دراسات وأبحاث: ماذا نعرف عن “المعرفة” في الإسلام؟ (مغرب التغيير – الدار البيضاء 4 فبراير 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 4 فبراير 2024 م.ع.و.
يبدو أننا لا يهمّنا، في هذا المقام، التعريف الفلسفيّ للمعرفة، ولا التعاريف السائدة والتي تهيمن عليها أدبياتُنا السياسية والإيديولوجية والثقافية ونحوها، وإنّما الذي يهمّنا، فحسب، هو التعريف الذي يقدّمه الإسلام، في إطار إعادة تشكيل فهمنا لهذا “الإسلام”، باعتباره الدّين عند الله ولا دين غيره، لكي نفهم ما معنى أن يكون الدين واحدًا أوحدَ، وفي الوقت ذاته جامعاً لنبوءات ورسالات تتعدّد وتختلف حمولاتُهَا المعرفية وشِرْعاتُها وأحكامُها ومناهجها بين العصر والآخر، وبين الأقوام المتلقّية.(1)

إن أساس المعرفة في الإسلام هو إدراك متلازم لكل من الحقّ والباطل، ولكل من الحلال والحرام، ولكل المتضادّات المندرجة في نفس السياق المزدوج، والذي تحكمه الثنائية الأساس: “النّور والظلمات”.
لنتأمّل هذه المقولة طويلاً، لنكتشف كيف أن المعرفة تحتاج دائماً وأبداً إلى وجود الشيء وضدّهِ، والفعل ونقيضه، والظاهرةِ وضدِّهَا، والفهم والفهم المضادّ… إنّ الحارَّ يُعرَف به الباردُ، والمظلِمَ يُعرَفُ به المضيءُ، والخشِنَ يُعرَف به النّاعِمُ، والجور والبغي يعرف بهما العدل والإحسان… والعكس صحيح في كل الثنائيات المتعارضة.
إن هذا يجعل المعرفة قائمة، بالوجوب وبقوة الأشياء، على التمييز والفرز بين المتناقضات أو المتضادّات، والتّعرّف على ما قد يحدث بينهما من تقاطع أو تصادم أو تماسّ. ولنضربْ مثلاً على هذه السّمة المعرفية فنقول: إنّ التمييز بين لون وآخر يناقضه أو يعارضه يتطلب التّعرّف على كل منهما في ذاته، ثم في علاقته بالآخر، وإنّ التمييز بين حالات مزج وخلط بين اللونين يقتضي اللجوء إلى عمليات عقلية وتقنية كيميائية وفيزيائية ورياضية تتطلب هي الأخرى جملة من الوسائل والآليات… وبهذا تكون المعرفة، تلقائياً، منتجة لوسائلها وأدواتها، على يد الإنسان بطبيعة الحال، وبواسطة العقل.
إنّ هذا يجعلنا لا نقبل أيّ معرفة عاجزة عن إنتاج آلياتها وأدوات سَبْرها ووسائل السير في دربها إلى نهاياته. مثال هذا النوع العاجز من المعارف، ذاك الذي يقف عند ما أنتجه السابقون من الوسائل والآليات والمفاهيم، ويكتفي بذلك فلا يُنتج ما يناسب وضعَه القائمَ وعصرَه وأسئلته المتغيّرة وقضاياه الجديدة. ومثاله أيضاَ، من يكتفي باستهلاك إنتاجات الآخرين المعرفية دون اكتساب القدرة على إنتاج ما يناسب من المعارف ثقافته وخصوصياتِه وانتظاراتِه.
إنّ المعرفة بوظيفتها الأساسية السّالف ذكرها، والقائمة على الفصل بين “النّجديْن”، تحيلنا على الهدف الأساس والوحيد، الذي من أجله، فقط لا غير، خلق الله سبحانه الثقلين (الإنسُ والجانّ). ذلك، أن المعرفة تصير في ضوء هذه المهمّة الشمولية (التي هي حمل الأمانة) فعلاً من أفعال “العبادة”، وتصير، بل قد كانت كذلك دائماً وأبدا، ذاتَ هدفٍ محدّدٍ بالغ الجلاء، ألا وهو الفصل بين الحق والباطل، وبين الحقيقة والوهم، في كلّ ما يصدر عن الإنسان والعقل من فكر وقول وفعل، إزاء ذاته وإزاء غيره، وبإزاء كل ما يحيط به من الأشياء والكائنات والظواهر.
وما دامت المعرفة وسيلة لتحقيق هذا الغرض الجسيم (العبادة)، فمن باب تحصيل الحاصل أن تُعنَى بكل ما يشمله الوجود من العوالم والمعالم والأشياء والكائنات، ظاهرها وباطنها على السواء. وهنا يتبدّى لنا جانب آخر من جوانب المعرفة، وهو الخوض في اللاّمرئيات لسببيْن اثنيْن على الأقلّ:
أوّلهما أساسيّ: يكرّسه ورود ذكرها في كتاب الله العزيز وفي كل النبوءات والرسالات المنزّلة. ومن باب كمال المعرفة، أن يتحقق صدقُ الإيمان بما جاء به الأنبياء والرسل، والبحث فيه والتفكّر في عِلَلِهِ ومصادره لتوسيع نطاق المعرفة به؛
وثانيهما موضوعيّ: يتمثّل في اشتمال الخِلقَة الإنسانية (جسد، نفس، عقل، طاقة حيوية) على نفس ثنائية “الظاهر والباطن”، ومن باب كمال استثمار الإنسان لجميع ما وهبه الله تعالى له من القدرات والمواهب، ومن الوسائل العضوية والفكرية، أن يستغل ذلك كلّه في التعرّف على مختلف جوانب وجوده الدنيوي، ومن بينها بالذات، الجانب الخفيّ من الذات، ومن الكون والطبيعة.
إنّ المعرفة، في نهاية هذا المطاف، وسيلةُ الإسلام (الدين) في الفصل بين الحقيقة والوهم أو الأسطورة، والتفريق بين الدين والسحر بمختلف أنواعه وأدواته المتطوّرة في كل عصر، ثم بين أشكال الفعليْن الإنسانييْن الصّالح والطّالح.
فإذا سأل سائلٌ: “فما علاقة هذه المهمّة بالعلم الحديث ووسائله وقيمه الجديدة وابتكاراته؟” فإنّ الإجابة تكون بكل بساطة على النّحو التالي:
“إنّ المعرفة بمفهومها الدينيّ، السّالف ذكره، هي الأوْلَى بأن تقول للعالمِ في كلّ عصر، بما في ذلك العصر الحديث وما يليه، ما ينبغي عليه أن يفعله أو لا يفعله بعلمه وبنتائج هذا العلم، حتّى لا يخرج عن المحجّة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلاّ الهالكون، لأنّه متى زاغ عن هذه الأخيرة فإنه يفقد صفة العلمية بمفهومها الدينيّ، ولا يعود يحمل من العلم إلاّ الاسم”. ودليل ذلك، ما يصدر عنه – والحالة هذه- من إضرار بالذات وبالطبيعة والتوازنات الطبيعية والبيئية والبيولوجية… ولنا في حياتنا اليومية، في عصرنا هذا، أمثلة لا تعدّ ولا تُحصى على هذا النوع من “أشباه العلماء”!
لقد عرّف العلماء الحداثيون المعرفة الإنسانية بكونها “نتاجاً لواقع مادّيّ قائم على صراع المتناقضات” فأفلحوا في الجانب الأخير من هذا التعريف وخابوا في شطره الأوّل المنحصر في الواقع المادّي، ودليل ذلك وقوفهم مشدوهين أمام القدرات العقلية للإنسان، وهي قدرات غير مادية، ومحاولتهم تفسيرها بتشريحهم للدماغ وتحليلهم لأليافه وخيوطه، منطلقين في ذلك من تعريفهم المادّي الوجودي السّالف ذكره، ففاتهم الرّكب ولم يدركوا أبعاد هذه الإشكالية. ولو أنّهم عادوا بالمعرفة إلى أساسها الأوّل (الدّين) لوجدوا أنّ التفسير الوحيد والصائب لتلك المسألة، إنّما هي “النفخة الربّانية” في الخِلْقة الآدمية، وهي النفخة التي شكّلت القفزَة النّوعية الحاسمة وغير المسبوقة، والتي حققتْها الإنسانية خارج وعيها وإرادتها، من “البشر الآخر” أو النيودرتال إلى “الإنسان المكلَّف”، وبدون أدنى سبب أو مقدّمة من الأسباب والمقدّمات العلمية التجريبية والتي يؤمن بها ذلك النفر من العلماء.وهذا بالذات، هو الذي جعل العلماء التجريبيين، قبل داروين وبعده، يحارون في رسم وتخطيط مسار التطوّر والارتقاء البشريَيْن، من حالة الحيوان معتدل القامة منتصبها، إلى حالة الإنسان المفكّر، الواعي، والمكلَّف بحمل أعتى الأمانات وأثقلها وأشدّها امتناعاً عن باقي الخلق كافة.
قد يقول قائل: “إن في هذا الطرح خلطاً بين الدين والعلم أو بين العلم والدين”، وسيكون هذا كلام من يدّعون العلمانية أو يقولون بوجوب عصرنة الإسلام وعلمنته. ويكون الجواب على مثل هذا القول: “بأن هذا الأمر لا خلط فيه البتّة، بل هو مجرّد إعادةٍ للعلم إلى نصابه الأوّل والأساس، والذي يشكّله الدين، وبذلك، يكون العلم مجرّد وسيلة من وسائل الدين، وبالتالي، فلا مجال للقول إنّه قد خُلط بالدين، أو إنه سابق على الدين أو متخلّفٌ عنه، لأنّ الدين بكل يقين مهيمن على العلم بكل المعايير.
ينبغي هنا فقط أن لا نخلط بين الدين ورجال الدين، من الذين قدّموا عنه أسوأ الأمثلة وأصابوا سمعته في مقتل… وهذا موضوع مغاير، يدعو بالتالي إلى مناقشته في مقام ومقال منفرديْن… وللحديث صلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- أنظر كتاب “الإسلام كما هو”.