل المحاولات التي حاول أن يُباغته بها الدارسون الأوائل. ولم يكن هذا التمترُسُ جديدًا على الدماغ، بل قد كان السبب في انتكاس آلاف العلماء والحكماء والمشايخ، من مختلِف الملل والأعراق والأوطان، ومنذ آلاف السنين، إذ في كل مرّة كان صاحبُنا يخرج سليماً قويّاً منتصرًا وأكثر استعصاءً وامتناعاً من كل المرّات السابقة.
كان أرسطو، الملقب بـ «أب علم النفس»، يقول إن الدماغ مجرّد آلية مكلفة بتنشيط الدورة الدموية، وإن مركز الفكر هو القلب. وبالرغم من توصّل غاليانوس إلى تقديم الأدلة على بطلان هذه النظرية الأرسطية، فإنه ومَن عاصره من العلماء، وكذلك مَن جاء منهم بعد زمانه، لم يتوصلوا قط إلى الوسائل والمقدمات الكفيلة بإنجاح أي بحث جديد وحاسم حول هذا الموضوع. وحتى عندما ابتـُكِر المجهر واكتـُشفت الطاقة الكهربائية، ونتج عن هذين الفتحين العلميين انفتاحُ مجالات واسعة للبحث في هذا المضمار، فإن رجالات العلم الغربيين ظلوا خلال أجيال غير قليلة يتحاشون افتضاض بكارة الدماغ البشريّ، احترامًا منهم لما كانوا يعتقدونه هيكلاً أو مسكنا مقدّساً للروح.
وإلى غاية يومنا هذا، لا يزال بعض العلماء يجهل الطريقة التي يشتغل الدماغ بها ليشكِّل العشرة “واط” من الطاقة الكهربائية، مع ما يصاحبها من العناصر الكيماوية والفوطونات الضوئية، المكوِّنة جميعها لما يصدر عنه من الأفكار والصور والأخيلة، ومن المشاعر والخواطر والأحلام والذكريات… إلى آخر قائمة الأشياء التي تجعلنا واعين بذواتنا وهُويتنا منفردين بها عن الأغيار.
وبالرغم من هذا الجهل المُرَكّب لدى علماء هذا العصر، فقد استطاع هؤلاء أن يتوصّلوا، بمحض عمليات تحسُّس تشبه تحسُّس المكفوفين في ظلماء العَمَى، إلى اكتشـاف مراكزَ كثيرةٍ داخل الدماغ مختصّةٍ بردّات الفعل الحسية وبمراقبة هذه الردّات والتحكّم فيها. والأكثر من هذا، فقد أمكن لهؤلاء أن يحققوا اكتشافات مذهلة فيما يتعلق بالتحكّم في مختلِف الوظائف النفسية، أو “النفسعقلية”. بل إنهم صار في وسعهم، الآن بالذات، أن يعرفوا كيف يتيسّر تحويل الدماغ، أو بالأحرى تكييف وظائفه، ويتحكّموا بالتالي فيما يصدر عنه بعد ذلك من ردات الفعل الواعية والخلاّقة، مما ييسّر لهم مهمّة التحكّم في مختلِف أشكال السلوك وتوجيهها صوب الوجهة الانفعالية والسلوكية المطلوبة.
إننا نتجه في العصر الراهن صوب أشكال الوجود الجوّانيّ بفضل بعض الأدوية ذات التأثير النفسيّ الداخلي، وبعض أشكال التركيز العقلي، أو التأمّل العميق، في الذات، وفي الكون والطبيعة وقواها فوق الحسية، وبواسطة التمرّن على التحكّم في موجات “الألفا” المنبعثة من الدماغ. والحال أن أعداد الأشخاص الراغبين في خوض مغامرة التحكّم في السلوكات والمشاعر لا تفتأ تتزايد وتتنامى مع مرور الوقت، لولا أن حياتنا صارت منحرفة ًعن مسارها الطبيعيّ والفطري بفعل عوامل سلبية كثيرة نذكر منها على الخصوص:

– استهلاك المخدرات بإفراط، والإدمان عليها بصورة تتسع دائرتها باستمرار؛
– تناول مختلِف الأدوية والمركّبات الكيماوية المتصدّية حسب زعمنا للقلق، أو الأرق، أو الاكتئاب…
– الإقبال على المهدّئات والمنوِّمات، أو على المنشطات، وكل هذه تجعل متناوليها في حالات غير طبيعية بكل المعايير؛
وكلّ ذلك، يجري في إطار من الإعتباطية والإرتجال، وعلى نطاقات واسعة تنذر بتغيّرات غير سليمة وغير مأمونة العواقب على صعيد البدن، ثمّ على مستوى الفكر والسلوك الإنسانييْن.
ويبقى السؤال: متى يُميط العلماءُ اللثام عما انتهت إليه أبحاثهم الرامية إلى تكييف السلوك، وتوجيه إفرازات الدماغ وومضاته والتحكم فيها، وهذا ما نحت منحاهُ فعلا مؤسسات علمية وأخرى مخابراتية أمكنها فعلاً أن تنتج أشخاصاً، وإن كانوا في طور التجربة والاختبار، فإنهم يشكّلون ما يجوز تسميتُه جيشاً سرياً من الأدمغة المتفوّقة على كل الأنماط السائدة لدى إنسان هذا الكوكب؟ متى يتم الكشف عن ذلك، علماً تسريبات غير قليلة نشرتها المجلات العلمية المتخصصة تؤكّد أنهم بلغوا في هذا المضمار العلمي فائقِ الدقة إلى أقصى الكمالات؟!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير.