فكرة وجود “عوالم موازية” لعالمنا: المنظور الديني ونظريات العلم الحديث وفرضياته (مغرب التغيير – الدار البيضاء 17 نونبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 17 نونبر 2023
جاء في الذكر الحكيم، في الآية 12 من سورة الطلاق: «الله الذي خلق سبع سماواتٍ ومن الأرض مثلهن يتنزّل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً».
ليس هناك أفضل ولا أكمل من هذه الآية القرآنية، دليلاً على وجود عوالم غير عالمنا الفيزيقي الملموس. فالخالق سبحانه يخبرنا بأنه خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ، أي سبعاً، وبذلك تكون لكل أرض سماؤها وباقي مكونات محيطها الفضائي والكونيّ مع اختلاف في الطبيعة, وعندما أردف بأن الله على كل شيء قدير، فذلك إشارة إلى أن هذه الأراضي والسماوات ليست منفصلة عن بعضها إذْ لو كانت كذلك لسَهُلَ تنزيلُ الأمر بينها مادام هذا الأمر سيقطع مسافات جغرافية فضائية ليس إلاّ، ولكنها متداخلة فيما بينها وتقوم بينها حجبٌ وحواجز وُجودية غير مرئية كالبرزخ، وهنا بالذات مجال تجلّي القدرة الإلهية.
لقد فطن علماء الفيزياء، نخصّ منهم بالذكر العالم البريطاني “ستيفان هاوكينغ”[1]، إلى أن الأبعاد الزمكانية في الوجود الفيزيقي يبلغ عددها عشرة، وهذا الاكتشاف، الذي أمكن التوصّل إليه بواسطة معادلات فيزيائية ورياضية مختلفة ومعقدة، يُفضي بنا إلى التأكّد من حقيقة وجود “العوالم السبعة“ المذكورة في الآية سالفة الذكر، بحيث يكون توزيعها كالتالي:
– العالم الأوّل: يتشكّل من الوجود الفيزيقي الملموس الذي نعيش فيه بأجسادنا وحواسنا، ويحتكم إلى ثلاثة أبعاد هي “الطول” و”العرض” و”الارتفاع” أو العمق، وينضاف إلى هذه بُعْدٌ رابع لا يزال بعضُه غامضًا هو “الزمن”؛
– العالم الثاني: (ربما هو عالم الأثير) يتشكّل من أرض وسماء ثانيتيْن، فيزيقيتيْن ولكنهما من مادة أقلّ كثافة وثقلاً، وبذبذبات أكثر سرعة من الذبذبات السارية في عالمنا الأول، يحتكم إلى خمسة أبعاد هي الطول والعرض والارتفاع (أو العمق) والزمن، وبُعْدٌ خامس لا يزال لدينا مجهولاً، ويُرَجَّح أن أهل العلم الحديث أمكنهم التعرف عليه ولكنهم يكتمون ذلك؛
– العالم الثالث: يتشكل من أرض وسماء ثالثتيْن، ومن محيط مشابه في تعدد مكوناته لما يوجد في العالمين الأوّل والثاني، ولكنه من مادة أكثر لُطفاً وخفة، وبذبذبات أكثر سرعة، ويحتكم بالتالي إلى ستة أبعاد هي الأبعاد الأربعة الأولى المعلومة مضافاً إليها بُعدان ما زالا مجهوليْن لدينا؛
– العالم الرابع: بنفس الاتجاه نحو لُطف وخفاء أكبر وأعمق، وبذبذبات تزيد سرعتها عن سابقاتها الثلاث، ويحتكم إلى سبعة أبعاد هي الأربعة المعلومة مضافاً إليها ثلاثة أبعاد مجهولة؛
– العالم الخامس: بنفس التدرّج صوب الخفّة واللُّطْف والاحتجاب محتكماً إلى ثمانية أبعاد؛
– العالم السادس: أكثر لطفاً وخفاءً، وبذبذبات أكثر سرعة محتكماً إلى تسعة أبعاد؛
– ثم العالم السابع: وهو أكثر هذه العوالم لطفاً واحتجاباً، وأخفّها تكويناً (فيزيقياً) وذبذباتُهُ أسرع حركة ممّا في العوالم الستة السابقة، وبه يكتمل عدّ العشرة من الأبعاد، والتي لا نتعرّف منها في الواقع سوى على أربعة، وربما توصل العلماء إلى أكثر من ذلك ولكنهم لأسباب كثيرة يخفون الحقيقة.

ويبقى القول، بخصوص هذا الاكتشاف المذهل، إن ثبوت وجود عشرة أبعاد قد صار أمراً مقضياً من الناحية الفيزيائية والرياضية النظرية (انظر كتاب ستيفان هاوكينغ، قصة الزمن بإيجاز) ولكنه على الصعيد التطبيقي والعملي يشكل موضوعاً للنقاش والخلاف والنزاع بين اتجاهين رئيسيين:
اتجاه أوّل: يعتقد بوجود العوالم السبعة في نفس الحيّز الفضائي، بحيث تكون متداخلة فيما بينها ومحاطة بحجب تخفي كلاًّ منها عن الآخر؛
إنّ هذا الطرح يمكن أخذ فكرة مبسّطة عنه بالنظر مثلاً إلى العلاقة بين مكونات العالم الفيزيقي الملموس الذي نمارس فيه حياتنا اليومية (الأرضية)، ومنها عالم الأثير، الذي يوجد في نفس حيّزنا المكانيّ، ولكنه لا يدرك بالحواس وبوسائل الرصد العادية، بحيث نعلم بوجوده ونتعامل مع كائناته الكهرومغناطيسية والإشعاعية من ذبذبات وموجات، ومن فوطونات ضوئية وكهارب في غاية الصغر والاحتجاب، دون أن نستطيع ضبطها بحواسِّنا.
ولو أردنا أن نجد دليلاً على صحّة اعتقاد هذا الفريق لألفينا في النص الديني شهادات وقرائن كثيرة وصريحة، كتلك التي تخبرنا عن الوجود اليقينيّ للملائكة والجان والشياطين؛ أو تلك المتطرقة إلى إمكانية اختراق حواجز الزمان والمكان والنفاذ بذلك إلى أقطار السماوات والأرض، أو الآيات الواصفة لقدرات خارقة يمكن اكتسابها بواسطة “علم الكتاب”، بحيث يكون في وُسْعِ مُكْتَسِبِها أن يتنقّل خارج القوانين المتعارَف عليها للزمان والفضاء المادّيين الملموسين، وينقل معه عبر ذلك المسلك أشياء مادية ثقيلة يفترض بداهة، وعلى سبيل الواقع الملموس، أنّ نقلها والتنقل بها يحتاجان إلى جهد أكبر ووقت أوفر بالحساب الأرضيّ للزمن (انظر قصّة العبد الذي جاء للنبيّ سليمان بعرش ملكة سبأ قبل أن يرتدّ إليه طرفُه)[2]

إن هذا المثال الأخير يفتح أمامنا أفقاً علمياً لا شك أنه كان مُيَسَّراً في الماضي البعيد، ألا وهو إمكانية اكتساب علم يتم به اختراق حجب الزمان والمكان، ولا شك أيضاً أنه من شأنه أن يجعلنا نعيد النظر، من جديد، فيما بين أيدينا من القوانين الفيزيائية والرياضية.
اتجاه ثانٍ: يعتقد بوجود العوالم السبعة، عالمنا الملموس والعوالم الستة الأخرى، ولكنه يرى هذه العوالم متفرقة في الفضاء، ومتباعدة فيما بينها، بحيث يقتضي التنقل إليها القيامَ بأسفار طويلة وممتنعة قد لا يكون في الوسع تحقيقها، لأنّ المسافات المفترضة والفاصلة بين كل عالم وآخر تعدّ بعشرات أو مئات أو ربما آلاف السنوات الضوئية، بدليل أننا لا نراها بالعين المجردة ولا بوسائل الرّصد المتاحة، مع العلم بأن هذا الواقع يفترض، إذا صحَّ، تنقلاً بسرعة الضوء (360.000 كلم في الثانية) فضلاً عن افتراضه قطع المسافات المذكورة في آلاف أو ملايين السنين، الشيء الذي يستحيل تحقيقه لسببيْن جوهرييْن:
– السبب الأوّل: لأن السفر أو التنقل بسرعة الضوء تقتضي التخلّص من الجسد المادّي الثقيل والكثيف، وامتطاء مركبة ضوئية لا جسم لها هي الأخرى ولا وزن ولا كثافة، وهذا يحيلنا على وسيلة تنقل مستحيلة بحساباتنا الفيزيقية والرياضية الوضعية والراهنة؛
– السبب الثاني: لأن عمر الإنسان لا يحتمل القيام بأي سفرة من ذلك النوع شديد الطول، اللهمّ إلاّ إذا افترضنا أن المسافر يركب وسيلة نقل خارقة السرعة ويمارس فيها حياته، ويتناسل فيها ويُعَقِّب الخلَف تلو الخلَف، بحيث يبدأ زَيْدٌ الرحلة ويُنهيها حفيده المليون، أو حفيدٌ آخر أكثر قُرْبًا أو بُعداً ونزولاً في سلسلة النسب. وهكذا تُنظَّم الرحلاتُ إلى العوالم الأخرى كما لو كانت هي الحياة الإنسانية برمّتها: يبدأ شخص ما السفر، فإذا به يهلك أثناءه، وتهلك بعده أجيال كثيرة قبل أن يَكْتَمِلَ المشوار على يد أحد الأحفاد بعد آلاف السنين، وهذا أمر عبَثيّ، ولا يجوز أن يأخذ به أيّ عاقل.
غير أن هناك، كما في السبب الأوّل، فرضيةَ اختزال المسافات واختصارها، ربّما تستند على الاختلاف الكبير بين الزمن الأرضيّ والأزمنة الكائنة أو الجارية خارج منظومتنا الشمسية.

فمثلاً، قد يكون هناك مستوى من البُعد عن المنظومة الشمسية يكون اليوم فيه بالآلاف السنين بالحساب الأرضيّ، وهذا يفسح المجال للمسافر عبر الفضاء الكونيّ كي يقطع في أيام، أو أشهر فضائية معدودة، مسافات يقتضي طيّها فوق أرضنا ملايين السنين، وهذا أمر وارد من الناحية النظرية، ولكنه عملياً في شبه استحالة.
ونعود إلى موضوع العوالم الأخرى، والتي نسمّيها “عوالم موازية”، فنُعيد القول إنّ الآية القرآنية التي افتتحنا بها هذا المقال تدلّ دلالة قوية على أنّ هناك، في الوجود الفيزيقي، وهو الوجود المتعلق بالحياة الإنسانية على الخصوص، سبعة أشكال وجودية مختلفة. وإذا أردنا الزيادة على ذلك بأن نحكم على هذه العوالم بالتوازي، أي بالتداخل أو التخلّل المحكوم بالاحتجاب المانع للتشابك والتصادم، فإننا سنجد بغيتنا في النّص الديني نفسه، حيث تدلنا آيات غير قليلةٍ على صحّة هذه العلاقة المتداخلة بين العوالم المذكورة.
فمثلاً، تدل الآيتان 169 و 170 من سورة آل عمران[3] على وجود الذين جاهدوا بأنفسهم في سبيل الله في أرض من الأراضي أحياء يرزقون، وبالتالي فهم يمارسون مستوى أرقى وأنقى من العيش شبيهاً بما سبق أن مارسوه في الكوكب الأرضي، أو في الحياة الأرضية الملموسة والمدركة بالحواس الخمس، ودليل ذلك نجده في الآية 25 من سورة البقرة، والتي تصف ما يجده المؤمنون في العالم الآخر بكونه شبيهاً ومثيلاً لما كانوا يجدونه من قبل في حياتهم الأرضية من النّعم والمُتع الحسّية، مع فارق ضروري يقتضيه اختلاف أشكال المادّة ونوعية الوجود وطبيعته في عالمهم الجديد[4].
وعلى سبيل المثال أيضاً، نجد الآية 95 من سورة الأنبياء دالَّةً بصريح القول على وجود علاقة التداخل والتخلّل بين عالم وآخر من العوالم الأرضية السبعة، حيث تخبرنا بأن “الفجاج الأرضية”[5] ستفتح عند اقتراب الساعة، فإذا بجنس يأجوج ومأجوج يَنْسِلُون من كل حدب وصوب، أي يظهرون بغتة في كل مكان وكأنهم يمرقون من منافذ خفيّة موجودة في كل جهة. إنّ هذا الوصف القرآني البليغ والدقيق يفيد بوجود تلك الكائنات في عالم جدّ قريب من عالمنا، بل يتداخل معه ويتخلّله من وراء حجب كونية لا نعلم طبيعتها والقوانين المتحكمة فيها، وهو ما تؤكّده قصّة النبيّ ذي القرنين، الذي مكّنه الله في الأرض فتنقل عبر فجاجها وعوالمها المختلفة، حتى إذا أقام سدّاً من النحاس والقِطْر دون الكائنات المذكورة (يأجوج ومأجوج) جعل بينها وبين الوجود الأرضي الملموس حجاباً سميكاً لم تَعُدْ تتأتّى رؤيته، ولم يعثر عليه أحد من العالمين، ولكنه يمنع التواصل بين عالَمنا وعالَم تلك الكائنات، حتى إذا انفتح عند اقتراب الساعة، صارت العلاقة بين العالمين مباشِرة وبدون وسائط ولا مسافات، وإذا بالكائنات المذكورة تظهر هنا وهناك فجأة ومن غير وسيلة نقل معلومة.
والحال أنّ التقدّم التكنولوجي الذي يشهده العصر الراهن قد فتح أمام إنسان اليوم سبلاً شاسعة ومتعدّدة بفضل اكتشافات واختراعات عالم السيبرنيتيكا (عالم المعلوميات الافتراضي وشخوصه الإلكترونية والرقمية)، حيث صار في وسع الممسك بأدوات هذه التكنولوجيا أن يبعث في الفضاء كائنات ضوئية أو كهرومغناطيسية (تقنية الهولوغرام) تظهر وتختفي فجأة وبحسب الرغبة، لكونها مصنوعة من مادة أثيرية أو ضوئية قابلة للتشكيل وللتحكّم بواسطة أجهزة خاصة. وهذه، وإن كانت مصنوعات ضوئية أو كهربائية أو إشعاعية، فإنها تقدّم لنا مثالاً حيًّا عن الفكرة المطروحة أعلاه، وخصوصاً، عن إمكانية وجود مجاليْن وجودييْن داخل حيّز واحد، بحيث يفصل بينهما حجاب كهرومغناطيسي أو إشعاعي أو ضوئي خفيّ يمكن اجتيازه متى توفرت الوسيلة إلى ذلك.
غير أن الحديث عن عوالم موازية، أو باطنية، أو غير مرئية، من شأنه أن يتفرّع بنا إلى مجالات وجود متعدّدة ومختلفة، أو قد تكون مجرّد أسماء لنفس المسمّى، من قبيل: العالم الباطني، والعالم الكوكبي، وعالم العقل أو عوالمه، ونحو ذلك من الأسماء والمجالات التي تستحق أن يُخصّصَ لها حيّز من البحث، من أجل إلقاء المزيد من الضوء على ظاهرتَي التعدّد والاختلاف القائمتين في هذا الكون المتعدّد والفريد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير.
[1]Une Brève histoire du temps, Stephen HAWKING (Auteur), Isabelle Naddeo-Souriau (Traducteur), Ed. J’ai lu, Paris 01/08/2007.
[2] – «أنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إليْكَ طَرْفُكَ» (النمل- 40).
[3] – «ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون* فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هو يحزنون».
[4] – «وبشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا رزقنا من قبل وأوتوا به متشابهاً».
[5] – «حتى إذا فتحت ياجوج وماجوج وهم من كل حدب ينسلون».