القرآن والمنظومات الكونية: عالمية الخطاب القرآني وتوجّهُهُ للناس كافة (مغرب التغيير – الدار البيضاء 21 أبريل 2024)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 21 أبريل 2024
إن القرآن، بتصديقه لما بين يديه من الرسالات والنبوّات السابقة على نزوله وهيمنته عليها، قد بصم على كونيته وشموليته، وبالتالي على أهليته لاستيعاب كل المنظومات الوجودية (الملائكة والإنس والجن، والحيوان والطير والنبات والماء والصخر والأفلاك والمجرّات والنجوم والكواكب والأقمار والنيازك والشهب وظاهر الكون وباطنه… الخ) وكذلك المنظومات الفكرية والعقدية العالمية، بحيث تخضع كل هذه بلا أدنى استثناء لله الواحد الأحد، كرْهاً أو طوْعاً، وفق ما جاء به الذكر الحكيم في مُحْكَم آياته.[1]
ذلك أن “خضوع الكَرْه” يجسّده إذعانُ كلّ الأكوان والخلائق لقوانين الوجود الفيزيقي، وفي ظل هذا الخضوع تتحرك المجرّات والنجوم والكواكب في أفلاكها بلا أدنى زيْغ عن مساراتها المحدَّدة بمقتضى تلك القوانين، وكذلك كل المخلوقات غير العاقلة وغير المكلَّفة بلا استثناء.
فالنبات، مثلاً، يُونِعُ ويُزهِرُ ويُعطي الثمار في أوقاتها كما هو مرسومٌ له منذ بدء الخلق، وكذلك الحيوانات والطيور والحشرات والفيروسات والفطريات… كل منها يؤدي مهمته بلا كلل وبلا أدنى تغيير، إلاّ ما وضعه الله في مكوِّناتها من ممكنات الجَعْل والتطوّر، وذاك هو تسبيحها الذي لا نَفْقَهُ منه إلاّ ما يصل إليه العلم على مَرّ العصور، وما نصل نحن إلى تأويِلِهِ في أنفسنا وفي الآفاق، من الحقائق الوجودية، على بساط التجارب العلمية المواكِبَة لتطوّر وسائل العلم وأدواته.[2]
أمّا “خضوع الطَّوع”، فيشخّصه الإنسان والجان، لِامْتلاكِهِما خاصيةً لا يمتلكها غيرهما من كائنات عالمنا المُدْرَك، وكذلك اقتضت المشيئة الإلهية، ألا وهي “حريةُ الاختيار والتصرّف”، و”القدرة على التمييز بين الأضداد”. غير أنّ هذيْن الثَّقَلَيْن، إلى جانب خضوعهما الطَّوْعي، يدخلان بدورهما في تلك المنظومة الكونية والفيزيقية الشاملة ويخضعان لنفس قوانينها العليا والثابتة، السارية عليهما كَرْهاً، خارج الوعي والإرادة، ومِن ذلك كل الأفعال الغريزية.
ولم يَشُذَّ عن هذه المنظومة الكونية، الموحِّدة المسبِّحة بحمد الله في عالمنا، إلا المستكبرين المعاندين من الجن و الإنس، الذين لا يُمَثّلون أمام ذلك الكم الهائل من الخلائق الطائعة الخاضعة إلا كما تمثّلُ قطرةُ حبر أسود في بحرٍ محيطٍ من البَياض الناصع.
لقد أوجد القرآن طرائق عديدة متنوعة لتمكين قارئه وسامعه من استيعاب رسالته، ورؤيته للوجود، ولمسؤولية الإنسان في هذا الوجود. وتظهر تلك الطرائق بكثافة في أول ما نزل من القرآن الكريم. فمنها الاستعارة كوسيلة للتمكين من معان أكثر تجريدا.[3] كما أنّ القرآن الحكيم استعمل “الصورة” (المنطوقة) أيضاً لتكون آية تساعد “عموم الناس” على فهم رسالته الكونية وإيصال معان أكثر تركيبا وتجريدا يصعب الوصول إليها بدونها. ومنها كذلك تداخل الصور وتداخل المعاني التي توحي بها الكلمات لرؤية معانٍ متعددة تعطي فكرة أكثر شمولاً واتساعاً ومتعددة الأبعاد لما يريد القرآن إيصاله.[4]
كما استعمل القرآن لنفس الغرض منبهات لتعديل أو تصحيح المعنى ولتمكين القارئ أو السامع كيفما كانت عقيدته من اليقظة والانتباه إلى حقيقة ومعاني جديدة لم ينتبه إليها أو منعته الغفلة من إدراكها، ومن ذلك استعمال القرآن الكريم للسؤال والتساؤل: «وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّيِن».[5]
واستعمل التنزيل الحكيم قيمة إنسانية كونية هي “القَسَم” لإقناع الناس على اختلاف مشاربهم بصدقيته، ولكي يتسنّى رفع مستوى انتباه المتلقّي وتمكينه من الوقوف على حقيقة ما يدعوه القرآن الحكيم إليه.
يقول ابن القيم الجوزية بخصوص “آلية القَسَم”:
“…والقَسَم نوع من أنواع التوكيد عند العرب، بل هو أجلّها وأعظمها؛ لأنّه غاية ما يبذله المتكلّم من الجهد لتقوية كلامه وتثبيته في نفس سامعه، وليس في المؤكِّدات ما يوازيه أو يقوم مقامه، فهو أقواها على الإطلاق”.[6]
والحال أن “القَسَم” ظاهرة لغوية عالمية، إنسانية وكونية، يتخاطب الناس بها في كل بلاد المعمور، سواء كانوا مؤمنين أو كفاراً، صغاراً أو كباراً، متعلّمين أو جُهّالاً، وبذلك يكون النص القرآني مُخاطِباً هذه الفئات من الناس بلا أدنى استثناء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – الرعد – 15، «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ».
– الإسراء – 44، «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا».
[2] فصّلت – 53، «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ».
[3] أدخل علماء المسلمين في أوج حضارتهم “الاستعارة” في باب البلاغة، وتعمّق فيها عبد القاهر الجرجاني في كتابه “أسرار البلاغة”. كما تحدث أبو الحسن الرماني عن ذلك بإسهاب في مجلده متعدد الأجزاء “صنعة الاستدلال”. والباقلاني في كتابه “إعجاز القرآن”. وقد ربط علماء المسلمين، في القرنين الرابع والخامس الهجري، الاستعارة بالبلاغة، وأرادوا الاستعانة بهذا الربط على الوصول إلى ما سمّوه “إعجازاً قرآنياً”، دفاعا منهم عن القرآن، وهو العظيم الحكيم المبين كما وصفته آياتُه البيّنات.
غير أن الدراسات الحديثة الراهنة والمهتمة بالتعرّف على كيفية نشوء المعارف داخل الدماغ، والتي تتخذ كسبيل إلى ذلك علوما كثيرة مثل علم النفس، والذكاء الاصطناعي، واللسنيات، والفلسفة، والإناسة، وعلم الأعصاب المرتبط بالدماغ… توصّلت من ذلك إلى نتائج تفيد بأن “الاستعارة” هي استعمال يومي في كل اللغات، وأنها تشكل الحجر الأساس الذي يعتمد عليه الدماغ للتعبير عن معانٍ مجردة وأكثر عمقا، وأنه بقدر ما يكون المعنى المجرد مُعقَّداً، بقدر ما يتطلب التعبير عنه مستوىً من الاستعارة أكثر تعقيداً.
[4] يمكن أخذ فكرة حية من سورة “يــس” عن ذلك النوع من الاستعمال بالتمعن في المشهد متعدّد اللوحات، الذي تتعدد فيه الأدوار بين فاعلين كُثْرٍ، في المثل الذي ضربه القرآن بأصحاب القرية إذ جاءها المرسلون بدءاً باثنين، ثم انضم إليهما ثالث، ثم جاء إليهم من أقصى المدينة رابع، والأخذ والردّ بين المرسلين وأصحاب القرية، مما قدّم صورة مركّبة وحية لمشهد مسرحي واقعي يسهل فهم مجرياته على كل فئات بني آدم، الجاهل منهم والمتعلم، والمؤمن والكافر. «وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلًا أَصۡحَٰبَ ٱلۡقَرۡيَةِ إِذۡ جَآءَهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ (13) إِذۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱثۡنَيۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثٖ فَقَالُوٓاْ إِنَّآ إِلَيۡكُم مُّرۡسَلُونَ (14) قَالُواْ مَآ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا وَمَآ أَنزَلَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَكذِبُونَ (15) قَالُواْ رَبُّنَا يَعۡلَمُ إِنَّآ إِلَيۡكُمۡ لَمُرۡسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيۡنَآ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ (17) قَالُوٓاْ إِنَّا تَطَيَّرۡنَا بِكُمۡۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهُواْ لَنَرۡجُمَنَّكُمۡ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٞ (18) قَالُواْ طَٰٓئِرُكُم مَّعَكُمۡ أَئِن ذُكِّرۡتُمۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ مُّسۡرِفُونَ (19) وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (20) ٱتَّبِعُواْ مَن لَّا يَسۡـَٔلُكُمۡ أَجۡرٗا وَهُم مُّهۡتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَآ أَعۡبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ (22) ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً إِن يُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَٰنُ بِضُرّٖ لَّا تُغۡنِ عَنِّي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَا يُنقِذُونِ (23) إِنِّيٓ إِذٗا لَّفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ (24) إِنِّيٓ ءَامَنتُ بِرَبِّكُمۡ فَٱسۡمَعُونِ (25) قِيلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ (27)».
[5] الانفطار- 17 و18.
[6] “التبيان في أقسام القرآن”، ابن القيم الجوزية، تحقيق: عبد الله بن سالم البطّاطي، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، ط1، ص11.
(المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير / صورة الواجهة: الرؤية العمانية).