دراسات وأبحاث

المنظور الإسلامي الحقيقي للسلم والحرب (مغرب التغيير – الدار البيضاء 29 غشت 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 29 غشت 2024         ع.ح.ي.

لا يختلف اثنان، على أن الإسلام “يسعى إلى صنع السلام” تحت كل الظروف. فقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله بأن يجنح للسَّلم كما جاء في آيات الذكر الحكيم.

قال تعالى: «وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».[1]

يقول الياقوتي: “إنّ من يقرأ القرآن الكريم يجده يدعو دائماً إلى صنع السلام، والسعي إلى الصلح والتسامح، ملحّاً على إشاعة هذه الفضيلة في المجتمع الإنساني كله، لا فرق في ذلك بين المؤمن بدعوة الإسلام وغيرِ المؤمن بها”.[2]

ومما يؤكد أن الأصل في العلاقات هو السلم، أن حالة الاحتراب طارئة تُمليها ظروف معيّنة، جعلها الخطاب القرآني موضَّحة المعالم مُفَصَّلة، حتى لا يحدث التباس بين القتال الذي تقود إليه الأنانية والشح وما يوحيه الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، الراغبان في تسعير نيران الحروب من جهة، وبين الحروب المشروعة والتي لم يُشَرِّعْها القرآن إلاّ دفاعاً عن النفس أو دفعاً لفساد.

وقد كرّس القرآن لهذا التوجه بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».[3]

يقول ابن عاشور في الحرص على إقامة علاقات سلمية مع الآخرين ولو كانوا غير مسلمين: “فهم وإن كانوا كفارًا يعاونون على ما هو بر، لأن البر يهدي للتقوى، فلعل تكرر فعله يقربهم من الإسلام”.[4] وأساس هذا التعاون أن يتضافروا على دفع الاعتداء وإقامة الحق، وإحلال ما يسمى بالتعايش السلمي، وهذا التساكن مطلوب في كل صوره حتى تختفي روح التناحر والنزاع.

ومما يؤكد أن السلم هو الأساس والأصل وأنَّ الحرب طارئة قول الحق سبحانه: «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا».[5]

والحال أن هذه الآية ناطقةٌ بوضوح، ومبينةٌ  بأن سبب القتال دائماً هو المنافحة عن النفس، وأن هذا السبب يسقط بمجرّد توقف العدو عن القتال وطلب السلم، حيث يستدعي الواجب الديني في هذه الحالة التوقف عن مقاتلته، لأن الله لم يعطِ الإذن بالقتال إلا للدفاع، فإذا لم يكن هناك عدوانٌ من طرف الخصم فلا سبيل إلى تحويله إلى عدو، وتحويل التعامل معه إلى ساحات معارك.

وبطبيعة الواقع، فالمتشددون يرون، بخلاف ما ذُكِر، أن القتال فرض عين على المسلم بمجرد التقائه بكافر أو مشرك، مهما كانت الظروف. غير أن واقع العلاقات العالمية الراهنة يكرّس التوجه السلمي الأول، ولا يترك مجالاً لتحقّق التوجه الثاني العدائي.

ولم يقف الآيُ الحكيم عند شرعنة القتال في حالة الدفاع عن النفس فحسب، بل تضمّن آيات تؤكّد أن السلم هو “الأصل”، وأن الحرب مجرّد حادث طارئ، وينبغي التخلص منه ومن تبعاته بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، وهذا هو الغالب في كل بقاع المعمور.

ذلك، أنّ الله لم ينه المؤمنين عن مقابلة البر بالبر والإحسان بالإحسان فحسب، بل تخطى ذلك إلى الأمر بالابتداء والمبادرة بالإحسان والبر والعدل والإنصاف. ولعل هذا هو الذي تنحو منحاه البلدان المسلمة في الزمن الرهن.

من هنا، بالذات، جاء الوصف القرآني للرسول بأنّ إرساله جاء رحمة للعالمين، وليس لمجتمعه فحسب.[6]

هذا بعض مظاهر السبق الذي خوّله القرآن الحكيم للسلم على الحرب والعراك، باعتبار السلم هو الأساس الأوّل كما سبقت الإشارة.

أمّا الحرب،  فقد وقع فيها ما لم يكُن في حُسبان العرب عند نزول القرآن، وقد كانوا في الجاهلية قبائلَ مُحارِبةً تعيش على الحروب، وعلى الكرّ والفرّ وتتغنى بهما، وتَنْظُمُ فيهما الأشعار،[7] وتتباهى فيها بفروسية شُجْعانِها وضَراوتهم، التي كانت قبل نزول الرسالة الخاتم زائدةً عن اللزوم.

وبخلاف ذلك، كانت السِّلْمُ عينَ السِّلْمِ دائما وأبداً، في مجتمع لم يكن التطوُّرُ يعرف طريقَهُ إليه إلاّ لِماماً، حتى أنّ بعض قبائل العرب في الجاهلية كانت تختلق الحروب لكي لا يكبر أطفالُها في بحبوحة الرَّغَدِ خشية منها على فقدان فحولتهم ورجولتهم التي ينبغي أن تكون طاغية كما كانت تقتضي ثقافةُ البدو آنئذ.

بيد أن هذا الهَوَسَ الرجوليَّ المفرطَ لم يكن يُعَتِّمُ على خصال الفرسان التي اشتهر بها عرب الجاهلية كنصرة المستضعَف، وحفظ العرض، وصون الكرامة… والأكثر من ذلك كله، الاشتهار بكرَمٍ تتخطى شهرته الآفاق.[8]

من الأكيد أن القرآن الحكيم لم يَحْتَفِ بالحروب، وإنما اعتبرها وسيلةً من وسائل التدافع بين البشر، بالمفهوم الذي يجعل الحرب خادمة للسلم وللتقدم والتطوّر،[9] وتَعامل معها بكونها استثناءً بين الناس، ولا ينبغي أن تقوم إلا وفق قواعد محددة، وشروط صارمة تجعل ضررها ينخفض إلى أقل مستوى ممكن.

إن ما جاء من أوامر عسكرية في القرآن كانت له سياقاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في عصر الرسول عليه السلام، وهذا لا يعني بأن النص القرآني نص تاريخي كما يدّعي البعض، ولكنه نص حيوي خالد عابر للزمن يحتاج إلى بصيرة ثاقبة، وعقل متدبّر، للاستفادة منه على اختلاف الأزمنة والأمكنة.

وقد حرّض القرآن على إحاطة الحرب والجهاد بشروط صارمة تكاد تُفقدها ضراوتَها وتقلّص من أضرارها، كتحديده لسُبُل التعامل مع الأسرى، الذين أمر بالإحسان إليهم، وبالتماس الأعذار لتبرير تسريحهم بمجرد ما تضع الحروب أوزارها.[10] بل قد غيّر القرآن مفهوم الحرب وبدّل طبيعتها وحوّل أهدافها من التناحر على مراعي الغنم والإبل، أو النُوق الشادرة، أو على موارد المياه والآبار العذبة، ليصير القتال بعد التنزيل الحكيم مشروعًا لنُصرة الله ورسوله، وانتصارًا للمستضعفين في الأرض، ومقاومة للذين يصدون الناس عن دين الله ويعتدون بغير حق، بمعنى أنها صارت وسيلة اضطرارية لـ”الدفاع عن النفس”، وبالتالي من الواجبات الدينية.

إنّ هذا شكّل مبرِّراً جديداً للحرب لم تكن العرب تعرفه من قبل، وعُرْفاً حربيّاً بدا مستغرَباً عند بَدْوٍ أفنوا أعمارهم في القتال حول متاع الدنيا الزائل فحسب. وقد نص القرآن على واجب الدفاع عن النفس من خلال نهيه عن مهادنة أو موالاة من يُقاتل المسلمين في دينهم ويخرجهم من ديارهم، فكان ذلك بالتالي، بمثابَةِ أمرٍ بمهادنة وعدم مقاتلة من لم يقاتلْهم من الناس عامة.[11]

إن المقاتل المسلم الذي آمن بالله ورسوله مطلوبٌ منه، في آيات القرآن الحكيم، أن يقاتل بوسائل أغلبها سِلميّ، من أجل هدف مختلف عما تعوَّد عليه، وهذا الهدف الجديد ليس تحصيل منفعة دنيوية، وإنما هو منفعة أخروية تتمثل في استحقاق وعد الله ورسوله بجنات عرضها السماوات والأرض.

جاء في حديث لابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: “اخرجوا بسم الله، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع “.[12]

لقد احتاج هذا التحول الجديد إلى معالجة قرآنية مكثفة عبر آيات متكررة، حتى يرسخ في سيكولوجية المقاتل العربي أن يُحارب، فقط، الذين يُبادِرُون إليه بالعدوان، وهو الذي كان في أغلب فترات تاريخه يقاتل من غير سبب أو مبرِّرٍ يستحق أن تُزهَق من أجله الأنفس.

ولترسيخ هذا التوجّه العادل والمشروع في خوض الحروب، لم يأذن الله لرسوله، ولمن كان معه من المؤمنين، بمحاربة الكافرين إلاّ بعد أن تمادى هؤلاء في تقتيل المؤمنين الأوائل دون أيِّ رَدِّ فعلٍ مماثل من هؤلاء، وقد كانوا يتجرّعون كل أصناف الأذى وهم صابرون ما لم يأذن لهم الرسول بوحي من الله بالدفاع عن أنفسهم، إلى أن نزلت الآية 39 من سورة الحج. [13]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

– مصدر صورة الواجهة: الجزيرة نت.

[1]  الأنفال – 61.

[2]  “المرتكزات الأصولية لجماعات العنف”، د. محمد مصطفى الياقوتي، وزير الإرشاد والأوقاف السابق في السودان وعضو هيئة علمائها.

[3]  ىالبقرة – 208.

[4]  “التحرير والتنوير”، محمد الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس 1984، 87/6.

[5]  النساء – 90.

[6]  الأنبياء – 107: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ».

[7]  يصف امرؤ القيس جواده في معلّقته، فلا يجد غير ساحة النزال فضاءً لذلك الوصف فيقول:

       مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ  معاً   *   كجلمود صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

[8]  وصل كرم الطائي إلى قيصر الروم واستغرب الأخير من شدة هذا الكرم. وكان قد سمع أن للطائي فرساً أصيلة، فأرسل إليه رسولاً يطلب الفرس. فاستقبل حاتم الطائي الرسول، لكنه لم يكن يملك أغناماً، ولم يتمكن من الحصول على شيء يكرم به الضيف. فقام الطائي بنحر الفرس وجهّز له الطعام. فلمّا حدّث الضيف وعرف أنه رسول القيصر جاء لأجل الفرس، قال له حاتم: “ليتك أعلمتني، فقد نحرت الفرس لك”. فقال له الرسول: “والله لقد رأينا منك أكثر مما سمعنا”.

[9]  الحج – 40: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ».

[10]  الحديد – 21: «سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».

[11]  الممتحنة – 9: «إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

[12]  “مسند الإمام أحمد بن حنبل”، رقم الحديث: 2625.

[13]  الحج – 39: «أذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى