مرة أخرى: “الدين” و”التديُّن”.. أمران مختلفان مَبْنًى ومَعْنى!! (مغرب التغيير – الدار البيضاء 27 غشت 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 27 غشت 2024
إنّ الُعُنْصُرَيْن الباديَيْن في العنوان أعلاه، يقوداننا إلى عنصر ثالثٍ وازنٍ، ينتمي بالقرابة إلى نفس المجاليْن المذكوريْن، وهو عنصر “التمييز” بين الدين والتديّن. ذلك، أنّ الخلط لدى بعض المفكرين والمتكلمين بين هذيْن المُسَمَّيَيْن لم يكن سوى تحصيل حاصل للخلط الذي يرتكبه بعض فقهاء المسلمين بين “الثابت” و”المتغيّر”. إذ الثابت هو ما أنزله الله، والمتغيّر ليس إلاّ فهمَنا نحن البشر لذلك التنزيل وتَفاعُلَنا معه.
مفهوم “الدين“:
يُطلق لفظ “الدين” في اللغة العربية على معان متعددة: فيطلق تارة ويراد به “الحساب” و”الجزاء”، ومنه قول الله تعالى: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»،[1] بمعنى يوم الجزاء، وهو يوم يُعرض الناس على رب العالمين. ويطلق تارة ثانية ويراد به الحكم وديوان السلطان، ومنه قوله تعالى: «مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ»،[2] بمعنى في ديوانه ومقر سلطانه. ويطلق ثالثة ويراد به العادة والشأن، ومنه قول الشاعر:
تقول وقد درأت لها وضيني * أهذا دينـــه أبــدا وديني؟[3]
أي أهذا شأنه وشأني، أو عادته وعادتي…
ويطلق تارةً رابعةً ويراد به الطاعة والانقياد، يقال: دان له دينا وديانة: أي خضع له، وذل له، وأطاعه.
ثمّ يطلق تارةً أخرى ويراد به ما يتديّن به الإنسان، يقال: دان بكذا، أي اتخذه دينا وتعبّد به [4].
والذي نرومه هنا عن “الدين” هو بالمعنى الأخير، أي ما يتدين به الإنسان، ولا شك أنه بهذا المعنى يُدخِل في مفهومه المعنى الذي قبله مباشرة، وهو الخضوع والمذلة والطاعة؛ لأن من دان بدين خضع لتعاليمه، وانقاد لها، وما حاد عنها، كما أنه ليس بعيدًا عن سائر المعاني الأخرى، لأنها كلها تدور حول معنى واحد، هو الانقياد والخضوع لسلطان معين.
أما الدين في نظر علماء العقائد، فقد عرّفه بعضهم بأنه: وضع إلهي يسوق ذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل، وهذا يشمل العقائد والأعمال.[5]
إن هذا مَفادُه، أن لفظ الدين عند هؤلاء، لا يتناول إلا الرسالات السماوية: كاليهودية والمسيحية والإسلام، أما غيرها من العقائد التي اصطلح عليها بعض الناس دون أن يكون لها صلة بالسماء، فليست دينا في نظرهم.
ويرى فريق آخر من العلماء: أن الدين هو “الإيمان والعبادة مهما كانا، فإيمان الوثنيين دين، أو هو عبارة عن الإيمان بقوة أو قوى سائدة تحكم الأرض. وتوصف عبادة تلك القوة أو القوى فيقال: دين حق، ودين باطل”.[6]
معنى هذا أن الدين عند هؤلاء يشمل الرسالات السماوية، وكذلك غيرها من العقائد التي صنعها البشر ولا تمت إلى الله بأيّ سبب، وقد يشهد لهذا، أن الله سمى الديانات غير المنزّلة دينا فقال: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين».[7] وقال فيما أمر به رسوله، أن يقول لكفار قريش: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين».[8] ويبدو في الواقع أنه لا وجود لخلاف جليٍّ بين الفريقين: فالفريق الأول استعمل منظوراً خاصاً، فيما استعمل الفريق الثاني منظوراً عاماً.
مفهوم “التدين“:
هو التمسك بعقيدة معينة، بحيث يلتزم الإنسان بها في سلوكه، فلا يؤمن إلا بها، ولا يخضع إلا لها، ولا يأخذ إلا بتعاليمها، ولا يحيد عن سننها وهديها. ويتفاوت الناس في ذلك قوةً وضعفًا، حتى إذا ما بلغ الضعف غايته، عُدَّ ذلك خروجًا عن الدين وتمردًا عليه[9]. ومن المهم أن يفرّق المرء بين دين جاء من أعلى علّيين، وتديّن ما هو سوى ما يفهمه المتدين ويفعله بدينه. فالأوّل ثابت، والثاني متغيّر مع تطوّر المجتمعات والمفاهيم والقضايا والعلاقات والمعاملات.
الدين والتدين كظاهرة اجتماعية:
إن ظاهرة “الدين والتدين” ظاهرة عامة تشترك فيها كل الجماعات البشرية على مدى تاريخها الطويل، وعلى اختلاف ما بينها من بداوة وحضارة، وتخلف وارتقاء. وإن مبعث هذه الظاهرة، إحساس كل فرد في جماعة بأن هناك قدرة أو قُدُرًا تتصرف فيه وفيما حوله تصرفًا يلفت النظر ويبهر العقل، فيستشعر من نفسه ميلا قويًا لمعرفة مصدر هذه القدرة التي لها عليه وعلى غيره ذلك الأثر العجيب.
كما أن العقول حينما تبحث عن الحقيقة دون أن يكون لها مدد من السماء، لا يمكن أن تتفق على شيء واحد تؤمن به وتخضع له، وإنما تتشعب بها السبل، فإذا هي مختلفة في ذلك اختلافًا كبيرًا: “هناك عقول مشت على فطرتها فوصلت إلى معرفة الله، وهناك عقول مشت على غير فطرتها فنظرت نظرة ساذجة إلى ما حولها من مصادر القوة والتأثير فيها أو فيما يحيط بها، فإذا بجماعة تعبد الشمس وأخرى تعبد القمر، وثالثة تعبد النار، ورابعة تعبد الشجر، وخامسة تعبد البقر.. وغير هؤلاء كثيرون يعبدون آلهات شتى، وكلها مخلوقات لله، لا تملك لهم ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا، ولا حياة، ولا نشوراً”.[10]
ولقد افترق الباحثون في تاريخ الديانات في ذلك إلى فريقين:
فريق أول، يذهب إلى أن الدين بدأ في صورة الخرافة والوثنية، وأن الإنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل فيه إلى الكمال بالتوحيد، بمثل ما تدرج نحو الكمال في علومه وصناعاته.
هذه النظرية نادى بها أنصار مذهب “التطور التصاعدي” الآخذ بنظرية النشوء والارتقاء لداروين، والذي ساد في أوروبا في القرن التاسع عشر في أكثر من فرع من فروع العلوم، وحاول تطبيقه على تاريخ الديانات عدد من العلماء [11].
وفريق ثانٍ، يقرر بالطرق العلمية بطلان هذا المذهب، ويثبت بالعكس أن عبادة الخالق جل وعلا هي أقدم ديانة ظهرت عند البشر، مستدلا بأنها لم تنفك عنها أمة من الأمم في القديم والحديث، فتكون الوثنيات والحالة هذه مجرّد أعراض طارئة، أو أمراض متطفلة بجانب العقيدة الإلهية العالمية الخالدة.[12]
وتسمى هذه نظرية “فطرية التوحيد”، التي انتصر لها جمهور من علماء الأجناس، وعلماء الإناسة، وعلم النفس.[13]
وإذا كانت النتيجة مفادُها أن الديانات السماوية هي الأصل، وأن لها السبق في الوجود الديني، وأن ما اعتراها من شوائب أو اختلالات، وما زاحمها من عقائد وضعية باطلة، إنما هو محض شذوذ وانحراف صدر عن فئات ضالة مضلة.. إذا كانت النتيجة هي هذا، فلنا أن نتساءل:
هل بدأت هذه الديانات السماوية واستمرت تتنزّل ديانة إثر أخرى على نمط واحد، ثم انتهت وهي على نفس النمط دون تغيّر ولا تطوّر؟ أو أنها بدأت على نمط خاص، ثم تطورت إلى أنماط مختلفة، ثم انتهت بنمط أخير هو نسيج وحده؟
الواقع أن الديانات السماوية كلها جاءت متفقة ومختلفة: متفقة في أصولها، مختلفة في فروعها، كلها يتفق على الجوهر والحقيقة، على أصول العقيدة، وأصول الشريعة. فهي جميعًا تدعو إلى الإيمان بالله وحده، والإيمان بكل ما جاء من عنده، والأخذ بكل ما يصل بالإنسان إلى الخير ويباعد بينه وبين الشر.
أما فروع الشرائع وتفاصيلها، وصورها وشعائرها، فتختلف فيها الديانات السماوية اختلافًا ظاهرًا؛ فمثلا فريضة الصلاة، جاءت بها كل الشرائع السماوية، ولكنها تختلف صورها من شريعة إلى أخرى. فهي في الشريعة الإسلامية قيام، وقراءة، وركوع، وسجود وجلوس، على كيفية معروفة، وفي الشريعة المسيحية ترانيم وتراتيل تتلى جماعياً على هيأة خاصة، أو فرديا في هيئات مختلفة، جلوسا أو وقوفاً أو غيرهما.
أما لماذا اتحدت الشرائع السماوية في أصولها واختلفت في فروعها؟ فذلك لأن الأصول ثابتة لا تتغير بحال من الأحوال، فالله سبحانه هو الله بذاته وصفاته لا يتغير ولا يتحول أبدا، والرسل في كل أمة هم الرسل بما يجب لهم وما يجوز في حقهم، والكتب المنزلة على مدى تاريخ الرسالات هي الكتب المنزلة بما لها من قداسة وتعظيم، وكل ما جاء من عند الله فهو حق ثابت، وصِدق لاَيُنقض، وفيه أصول الأخلاق والعبادات والمعاملات، وأدب مُتَّبَع وطاعة ملتزَمة، لا يحيد عن ذلك إلا ضال وهالك.
أما الفروع، فهي التي يعتريها التغيير والتبديل، ويطالها التعديل والتطوير، لأنها ليست أكثر من تطبيق للأصول في صور شتى، ولا بد لهذه الصور أن تختلف تبعًا لاختلاف أحوال المكلَّفين بها وما يحيط بهم من عوامل وظروف كثيرًا ما يكون لها دخل في التكاليف. فما يصلح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر، وما يلائم طبيعة قوم قد لا يلائم طبيعة قوم آخرين، وهذا من أبرز الأغراض المشار إليها باصطلاح “التديُّن”.
إنّ “الدينَ” إلهيٌّ وبالتالي فإنه يتّصف بـ”الثبات والحقّانية”، ومصدره يتمثّل في الوحي القرآني؛ بينما “التديّن” بَشريُّ المَنشأ والصِّياغة، لأنه يشخّص تفاعل الإنسان مع تعاليم الدين وحقائقه الثابتة الصادرة في الكتاب وما صحّ من السنة، ولا يمكن بالتالي أن يكون بسبب منشئه البشري هذا إلاّ مادة للمراجعة والنقد والتغيير والتطوير تبعاً لتبدّل أحوال المتديّنين وقضاياهم، ولذلك جاز أن يختلف حوله العلماء والفقهاء، فقهياً وليس عَقَدياً، وأن يُنحوا فيه إلى مذاهب شتى.
إن الباحث يجد أثناء تناوله لموضوع الخطاب الديني مواقف تكرّس لنفس اللبس بجعل “التديّن” يرقى إلى مرتبة “الدين” لدى بعض الجماعات المسلمة، الأمر الذي نتجت عنه اختلافات في فهم المسلمين لدينهم، وفي تقديمهم هذا الفهم لغير المسلمين، الذين صاروا والحالة هذه ينظرون إلى الإسلام نظرتهم إلى بعض أهله ومفكريه ومُتَكَلِّميه، وما أعظم الفارق بين “دين” الله العزيز الحكيم من جهة، وبين “تَدَيُّنِ” بعض المُغالين أو المبتدعة أو المتطرفين من جهة أخرى، وما أكثر هؤلاء في التاريخ الإسلامي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير / مصدر صورة الواجهة: بيان اليوم.
[1] الفاتحة: 4.
[2] يوسف: 76.
[3] “أفاطم قبل بَيْنِكِ مَتّعيني”، الشاعر الجاهلي “المثقب العبدي”. وهو العائذ بن محصن بن ثعلبة، من بني عبد القيس من ربيعة. شاعر جاهلي، من أهل البحرين. اتصل بالملك عمرو بن هند، وله فيه مدائح. ومدح أيضاً النعمان بن المنذر.
[4] انظر مادة “دين” في “القاموس المحيط والمعجم الوسيط.”
[5] دائرة المعارف للبستاني مادة “دين”.
[6] نفس المصدر السابق.
[7] آل عمران: 85
[8] الكافرون: 6.
[9] “التفسير والمفسرون”، محمد حسين الذهبي (هامش لاحق).
[10] “التفسير والمفسرون”، محمد حسين الذهبي، 1915-1977، هو وزير أوقاف مصري أسبق، ولد في مدينة مطوبس في محافظة كفر الشيخ، التحق بكلية الشريعة جامعة الأزهر وتخرج منها عام 1939، حصل على الدرجة العالمية، أي الدكتوراه، بدرجة أستاذ في علوم القرآن عام1946، من كلية أصول الدين في جامعة الأزهر، وذلك عن رسالته “التفسير والمفسرون” التي أصبحت بعد نشرها أحد المراجع الرئيسة في علم التفسير بالأزهر الشريف.
[11] “الدين”، للدكتور محمد عبد الله دراز، ص 102.
[12] نفس المصدر السابق.
[13] نفس المصدر السابق.