عودة إلى المكتبات كذاكرة ثقافية: النشأة الأولى قبل الميلاد وبعده (مغرب التغيير – الدار البيضاء 12 نونبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 12 نونبر 2023
تعتبر المكتبة على ضوء مُسمّاها ذي الأساس أو الأصل اليوناني “بيبليوطيكي” (“بيبليو” تعني كتاب، و”طيكي” تعني محل أو مكان)، مجرد مكان تُخزّن فيه مجموعة منتقاة من الكتب المرتبة ترتيبًا معيَّنًا. وهناك وجود قائم لمكتبات عمومية وأخرى خاصة، وتقدم المكتبات في أحايين كثيرةٍ وثائق أخرى بالإضافة إلى الكتب والمخطوطات، كالصحف والمجلات والحوليات والتسجيلات الصوتية والشرائط المصوّرة والخرائط والتصاميم… وحوامل ووسائط أخرى قد تظهر في المستقبل.

ويُجيز السواد الأعظم من المكتبات، خصوصًا العمومية والجامعية، استعارة مقتنياتها مجّانًا من لدن جمهور الوافدين عمومًا، أو الطلبة والباحثين والدارسين من هؤلاء بصورة خاصة. بينما يُقصِرُ بعضُها الآخر خدماته على آلية القراءة والمطالعة في عين المكان، داخل صالات وقاعات تُعَدّ لهذا الغرض، بحيث تُتيح هذه الخدمة للعامة دون تمييز بين فئاتهم، مع تخصيص قاعات موازية للأساتذة والباحثين والمتخصصين في علوم وفنون معيّنة، ويقدم بعض المكتبات خدمة النسخ الإلكتروني والرقمي للوثائق بحسب حاجة الأساتذة والطلبة، وغالباً ما تكون هذه الخدمة مقصورة على أساتذة وطلبة الجامعات، وفي بعض الحالات على الأعضاء المنخرطين دون غيرهم.
في سنة 2010، استأثرت مكتبة الكونغرس بواشنطن بوصفها كـ”أكبر مكتبة في العالم” بما يزيد عن 145 مليون وثيقة، بين كتب ومخطوطات وغيرها من الوثائق والمستندات، ومختلِف الحوامل. وضمت المكتبتان الوطنيتان بروسيا نحو 32.5 مليون وثيقة. ويقال إن المكتبة البريطانية بلغ عدد الوثائق المودعة بها 150 مليون وحدة.
النشأة الأولى:
ظهرت المكتبات مع نشوء الحاجة إلى تنظيم حفظ النصوص وتخزينها وضبط طرق الاشتغال عليها. وكانت الأماكن المختصة بهذه المهام تابعة في بداياتها الأولى للسلطتيْن الدينية والسياسية، بدرجات تتفاوت بحسب نمط الثقافة والحضارة السائدتيْن.
في موقع “نينوَى” الأثري، بالمدينة الأشورية القديمة، في بلاد أرمينيا حاليًا، عثر علماء الآثار على نحو 22.000 لوحة طينية نُسبت إلى ما يمكن اعتباره مكتبة أو أرشيفًا لقصر الحاكم.
وفي مصر القديمة، في “دور الحياة” التي شيدها الفراعنة، اكتُشِفت رسوم تشخّص أساتذة كتبيين كانت دروسهم تُطْبِقُ شهرتُها الآفاق، داخل البلاد وخارجها. وفي بلاد اليونان، يُرجع بعضُ المصادر إنشاء أول مكتبة بأثينا إلى “بيزيستراتوس”[1] (527 ق.م)، غير أن هذا القول لم يرْسُ على أساس قويٍّ وبالتالي فقد أثار حوله الكثير من الخلافات.

غير أن أشهر مكتبة عتيقة هي مكتبة الإسكندرية، التي أنشئت في القرن الثالث قبل الميلاد، على يد الملوك الهيلينيين، الذين رغبوا في التقرب إلى الأهالي عن طريق إظهار اهتمامهم الشديد بالعلوم والمعارف، فأقاموا مكتبات عديدة مفتوحة أمام العموم، وعملوا على صيانتها، واختاروا لاحتضانها مركَّبات ثقافية/رياضية كبرى، وأنفقوا في سبيل ذلك أموالاً غزيرة، بسبب تكرار نقل المخطوطات على أوراق البرديّ، التي كانت سريعة التلف والاهتراء كلما كثر استعمالها والرجوع إليها. بل كان الملوك يوظّفون نوعًا خاصا من العبيد مهيَّئين للقيام بمهمة القراءة للزوار، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بمخطوطات شديدة التقادم والندرة.
أثينا وبرغام، باليونان، كانتا تتوفران بدورهما على مكتبات كبرى تحتضن مئات المجلدات والوثائق، فيما كانت هناك مكتبات أكثر تواضعًا في كل من رودس وأنتيوش.
في روما، كان بعض القصور يتوفر في صالات الجلوس على مكتبات خصوصية، وكانت هناك أيضًا مكتبات عمومية ولكنها مدبَّرة بشكل خصوصي، أو منشأة بشكل أو بآخر على أيدي خواص، وكان السبب في ذلك تكريسُ نوع من البريستيج السياسي. وقد سجل الباحثون في هذا السياق نوعًا من التنافس بين الساسة والقادة الأكابر كما حدث بين لوكيلوس وجيل سيزار إبان فترة حكم هذا الأخير. وقد أدّى هذا النوع من “الصراع الراقي” إلى نشوء 28 مكتبة في حدود سنة 377 للميلاد. حتى أن بعض هذه المكتبات كان ملحقاً بالحمّامات، كما كان بعضها مستقلاًّ عن السلطة العمومية.
في الصين، اكتست النصوص المنشورة والمرتبة أهمية كبرى على عهد الممالك المقاتلة، حوالي القرنيْن الرابع والثالث قبل الميلاد، وهي الفترة التي شهِدت غليانًا ثقافيًا على منوال ما كان يقع في الفترة ذاتها ببلاد الإغريق. وكانت البلاطات تحتضن فئات من المتعلمين، فضلاً عن المدارس المعناة بالتعليم التقليدي. وبعد توحيد الإمبراطور “كين شي هوانغ” لكافة أطراف دولته قرابة 221 قبل الميلاد، أنشأ المكتبة الملكية، ومارس نوعًا من التسلّط الفكري ومن الاقتناء السلطوي إذا جاز التعبير، حيث عمد إلى إحراق بعض كتب الفيلسوف “كونفشيوس”، وإحراق بعض أتباع “الكونفشيوسية” في تلك الحقبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير.
[1] بيزيستراتوس ( 527 ق.م) حاكم شعبي لأثينا. استخدم الفقراء في برامج أعمال عامة مثل بناء المعابد والنافورات. أطلق الأثينيون على عهد بيزيستراتوس عصر الذهب وذلك بسبب حكمه العادل. حصل بيزيستراتوس على السلطة عام 560 ق.م، ولكن عائلة الكميوند تحكَّمت في المدينة عام 556 ق.م. ذهب بيزيستراتوس إلى مدينة مقدونيا المجاورة، وكسب ثروة من التعدين، وشكَّل جيشًا من الجنود المؤجَّرين (المرتزقة). احتلت قواته مدينة أثينا عام 546 ق.م، وحكمها حتى وفاته. شجع بيزيستراتوس المؤلفين والفنانين، وهو أول من أمر بجمع أشعار هوميروس.