بين العلوم العتيقة والحديثة: هل يندرج ما يسمى بـ”علم الباطن” ضمن فعاليات “العلم الحديث”؟ (مغرب التغيير – الدار البيضاء 16 نونبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 16 نونبر 2023
هناك، في هذا المجال من النقاش العلمي، إشكال وازن يجد الباحث نفسه بإزائه أشبه ما يكون في ورطة أو مأزق لأن الأمر ملتبس بامتياز. فالمتكلمون في المجال الباطني كُثْرٌ، ومنطلقاتهم متعددة ومختلفة، كما يعلم الجميع. وإذا اختلفت المنطلقات في هذا المجال من المعارف بالذات، فإن النتائج تختلف أيضاً بتحصيل الحاصل، وهذه بديهية لا تحتاج إلى إطناب في الشرح والتدليل، ومثاله بكل بساطة أن المتوجه نحو المشرق لا يسعه أن ينتهي إلى نفس المقصد الذي ينتهي إليه مَن اتخذ المغرب أو الشمال أو الجنوب مسارًا لسفره وترحاله.
إن الاتصال الباطني، المرتبط بداهة بالعلوم الباطنية، وهي العلوم التي في وسعها التعرف عليه وعلى وسائله وتقديم هذه الوسائل إلى السالكين في أطباق موسومة بالتعدد والتنوع، ليس هو عينه لدى مختلف الدارسين أو الممارسين لهذا النوع من الفكر والفهم والفعل إزاء ظواهر الوجود وبواطنه… فكيف ذلك؟

– إنّ بعض الدارسين أو الممارسين من مختلف طرائق “الصوفية” أو “المتصوفة”[1] يعتبر علم الباطن، والاتصال الباطني بتحصيل حاصل هذا العلم، “علمًا لدنيًا” يُؤتيه الحق تعالى مباشرة لثلة من عباده المخلَصين، وهي الحالة المتجسدة في قصة النبي موسى مع “العبد الصالح”، باعتبار هذا الأخير قد آتاه الله “من لدنه” رحمة وعلمًا، كما ورد ذلك في سورة الكهف[2]، ومن هنا جاء اصطلاح “العلم اللدني” الذي يراه القائلون به وحيًا أو إلهاما ربانيا مباشِرًا بغير واسطة.
هنا يُطرح زخمٌ من الأسئلة: هل يجوز أن يكون هناك أناس بلغوا بالكدّ إلى ما اختص به ذلك العبد من الحظوة ومن العلم المنزل مباشرة من عند العليم الخبير؟ وإذا كان هذا جائزًا، فمن يكون هؤلاء؟ وما هي وسيلتهم إلى تحصيل ذلك العلم الفريد وغير المتاح لأغيارهم؟ وهل يتم ذلك التحصيل عن طريق إتقان فرائض العبادات وشعائرها والإكثار من النوافل والأدعية وصنوف المناجاة والتفرغ لذلك ليل نهار فيما عدا نصيب يسير من النوم والأكل والشرب، كما ذهب إلى ذلك بعض “الصوفية”، وكما نقله عنهم بعض “المتصوفة” (تشبُّهًا وتقليدًا لا يبلغان إلى نفس العمق في الحال والمقام)؟
– بعض آخر من الدارسين أو الممارسين يرى أن تحصيل علم الباطن وممارسة الاتصال الباطني بواسطته يتطلب، فحسب، رياضات جسدية وعقلية يمكن، بعد ممارستها لسنوات تَطول أو تَقْصُر، أن يتيسر الولوج إلى المعارف الباطنية، بمعنى تحقيق “الاتصال الباطني”. وهذا ما ذهب إليه علماء الباراسيكولوجيا، القائلون بتداريب الطرح خارج الجسد Dédoublement، بمعنى الخروج بالجسم الأثيري أو الكوكبي من الجسد الفيزيقي، والانتقال بفعل ذلك إلى عوالم موازية لعالم الظاهر. بالمناسبة فالملوك والأمراء الفراعنة، الملقبون بـ”أبناء الشمس”، وكذلك كهنتهم، كانوا يمارسون ذلك النوع من الاتصال مما جعلهم يتميزون عن العوام، وجعل هولاء يقدسونهم بلا تردّد.

هذا يعني أن تحصيل تلك القدرات أو القوى لا علاقة له بالإيمان أو بممارسة الشعائر التي جاء بها مُختلِفُ الرسالات والشِّرْعات، وإنما هو بمثابة قدرات كامنة في “العقل الفعّال”، أو في “اللاشعور”، أو بالأحرى في مقام “الشعور الكوني”، وهذه حالة يصل إليها الممارس بالتدريب الشاق، جسديًا بالحركات، وعقليًا بالتركيز بالفكر، بمعنى أن الأمر هنا يتعلق بتطبيقات وطقوس ليس إلاّ.
هنا أيضًا يكمنُ إشكال، يتجلى في تحديد طبيعة العوالم التي يتم الدخول أو الخروج إليها بهذه الوسيلة، هل هي عوالم “قائمة بذاتها بالقوة”، أم مجرد أشكال وجود “قائمة بالفعل” وليس بالقوة، تكون موازية لأشكال الوجود الظاهري، كما هي الصور المنعكسة على أديم المرآة، وبالتالي تكون متشكِّلةً من “قوى الطبيعة”، الأمر الذي يجعلنا أمام عالميْن متوازييْن: “عالم الطبيعة”، المدرَك بالحواس؛ و”عالم قوى الطبيعة”، المدرك بقوى العقل، أو بما يطلق عليه علماء الباراسيكولوجيا اسم “الوعي الكوني” La Conscience Cosmique ؟
من هذا المنطلق يعتبر علم “الباراسيكولجيا” علمًا بالمفهوم الإبستيمولوجي للاصطلاح (أنظر في هذا الموفع مقالة سابقة تناولنا فيها نشأة هذا العلم)، ويكون وفقًا لما سبق قوله مختصا بالبحث في اللامرئي واللامنظور وفي كل الظواهر الطبيعية والإنسانية والحيوانية والنباتية الخارجة عن الطبيعة الفيزيقية الملموسة، أي البحث في مجالات قوى الإنسان وقوى الطبيعة وما يتصل بهما من قوى مختلف الكائنات.
فكأننا هنا نقول إن “الباراسيكولوجيا” هي الصيغة العصرية لـ”علم الباطن”، وإنّ العلماء الحداثيين لجأوا إلى هذا الطرح حتى يجدوا لعلوم الباطن موقعًا معترَفًا به بين باقي العلوم المعترَف لها بهذه الصفة.
والحال أن هذا الخلط بين “علم الباطن” و”الباراسيكولوجيا”، المنبثقة عن علميْ النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا، في بحثها في الظواهر النفسية والسلوكية غير الطبيعية والمتخصصة بالتالي في فحص وتحليل الظواهر الجانبية Para للكائنات، يمكن اعتباره نوعًا من التحايُل أملاه ضعف بعض الباحثين أمام “صفة العلمية” التي يريدون إسباغها على “علوم الباطن”، بينما الحقيقة أن صفة “العلمية” هذه تطرح هي الأخرى أسئلة شائكة، وأحيانًا محرجة، لأنها قامت على منظور فكري وجودي لم يكن يُعير أدنى اهتمام للجوانب الخفية من الإنسان والكون والطبيعة والكائنات. وبالتالي فلَمَّا أجبرهم واقع الأشياء وظواهرها على ذلك اضطروا إلى التأسيس لعلم يشمل تلك الظواهر، هو علم “الباراسيكولوجيا” ذاته، الذي ما زال هو نفسُهُ سجينَ بعض المفاهيم الوجودية التي جاء بها علماء النفس والتحليل النفسي أمثال فرويد ومن نحا منحاه.
– نفر آخر من المتصوفة، رأى أن علم الباطن، والاتصال الباطني بتحصيل الحاصل دائمًا، إنما هو خوض في “علم الحقيقة” خلافًا لعلوم الظاهر، التي رأوا أنها من مناط “علم الواقع والشريعة”.
وهذا بدوره يطرح إشكالاً كبيرًا، لأن الشرائع السماوية جاءت كما سبق القول بشعائر تعبدية تُحيل كلها على الباطن، إذ كيف يفسر الباحث حركات الصلاة، أو طواف الحجاج ودورانهم حول الكعبة، وهذه حركات جسدية وطبيعية ظاهرة ولكنها تخفي وراءها وفي جوهرها وعمقها حركات أخرى لقوى غير ظاهرة، أيْ قوى باطنية، نورانية بكل تأكيد لأنها ذات منشأ ربّاني (الأمر الإلهي بالصلاة وبالطواف) ولأن الهدف منها هو استمداد النور الإلهي الذي ترمز إليه الكعبة، لأن الكعبة هي مهبِط ذلك النور في الأرض (الصلاة أيضًا تقوم على التوجه صوب موقع الكعبة) ومن ثَمّ فالشريعة ليست مقصورة على ظاهر الأشياء حتى نربطها نحن بـ”علوم الظاهر” لا غير، كما يقول هؤلاء، وحتى نجعلها في موقع مقابل ومخالف لموقع “علوم الباطن”، باعتبار هذه الأخيرة جزءًا من “علم الحقيقة”.
إذن فاعتبار “علم الباطن”، فحسب، وما ينجم عنه من اتصال باطني “علمًا للحقيقة”، من شأنه أن يضرب بعرض الحائط كل العلوم التي أوحى الله سبحانه فواتحها إلى أنبيائه ورسله لكي يقوم عليها التطور الواقعي والملموس للمعارف والحضارات والثقافات، ويجعل تلك العلوم مجرد عبث ولهو، بينما الواقع أنها غيرت حياة البشرية، بمشيئة العليم الخبير جل وعلا، وقلبتها رأسًا على عقب منذ انفجار الثورة الصناعية، ثم الثورة الإلكترونية، فالمعلوماتية، فالرقمية… ولا تزال تفعل، وقد يسَّر ذلك تحقيق فهم أمثل للكون وعناصره الظاهرة والخفية.

بل إن تقدم تكنولوجيا الرقميات أفسحت الآن فرصة لا غنى عنها لدراسة وسبر ظواهر كونية وطبيعية وإنسانية وحيوانية يمكن اعتبارها باطنية بامتياز، كالحيز الوقتي L’espace-temps الذي يمكن استعماله كمَنفذ بين أقطار الأرض (الفِجاج) وبين أقطار السماوات (المَعارج) لقطع مسافات جد طويلة، أو مهْولة الطول، في أزمنة قصيرة قياسية قد تصل إلى لمح البصر، الشيء الذي يُحيلُنا ويُقَرِّبُنا من “علم الكتاب”، الذي مكّن عبدًا من عباد الله في حضرة النبي/الملِك سليمان من إحضار عرش ملكة سبأ إلى مجلسه قبل أن يرتدّ إليه طَرْفُه.
إذن، فنحن هنا أمام علم له علاقة بقوى الكون والطبيعة، كما له صلة وُثْقى بـ”علم الكتاب”، وبكل ما يُفسح المجال للبحث والدراسة في العوالم والظواهر والكائنات غير المرئية وغير الخاضع إدراكُها لسلطة الحواس، التي وإن كانت سلطة سلبية لأنها تسجن عقولنا في عالم المادة الكثيفة، فإنها بموازاة ذلك تمنحنا إمكانية استعمال الحركة الجسدية والفكرية للولوج والاتصال بعوالم وكائنات تتمرّد على سلطة الحواس تلك، وتحولها إلى مجرد وسيلة يسيرة لتحقيق تلك القفزة الهائلة بين كونيْن أو وجوديْن مختلفيْن.
إننا هنا بإزاء تثمين المادة وحركاتها وسكناتها باعتبارها وسيلة ضرورية للخروج من عالم المادة ذاتها، كما نفعل حين نتحرك جسديًا وفكريًا باتجاه البيت العتيق للصلاة أو بالطواف حوله لتحقيق الاتصال بقوى النور الكامنة فيه.

خلاصة القول إذَنْ، إن “الاتصال الباطني” لا يمكن أن يتنكّر له العلم الحديث، الذي سبق القول إنه يتحايل لإفساح المجال لدراسة كل ما هو باطني وغير ملموس وغير مرئي بواسطة وسائل البحث والسبر التي يستعملها علم الباراسيكولوجيا الحديثة، ويسمّى أيضاً علم الظواهر النفسية الجانبية أو الخارقة، مع التذكير بأن وسائل البحث تلك، تشمل الآن آلات إلكترونية ورقمية مثل “الإلكتروأنسيفالوغرام” Electro-encéphalogramme في وُسعها أن تَقيس الموجات والذبذبات التي يُرسلها الدماغ عند سفر صاحبه بالتركيز العقلي نحو أزمنة ماضية سحيقة، قد تصل إلى لحظة ميلاده، بل قد تصل كما أثبتت التجربة المخبرية ذلك إلى ملايين السنين، عندما كان الكائن كالفوطون الضوئي بلا جسم لطيف ولا جسد كثيف، وإنما محض ومضة عقلية كتلك التي أخذ الخالق سبحانه عليها ذلك الميثاق الغليظ، الوارد بواضح القول وصريحه في الآية 172 من سورة الأعراف[3]. وهذه التجارب يُجريها الآن فريق متعدد المكونات يشمل علماء في الباراسيكولوجيا وآخرين في الرياضيات والفيزياء الكمّية والفيزياء التمهيدية وفيزياء الفضاء وفيزياء الطاقة، وتقنيون متخصصون في الإلكترونيات والرقميات. وهذا بدوره اعتراف من العلم الحديث بالباطن وبالاتصال الباطني، وإنما تختلف الأسماء المشيرة إلى نفس المسميات.
المُثير في هذا النوع من التجارب بالذات، كما جاء في التقارير العلمية المنجزة عنه، أن الخارجين من هذه التجربة تحديدًا يتغير سلوكهم بعد ذلك بصورة كلّية، حيث يصيرون أقل اهتمامًا بالأمور الدنيوية وبالماديات، وينخرطون في مسار حياتي جديد يغلب عليه الطابع الروحي وتغمره السكينة، وتَحُفّه طمأنينةُ العقل والنفس، ويميّزه السلوك المُسالم والهادئ والرزين كما لم يكن المرء أبدًا من قبل،[4] مما يدل على أن صاحبه قد عاش فعلاً تلك التجربة الفريدة، وصار واعيًا بما أُخِذ عليه من المواثيق قبل دخوله في الظلمات الثلاث: ظلمة الصُّلب، وظلمة الرحم، وظلمة المَشيمة، التي تليها ظلمة الوجود المادي الكثيف المسجون بسلطة الحواس.
نهايتُه، أن الإشكالية الإبستيمولوجية لم تعد واردة ولا مطروحة في العصر الراهن، لأن “الاتصال الباطني” يعترف به العلم الحديث، الآن، ولو تحت مسميات متعددة ومختلفة كما سبقت الإشارة، من قبيل: الشعور الكوني Conscience Cosmique، واليقظة التامة، Eveil Total، أو الارتداد عبر الأزمنة الماضية Transgression… إلى غير ذلك من الأسماء التي يختبئ العلماء المُحْدَثون أو الحداثيون وراءها حتى لا يقولوا بـ”الاتصال الباطني” و”العلم الباطني” بصريح العبارة!!!
معنى هذا، من جديد، أن الإشكالية الإبستيمولوجية لم تعد مطروحة كما سبق القول، وأن الاختلاف القائم الآن لم يعد إلا في “الأسماء” وليس أكثر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير.
[1] يلاحظ القارئ أننا نفصل بين “الصوفية” إشارة إلى الرعيل الأول ومن سار على نهجه من أرباب القلوب وأهل الذوق، ومن أصحاب الأحوال والمقامات، الذين سلكوا الطريق بحثا عن الحقيقة؛ وبين “المتصوفة”، الذين جاءوا بعد هؤلاء “متشبهين بهم فحسب”، ومتكلّفين ومتصنعين، من الباحثين في مسالكهم عن اكتساب قوى وكرامات لم يجدوا حرجًا في إطلاع الملأ من عامة العباد عليها، فاكتسبوا بذلك تقديسًا لدى العامة جعلهم يتخطون حدود المعقول، حتى قال بعضهم إنه أكثر حظوة من الأنبياء والرسل لأنه اكتسب القوة والكرامة بالكد والتعب، بينما الأنبياء والرسل لم يكدوا في ذلك، وإنما وقع عليهم الاختيار والاصطفاء دون أي جهد يُذكر… وبطبيعة الحال، فقد أخطأ “المتصوفة” إلا القليل منهم ممن أدركتهم رحمة الله قبل أن يتمادوا فيما هم فيه من العجب بأنفسهم، ومن نسبة الأفعال إلى ذواتهم بخلاف “الصوفية”، الذين ينسبون كل الأفعال إلى الحق سبحانه وينفون عن أنفسهم أي استحقاق.
[2] «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما» (الكهف 65).
[3] «وإِذ أَخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست برِبكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين».
[4] Nous sommes tous des immortels, Patrick DROUOT, les éditions de Rocher, 2006.