نظرية الاتصال ونقد علم النفس التقليدي (مغرب التغيير – الدار البيضاء 15 نونبر 2023)

مغرب التغيير – الدار البيضاء 15 نونبر 2023
يقترح توماس إيريك هال T.E.Hall انطلاقا من منظوره الخاص حول مسألة القرب في المسافة بين الأشخاص أو الجماعات، أسلوبا لحساب المسافة بين الأشخاص بناء على الظروف المحيطة بهم، وليس على عدد الأمتار أو السنتيمترات أو غيرها من وِحْدات قياس المكان. ويبيّن، مِن هذا المنظور، كيف أنّ هناك رمزًا أو شفرةً نموذجية يرجع إليها المنتمون إلى نفس النّسق الثقافي سواء إراديًا أو لا إراديًا.

مثال ذلك: إذا جلس شخص على بعد نحو 50 سنتيمترا من شخص آخر،
فإن نوعا من الاتصال يبدأ بينهما قبل أن يتحرّك أحدهما تجاه الآخر أو يبادره بالكلام. وهذه المسافة ذاتها قد يكون لها معنى آخر في ثقافة أخرى مخالفة.
إن هذه التيارات أو الموجات الفكرية، المتنقلة بين الأشخاص القريبين، أو البعيدين من بعضهم، بدون حاجة إلى أي وسيلة ظاهرة أو ملموسة للاتصال، تطرح إشكالية إبستيمولوجية على المُنَظِّرين لحقل العلوم الاجتماعية. بل تقترح عليهم إبستيمولوجيَا جديدة، تقتضي وجود علاقة وثيقة ووطيدة بين العلوم الاجتماعية من جهة، والخطاب الاتصالي والتواصلي من جهة ثانية.
غير أن بعض الباحثين عاب على أخصّائيي العلوم الاجتماعية نسيانهم أو تناسيهم بأن معظم مفاهيمهم في مجال الاتصال لا يشكِّل موضوعا وبالتالي ثمرةً للدراسة، وإنما هو مجرّد كلمات حصلوا عليها من خلال فك شفرات الرسائل الاتصالية.
معنى هذا أن الخلاصات، الناجمة عن تحليل الرسائل الاتصالية وشفراتها المعقدة، لا ترقى أبدا إلى الخلاصات التي يُفترَض جَنْيُها من تحليل الظاهرة الاجتماعية ذاتها، بين المتّصلين أو المتواصلين، أو تحليل مشاعرهم وأفكارهم وما يطرأ عليها من تغيير أو تعديل أثناء وبعد عمليات الاتصال، وكذلك الشأن بالنسبة لسلوكاتهم الفردية والجماعية.
الظاهر أننا هنا أمام دعوة لجعل حقل الاتصال والتواصل همّا اجتماعيا أو سوسيولوجيا، أو نفسيا/اجتماعيا (بسيكوسوسيولوجياً)، والعودة به بالتالي إلى حقل الدراسات الاجتماعية والنفسية، لولا أنه صار بعد ذلك، وكما هو شأنه في الزمن الراهن، “مجالا علميا ومعرفيا وتقنيًا بالغ الاستقلالية والتّميُّز”.
من جهة أخرى، نرى أن “توماس إيريك هال” يلفت نظرنا إلى نسق تواصلي يكاد يكون باطنيا أو جوّانيا، فكيف ذلك؟
إن مرورَ شخص ما بإزاء شخص آخر لا يعرفه، أو سَيْرَهُ أو جلوسَهُ بالقرب من هذا الأخير، يَفترِض قيامَ نوع من التواصل والتعارف بين الاثنين دونما حاجة إلى استعمال وسائل الاتصال والتواصل الملموسة والمعلومة. فلو قال الشخص الأول في قرارة نفسه وهو يرى الشخص الثاني، على سبيل المثال، »كم هو أنيق هذا الإنسان «أو قال »ما لهذا الإنسان يدير لي ظهره«، لكان ذلك اتصالا بشكل من الأشكال. ولو قال الآخر في نفسه: «ما لهذا ينظر إليّ بهذا الفضول «لكان ذلك إتمامًا للعملية التواصلية ذاتها، لكن بدون أدنى قصد لدى الشخصيْن معًا وبدون تعارف بينهما.
إنّ هذا معناه أنّ في فطرة الإنسان نزوعًا إلى غيره، بدافع أو بآخر، يجعله يتواصل معه لا إراديًا حتى في حالة اجتناب الاتصال به أو التواصل معه بصورة إرادية، ظاهرة وملموسة. إننا هنا أمام واقع تواصلي مختلف، يفترض وجود سيّال (فلويد) اتّصالي بين الناس، أو بين الأحياء عموما، يجعلهم “متواصلين رغم أنوفهم” بمجرّد أن يجمعهم نفس الحيز من المكان، أو نفس الظروف أو المتاعب كمخابئ الاحتماء من الغارات الجوية أثناء الحروب، وقد يحدث ذلك حتى في حالة مرورهم أو جلوسهم بالمكان ذاته في فترات زمنية مختلفة.
مثال ذلك:
أنْ يجلس شخص في مكان عمومي، فيتناول فيه طعاما أو شرابا، كما يحدث فوق كراسي وأرائك الحدائق العمومية، وعند انتهائه يجمع المخلّفات فلا يترك أي أثر وراءه، لأنه فكّر أنّ غيره سيجلس بالمكان ذاته، وأنه من غير اللائق أن يفسد عليه راحته ببقايا طعامه وشرابه. بعد هذا، يحلّ شخص ثان أو ثالث أو غيره بنفس الموقع، ويفكّر للوهلة الأولى أنّ من سبقه كان إنسانًا مؤدّبًا ونظيفًا لأنه لم يترك وراءه ما يدلّ على عكس ذلك، أو نجده يفكّر إذا كان الأمر مُخالِفًا أنّ من سبقه إلى ذلك الموقع كان قذِرًا وغيرَ مهذّبٍ أو متخلّفًا، لأنه ترك أشياء تؤْذي غيره وتنغِّصُ عليه راحته.
إن هذا يضعنا أمام فعل تواصليّ في غاية التّعقيد، وربما كانت لهذا الفعل علاقة بإحدى خاصّيات التواصل، والتي نسمّيها بـ”المزامنة والتعاقب”، حيث تصدر إشارة أو رسالة من شخص معيّن، فتصل متأخرة إلى المتلقي وتنشأ بإزائها ردّة الفعل في زمن أو وقت مختلف، وهذا ما ينطبق عليه وصف التعاقب، بالرغم من كون الرسائل في هذه الحالة غير موجهة قصدا إلى المتلقّي أو المتلقّين، وإنما تلقّاها هؤلاء بالفعل، وكانت لهم بإزائها ردود فعل متعدّدة ومختلفة أو متشابهة.
ومن نافلة القول، التأكيد هنا على أنّ الاتصال قائم بصورة ملموسة، وواضحة أكثر، بين الإنسان والحيوان من جهة، وفيما بين الحيوانات وباقي الدّواب على اختلاف أجناسها وفصائلها وعوالمها من جهة ثانية

خلاصة القول، إن نظريات الاتصال والتواصل، تقترح علينا تسجيل ملاحظات في غاية الأهمية والأولوية:
1- إن الاتصال يلامس مجالات علمية ومعرفية متعدّدة ومتنوّعة، حتّى لا نقول إنه يلامس أو يَطال جميع مجالات العلم والمعرفة بلا استثناء.
إننا نجد في الاتصال الْتقاءً أو تقاطعًا أو توازنًا بين الهندسة، والمعلوميات، وعلوم التربية، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والإحصاء، وعلوم الاتصال والتواصل، فضلا عن العلاقة مع الأوساط المهنية والنشاطات الإنمائية، ومع كافة أنشطة المؤسسات السياسية في الدولة، والمؤسسات المدنية لدى المجتمع أو الأمّة. وهذا يجعل من دراسة الاتصال والتواصل مادّة متعدّدة المكوّنات والمجالات والعلائق، كما يجعل لهذه المادة امتدادات شتّى في مختلف اتجاهات العلم والتكنولوجيا والمعرفة.
وليس غريبا والحالة هذه، أن يصير الاتصال في العصر الراهن من أهمّ الفعاليات الدراسية، خاصّة على المستوى الجامعيّ، وعلى صعيد المعاهد والمراكز العليا، والتي تضعُ التواصلَ، جميعُها، في صميم كل ما تُقَدِّمُهُ من خدمات التعليم والتكوين والتأهيل.
2- إن نظريات الاتصال القائمة، تؤكّد لنا بالرغم من تعددها واختلافها، وتَبايُنِها أحيانا، أنّ فعل “اتّصلَ” إنّما يعني تبليغ محتوى معيّن بوسائل مختلفة، ولكنه يعني أيضا، وبنفس القوّة، إقامة علاقات اجتماعية وإنسانية (تواصل).

ونعود هنا مرّة أخرى لنضيف انطلاقا ممّا سلف قوله، أنّ الاتصال وسيلة لإقامة العلاقات المختلفة مع جميع الكائنات الحيّة، عاقلة كانت، بمقاييسنا العقلية والعقلانية، أو غير عاقلة. وبالتالي فإنها تتواصل معنا عقليًا أو بالفطرة أو الغريزة أو بكلتَيْهما معا، أو بطبيعة الشيء غير الواعية، كما يحدث لقطعة مغناطيس عندما تجتذب منك شيئًا حديديًا.
3- إن الاتصال لا يكون ظاهرًا وجليّا إلاّ من خلال ظهور وجلاء وسائله وآلياته. وعدا ذلك، فإنه يكون اتصالاً ضمنيا وبالافتراض، وقد تظهر آثاره واضحة كما هو الشأن بين الكلب أو الحصان وسيّده على سبيل المثال.
4– إن نظريات الاتصال تتطوّر باستمرار، وتبني في الوقت ذاته أشياءَها وموضوعاتها على التحليل الموضوعي لثلاثة مجالات رئيسة هي:
– المجال اللِّسْني Sémiotique؛ المجال الاجتماعي (العلائقي)؛ والمجال التكنولوجي (الآلي، الإلكتروني، الرقمي، الكهرومغناطيسي أو غيره مما قد يُكتشف مستقبَلاً).
كما أن نظريات التواصل تستمدّ مقولاتها وفرضياتها من حصيلة التفاعل بين المجالات فيما بينها. وهذا هو السّر في ظهور التواصل في كل مرّة أو حالة متلبّسا بمعايير أحَدِ هذه المجالات الثلاثة أو بعضها.
- فمرّة يكون التواصل مجرّد ديناميكية لسنية، وذلك عند هيمنة تقنيات التواصل اللّغوي المكتوب أو الشّفوي على مضمون العملية؛
- ومرّة يكون أقرب إلى الظاهرة الاجتماعية، عند غلبة الطابع الإنساني أو العاطفي والاجتماعي والثقافي؛
- ثمّ مرّة ثالثة يبدو التواصل مجرّد آلية تكنولوجية معقّدة، عندما تكون الغلبة والهيمنة لمنهاج نقل المعلومات والرسائل، وليس لمضمونها وآثارها وردّات الفعل الناجمة عنها بين الأطراف المتواصلة.
ومن هنا بالذات، جاء التّعدّد والاختلاف في المفاهيم المؤطرة للدراسات والبحوث في مجالات التواصل، وبالتالي في صياغة فرضياته ونظرياته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قاعة الانتظار، أرشيف مغرب التغيير.