
مغرب التغيير — الدار البيضاء 10 أبريل 2024
إلحاقاً بمقالات سابقة حول الثقافة، ثمّ حول اللغة، يبقى السؤال مطروحاً حول العلاقة التي تربط بين هذين العنصرين اللذين تجمع بينهما أواصر الأمومة والبنوّة… فكيف ذلك؟
إن من أبرز ما يُلفت انتباه الباحث والدارس في مجال تدريس اللغات على الخصوص، كل اللغات بلا أدنى استثناء، ذلك الارتباط الوثيق، الذي يمكن وصفه فعلاً بميثاق الأمومة والبنوّة، بالمعنى الذي يفيد أنّ اللغةَ ما هي إلاّ ابنةُ بيئتها الإنسانية، الاجتماعية والثقافية، وبتحصيل الحاصل، ابنةُ الإطار الحضاري الواسع الذي نشأت فيه ونمت وتطوّرت في أحضانه، مواكَبةً مع نموّ وتطوّر مجتمعها وأحوالِه وعلاقاتِه وقضاياه، ومع تَطَوُّرِ “جَدَله الذاتي”، الداخلي، الذي يؤدي إلى كل ما يحدث داخل الثقافة ذاتها واللغة المنبثقة عنها من تحوُّلات وتغيّرات متوالية؛ وكذلك الأمر بالنسبة لـ”جدله الخارجي”، الذي ينشأ عن علاقاته بغيره من المجتمعات والثقافات واللغات على مختلف الأصعدة والمستويات، وفي مقدمتها أصعدة السياسة والدبلوماسيا والتجارة والصناعة والخدمات… إلى غير ذلك ممّا أنتجه العقل الإنساني من نُظُم العلاقات والمعاملات على مرّ العصور.

إن اللغةَ إذَنْ، أيَّ لغة من اللغات، لا يمكن فصلُها عن مهدها وسَكَنِها بل عن رَحِمِها الثقافي، الذي وُلِدَت داخلَه وتطوّرت لتُصبحَ وسيلتَه الخاصةَ به في التعبير، ويكونَ هو ذاتُهُ مِشْتَلَها هي الأخرى لإنتاج نَبْتات مختلفة ومتناسلة من المعاني والدلالات.
على هذا الأساس، فإن الباحث والدارس لا يسعهما، أثناء تَطَرُّقِهما بالبجث والدراسة لأي لغة من اللغات، إلاّ أن يُعيرا التفاتَهما واهتمامَهما للعنصر الثقافي الذي تمثِّله تلك اللغة وتعبّر عنه، والذي تستمدّ منه ومن قضاياه اليومية كل ما يَتَفَتَّقُ فيها من كلمات واصطلاحات لغوية جديدة تقتضي الضرورة إنتاجَها لتدل على معانٍ، جديدة هي الأخرى، لم تَعُد الكلماتُ والاصطلاحاتُ السابقةُ والقائمةُ تكفي للدلالةَ عليها.
نَخلُصُ من هذا بالمناسبة، إلى أمرٍ في غاية الأهمّية، وهو أن فكرة “الترادف” لا أساس لها من الصحة في كل لغات العالم، إذْ لا وجود لكلمتيْن تؤدّيان نفس المعنى على الإطلاق، وهذه حقيقة ينبغي الوثوق بها ما دام ابتكار كلمات جديدة لا يتم إلا اضطراراً عندما تصبح الكلمات القديمة غير قادرة على التعبير عن أمر غير مسبوق. مثال ذلك، الاضطرار إلى ابتكار فعل الإقمار “أقمرَ” بمجرد هبوط المركبة الفضائية أبولو 11 المأهولة على سطح القمر، لأن الكلمة التي كانت تشير إلى هبوط الطائرات على سطح الأرض لم تعد تفي بالغرض.
إن الثقافةَ إذَنْ، واللغةَ المنبثقةَ منها والمعبِّرةَ عنها، تشكلان معاً كياناً واحداً ومُوَحَّداً مترابِطاً يستحيل تفكيكه، فهو بمثابة النفس والحواس في الكيان الإنساني، بحيث تشكّل الثقافة نفس ذلك الكيان، وتكون اللغة حواسَّه التي يمارس بها حياتَه وعلاقاتِه مع غيره ومع محيطه، ويعبّر بواسطتها عن قضاياه وانشغالاته وانتظاراته. وبذلك تكون اللغة شاهداً مَوْثوقاً على وجود الثقافة حيّةً متفاعلةً وقادرةً على تَبَادُل الأخذ والعَطاء مع غيرها من الثقافات واللغات الإنسانية.
انطلاقاً من هذا الجانب المَفاهيمي، الذي يصعب الاختلاف حوله، يكون الأستاذ المدرّس لأي لغة من اللغات مدعُوًّا، بل مُجبَراً، على إيلاء بالغ الأهمية للثقافة التي تنحدر منها وتعبّر عنها تلك اللغة، إلى جانب إلمامه بلغة المجتمع الذي ينتمي إليه تلامذتُه.

ولتقريب الفهم وتيسيره حول هذه العلاقة، نقول على سبيل المثال لا الحصر:
إننا حين نتناول – مثلاً – لغة تنتمي إلى بلد أو مجتمع لائكي أو علماني، ثمّ نشرع في تدريسها لأطفال مجتمع آخر مُتَدَيِّن، أو مُفْرِطٍ في تَدَيُّنه، فإننا سنصادف صعوات شديدة في إقامة توافُقٍ بين كلمات واصطلاحات وتعبيرات يراها أهل تلك اللغة عادية ويسيرةً ومبسّطة، وبين أفكار ومعتقدات المتلقين أو آبائهم، الذين قد يجدونها مخالفةً لقناعاتهم وعاداتهم، وبالتالي لثقافتهم، وربما وجدوا فيها محاولةً لإدخال تعديلات أو تغييرات مقصودة أو غير مقصودة على النمط التربوي الذي اختاروه لأطفالهم أو متمدرسيهم.
والحال أن الآباء، والحالة هذه، قد يجدوا في كلمات واصطلاحات لغة التدريس الأجنبية مساساً بعقيدتهم، وتهديداً للمسار التربوي لأبنائهم، الذي اعتادوا عليه وتعايشوا معه حتى صار جزءًا لا يتجزّأ من ثقافتهم الجمعية، وأصبح بعضاً مِن خصوصياتهم الاجتماعية والثقافية، فضلاً عن الرباط الإثنولوجي القائم بينهم وبين لغتهم الأم، والذي سيحاولون حمايتَه بمختلف الوسائل من ما قد يعتبرونه غزواً ثقافياً تمارسه عليهم لغة التدريس الأجنبية وثقافتها الأمّ.
إنّ هذا نشاهده ونسمع به باستمرار من خلال ما يُنشر من التعاليق والمواقف ذات الصلة بهذا الموضوع، بغض النظر عن درجة صوابه أو بُطلانِه.
وكتقريب لفهم هذا الاختلاف: نُلفِتُ النظر إلى أن استعمال اصطلاح الربوبية مثلاً (الرب) السائد في المجتمع العلماني أو اللائكي الذي تنتمي إليه لغة التدريس، بدلاً من اصطلاح الألوهية (الله أو الإله) المستعمل لدى مجتمع الأطفال المتلقين، المتديِّن، قد يثير تَصادُماً فكرياً ثقافياً يستطيع أن يُفسِد السير العادي لهذا البرنامج التدريسي برمّته، علماً بأن الاصطلاح الأول يشير إلى الرب الخالق دون أي علاقة بالدين أو الاعتقاد، بينما الثاني يشير إلى العلاقةِ بين الإلهٍ المعبودٍ وعِباده الذين يرونه ربّاً خالقاً وإلَهاً مقدَّساً في آن واحد.
هذا مجرد نموذج وحالة من بين نماذجَ وحالاتٍ يصعب عدّها وإحصاؤها تستطيع، إذا اجتمعت وتضافرت، أن تقيم هوّةً عميقةً بين لغة التدريس الأجنبية والمدرّس من جهة، والتلاميذ وآبائهم ومجتمعهم من جهة ثانية، وربما تقيم بتحصيل الحاصل حاجزاً يصعب تجاوزه أمام المدرّس بالذات، الذي سيجد نفسه في مواجهة نمطيْن ثقافييْن متقابليْن أو متنافريْن قد يصعب عليه إيجادُ الوسيلة إلى التوليف بينهما حمايةً، في آن واحد، للخصوصيات الثقافية لكل من لغة التدريس وثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه المتعلّمون.
من هنا يتضح بجلاء مدى أهمية العنصر الثقافي في تحديد أنجع الأساليب في تلقين لغة من اللغات الأجنبية للفئات المستهدَفة، ومدى ضرورة توسيع المدرّس لمداركه ومعارفه بخصوص الثقافة والمجتمع اللذيْن تنتمي إليهما لغةُ التدريس، وكذلك بخصوص مجتمع المتلقّين وثقافتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير.