المعرفة الإنسانية: مفاهيمها وإشكالياتها وصعوبة استيعاب أسرارها لدى أكثر الناس!! (مغرب التغيير – الدار البيضاء 18 شتنبر 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 18 شتنبر 2024
جاء في الذكر الحكيم:
«فَإَقِمْ وَجْهَكَ للِدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ التِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» (الروم – 30).
لو نظرنا بتدبُّرٍ فيما تخبرنا به هذه الآية، لوجدناها تنبّهنا إلى عنصرين متلازميْن هما: “الدين” و”الفطرة” وأن هذا الأمر يتعلق بواجب مزدوج يمكن النظر إليه من خمسة أوجه:
أوّلاً: هناك أمر صادر من الله تعالى إلى نبيّه، وإلى جميع أفراد أمّته من خلاله، معاصرين وأخلافاً. وهذا وجب الوعي به على هذا النّحو، حتّى لا يقول أحد إنّ الخطاب موجّه إلى النبيّ وحده فحسب، وبالتالي فهو وحده المعنيّ بما جاء فيه من التفاصيل.
ثانياً: إقامة الوجه للدّين، أي الإقبال عليه بجميع تعاليمه وأحكامه وأوامره ونواهيه، فلا يؤخذ ببعض ذلك مع ترك بعضه الآخر، ولا يُلجأ إليه في حالات معيّنة دون باقي الحالات والأحوال؛
– ثمّ الاتّصاف أثناء الإقبال الكلّي على الدين بصفة الحنيفية. والحنيفية في اللسان العربي تعني عدم الثبات وعدم الاستقامة إلاّ على الفهم الأصوب والأحنف. والمتدبّرون يعلمون بأن النّص المنزّل يشتمل على الحقائق الثابتة والأحكام المطلقة، وبأنّ فهمنا نحن لذلك، وتأويلنا له على صعيد الواقع والتجربة المعاشة، هما اللذان يتّصفان بصفة النسبية وبالحركية صعوداً ونزولاً وفي مختلف الاتجاهات، بحسب ما نكون عليه في كل عصر من العلم، وما نتوفّر عليه من وسائل البحث والفهم وأدواتهما، وبحسب ما يُعرض علينا في معاشنا وعلاقاتنا ومعاملاتنا من الإشكاليات والقضايا المتغيِّرة باستمرار.
ثالثا: إنّ تلك الصّفة، المتمثّلة في التّبدّل والتحوّل والتطوّر نحو الأسلم والأصوب، تعتبر فطرية خلق الله تعالى جميع مخلوقاته على نسقها الأساس. فكل شيء هالكٌ، بمعنى أن كل شيء متنقّل وصائرُ في ذاته وفي ما حوله ومَن حولَه من حال إلى حال وسائرٌ بذلك إلى زوال، ما عدا وجه الله.
إننا لو نقّلنا نظرنا- رصدًا ًومعاينة ًوفحصاً وتأمّلاً- في كل ما حولنا لوجدناه على نفس الفطرة المذكورة، وذلك منذ بداية الخلق إلى نهايته المحتومة، والتي هي الهلاك بعد طول جَعْلٍ وتَحوُّلٍ ٍوتَطوُّر.
رابعاً: إنّ تلك الصفة أيضاً، لا تحتمل أيّ تبديل، إذ هي من كلمات الله سبحانه، وكلماتُه حقّ، أي حقيقة ثابتة، وبالتالي فالتغيير والتبديل قائمان في الأشياء ولا تبديل لهما في ذاتهما إذ هما دائمان في كل الكائنات.
خامسا: إنّ إقامة الوجه للدين بالخضوع لسنّة التبدّل والتطوّر نحو الأفضل هي “الدّينُ القيّم”، الذي يجهل معظم الناس اشتماله على الخصائص والصّفات المذكورة والقائمة على “دوام التطوّر”.

لنر الآن ما الذي يسعنا استخلاصه من هذه المعطيات:
– إن أفضل استثمار لتعاليم الدين وأحكامه لهو الاستثمار المستند إلى مرجعية الفطرة الأولى. وهذا معناه أن الفطرة في جميع الأشياء والكائنات وفي جميع الأمور المخلوقة إنّما هي الأساس الصحيح والقويم لكل ذلك. وما دامت الفطرة متمثّلة في قابلية كل الأشياء والظواهر والكائنات وكذا العلاقات القائمة فيما بينها للتطوّر والصيرورة، فمن باب إقامة الوجه للدين، بوصفه ديناً قيّماً، أن لا نمنع تطوّر الأشياء والأحوال (بما فيها أشياؤنا وأحوالنا وأشياءُ الغير وأحوالُهُ) وأن لا نضع أي نوع من العراقيل أو المثبطات في طريق ذلك التطوّر. بل إنّ هذا يوجب علينا أن نسعى في التغيير والتّطوير كلما توفّرت الشروط الزمانية والمكانية والموضوعية لتحقيق ذلك، مادام ذلك من سنة الله التي لا تبديل لها، وما دام متحقّقاً سواء أردنا ذلك أو أبيناه، وبالتالي، فمن الأفضل والأمثل أن نقبل به ونسعى إليه حتّى نستفيد منه بدلاً من الاصطدام به.
– إنّ الاتّصاف بالحنيفية لا يكون اعتباطياً، بل وفق شروط تتحدّد على ضوء الأرضية العلمية والمعرفية التي نتوفّر عليها. فمثلاً، لا يعقل أن نسعى في عملية تطوير مبنية على شروط تتوفّر لدى غيرنا وليس لدينا نحن بوصفنا المعنيين الأوائل بالتطوير المطلوب. وهذا الوضع الغريب، وغير الطبيعي، نجده عند كلّ مَن يأخذ تجاربَ الغير فيعيد إنتاجها لديه، لمجرّد نجاحها في بلاد ذلك الغير، بالرغم من اختلاف الظروف والبنيات والمفاهيم بين صاحب التجربة وبين مَن يُقلّدُهَا. فهذا السلوك الاتّكالي لا يمكن إدراجه في خانة الحنيفية لِمُجرّد كونِهِ تغييراً وتطويراً نحو ما نعتقده صالحاً أثناء التخطيط لعملية النقل والتقليد.
إنّ هذا يردّ على كل المتغرّبين، الذين يعتقدون خطأ ً،أو يدّعون، الالتزامَ بسنّة التطوّر والتّغيير، فيصفون معارضيهم بكونهم معارضين للتغيير ذاته، مع العلم بأن موضوع المعارضة ليس التّغيير والتطوير لذاتهما، بل ما يجيئان به في مثل هذه الحالة من الصّيغ المنقولة والمقلَّدة والقادمة علينا من بلدان ومجتمعات لا تجمعنا بها أيُّ قواسم مشتركة، من عقيدة وثقافة، ومن ظروف ومقدمات ومفاهيم ونحوها.
إنّ القول ـ أيضاً ـ بالتّأصيل وبالسّلفية، بالمعنى الذي يفيد الإبقاء على الأحكام التي أصدرها السّلف، قولٌ مغلوط ٌومرفوضٌ ولا يستحقّ الاعتداد به ولا حتّى الانشغال بالردّ عليه. ذلك أنّ الفهم السليم للسلفية وللأصولية ينبغي أن يقوم على الاقتداء بما كان عليه ذلك السّلف، وبما كانت عليه قدراته على المبادرة والحسم، وعلى الجهر بالحقّ في جميع الأحوال والمواقف، وليس الاقتداء بما كان السلف يصدره من أحكام أو يستنبطه من فواعد هي بناتُ عصرها وليس أكثر.
إنّ من أراد أن يتّصف بالتّأصيل النّافع، وغير المتعارض مع فطرة الله التي فطر عليها جميع خلقه، فما عليه إلاّ أن يجمع بين مطلبيْن اثنيْن حاضريْن في هذه الحالة:
– مطلب التحلّي بما تحلّى به السلف من الإيمان والصدق والكفاءة والقدرة على إتيان الفعل الصالح والنافع والحاسم، مع الاجتهاد في ذلك بالتلاؤم مع العصر وقضاياه ونوازله؛
– ومطلب مسايرة فطرة الله، كما فهمناها أعلاه، وكما هي فعلاً: توازنٌ وتطوّرٌ وصيرورةٌ إلى ما شاء الله، مع العلم بأن ذلك السّلف تقيّد بها في اجتهاداته وفيما أضافه من إنتاج الغير، عندما ترجم عن حكماء اليونان والفرس والرومان وغيرهم، إلى الحصيلة المعرفية للأجيال التي سبقته، وفي طليعتها، الجيل المعاصر للرسول. فعلينا أن نفعل مثل ما فعل فننتج ونأخذ ممّا أنتجه غيرنا في عصرنا، في إطار الحفاظ على الثوابت الإسلامية بلا أدنى تفريط فيها.
إنّ في هذا، أيضاً، ردّاً على كل الذين يدّعون بأنّ الأصولية والسّلفية وسيلتان للرجوع إلى الفطرة والالتزام بها والحفاظ عليها. فهؤلاء يدخلون في زمرة «أكثر الناس» الذين جاء في الآية ذاتها أنّهم لا يعلمون أنّ “الدّين القيّم” مشروط بالحنيفية، أي بالخضوع لسنّة الله التي لا تبديل لها في خلقه – كما تقول الآية نفسها- والتي تقتضي استمرارية التطوّر والصيرورة في الحال والمآل، وتلك هي الأصولية الحق.
إنّ علينا أن لا نفاجَأ بجهل أغلب النّاس وأكثرهم بهذه الحقيقة عن الدّين القيّم، وقد أخبرنا القرآن الحكيم بهذا حتّى لا يفاجئَنا، وحتى لا يشكّل لنا عامل إحباط، بل يشكلّ لنا بخلاف ذلك دعوة ضمنية إلى بذل الجهد، والمثابرة عليه، من أجل نقل تلك المعرفة إلى أفهام الأغلبية غير العالمة، فنكون بذلك بالذات، مقتدين بالسّلف الصالح من حيثُ اجتهادُهُ في القراءة وفي استنباط الأحكام والخلاصات، ومن حيث كدُّهُ في التّبليغ على مختلف الأصعدة وفي كل الاتّجاهات وبالوسائل المتاحة في زمانه.
إنّ قراءتنا للتعبير القرآني البليغ «وَلَكِنّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» ينبغي أن تكون إيجابية، بالمعنى الذي يجعلنا نفطن إلى نبرة الحسرة الكامنة في ذلك التعبير «وَلَكِنَّ»، فنعمل جاهدين على نقل ما نستخلصه، بوسائل بحثنا وفهمنا المتطوّرة، من النتائج المؤيِّدة لحقيقة الدين القيّم، إلى أكبر عدد من الأكثرية التي لا تعلم.
إن أولى المعارف التي تكون لدى الإنسان (والعقل) بالفطرة، والتي يتحقق بها كونُه مسلماً بالخِلْقة، هي “التمييز بين الحركة والسّكون”، أي بين التّغيّر والثبات، وبالتالي، بين الأحوال المتعاقبة على الذات والمحيط كلّه، والتي تؤكّد بأنّ كل شيء يتغيّر ويتطوّر ويصير من حال إلى حال دون أدنى استثناء لأي شيء أو كائن أو ظاهرة. وهذا في حدّ ذاته دليل قاطع على أن خالق الأشياء والكائنات والظواهر ثابت ولا تبديل فيه ولا تغيير ولا تطوير ولا حنيفية، لأنه كامل بذاته، وإنّما التبديل والصّيرورة صفتان من صفات النقص، فسبحانه وتعالى عن أي نقص.
صحيح إنّ الهدف من الوجود الأرضي هو العبادة لله الواحد الأحد، ولكن هذه العبادة لها أوجه وأشكال تتعدّد وتتنوّع بتعدّد العابدين واختلافهم واختلاف حضاراتهم وثقافاتهم، كما لها مراتب ودرجات تتعدّد وتختلف هي الأخرى داخل الفئة أو الثقافة الواحدة… وذاك موضوعٌ آخر!!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير / مصدر صورة الواجهة: Ra2ed.
أنظر أيضاً “الإسلام كما هو” دكتور محمد ع. و.